Culture Magazine Monday  30/07/2007 G Issue 209
فضاءات
الأثنين 16 ,رجب 1428   العدد  209
 

الأدب الجاهلي أفسد فيما بعده من أدب
أحمد بن عبدالعزيز المهوس *

 

 

منذ أن اعتمد النقاد المتأخرون على كتب رواة أدب بأقلام رواة أحاديث كما في الأغاني والكامل ومعجم الأدباء ووفيات الأعيان، وذلك بقولهم: عن فلان، أخبرني فلان، سمعت فلاناً، ولم يكن لهم آراء نقدية إلا بالنادر الشاذ، منذ ذلك العهد؛ والنقاد المتأخرون يجترون النقد على تلك الهيئة.

حين يتعصب الرواة للشعر الجاهلي، ويلفظون غيره لفظ النواة؛ فإنهم يتذرعون بحجة تفسير القرآن بالشعر كما عند عمرو بن العلاء والأصمعي وابن الأعرابي وغيرهم، وينددون بالجديد، ويسخرون من المعرض عن ذلك الشعر الجاهلي، كانوا يقبلون على الشاعر الذي يسير في ركب الجاهلي، بينما لا يلتفتون إلى غيره، هذه العقدة لم تنفك حتى اليوم كما في حال الروايات (العقدة والحل)، بل ظل الشاعر يردد: (الأطلال، والدمن، وصبا نجد، والعقيق، وثهمد، وليلى، وسعدى...) وليس للشاعر من الذكر الحسن إلا حين يقلد ويجتر الشعر الجاهلي بما فيه.

هذا الشعر الجاهلي استعمر عقول الشعراء والرواة والمدافعين عنه من حيث لا يدرون، فقد كانوا يسيرون على منواله ونحن لسنا بحاجة إليه، حين جاء العصر العباسي تغيرت الحضارة، لكن الشاعر لم يتغير بل أخذ يصف الرحلة والناقة وما لاقاه من متاعب وصعاب حتى وفد على الخليفة، بينما هو يعيش في نفس بغداد.

نأتي إلى عصرنا الحديث ونجد حافظ إبراهيم يقول في محمد عبده:

بكرا صاحبي في يوم الإياب وقفا بي في عين شمس قفا

يحاكي امرأ القيس، بينما لا صحب، ولا وقوف، ولا دار، ولا أطلال، وإنما التقليد الذي حاربه بعض الشعراء من مثل أبي نواس وأبي تمام وابن الرومي، ولكن لم يعقبوا أحداً بعدهم، فهم معلمون بلا متعلمين، وزامرون بلا مستمعين.

ولكي نجد التعصب ونقف عليه ننظر في قول ابن الأعرابي حين اسلتذ أرجوزة لأبي تمام يحسب أنها لجاهلي فأمر بكتابتها، فلما علم قال: خرق خرق، وهكذا سار المحافظون ضد المجددين على مر التدوين في العصر العباسي يقف موقف التعصب للقديم، ولو جئت إلى التراجم عن الكتب اليونانية تجدهم ترجموا المنطق وغيره دون الشعر، على أن من المعلوم أن الشعر الجاهلي تفوح منه تلك الوثنيات كما اليوناني، بل إن اليوناني أخصب حين ربط خياله بالمجال العلوي محلقاً، فراح ينشد المُثل العليا التي هي في أجواز السماء، بينما الجاهلي كان مادياً حسياً مركباً غير محلل ينظر في الأرض، وقلما يرتئي غيرها، يصف جسد المرأة ولا يصف روحها، يصف الروضة لماماً لأنها أشبهت حبيبته، وكذلك الضبي والمها...، فهو لا يصف الروضة لذاتها، وإنما يجعلها جسراً لمن تيمته حتى الموت.

هذا الشعر الجاهلي سطا على الأدب المعاصر عموماً، فراح العربي يقول: ترك الحبل على الغارب، ولا غارب عندنا، ويقول: أعق من ضب، ولسنا في صحراء جرداء بل في مدن، ويقول: كما تدور الرحى، ولا رحى عندنا، بل عجلة سيارة أو مروحة مثبتة في سقف الغرفة، ويقول: مال بنا الغبيط، ولا يعرف أحد ما معنى الغبيط!!

ويقول: اختلط الحابل بالنابل، ونحن في زمن الأسلحة الأشد فتكاً ، وغير ذلك كثير. وكما كان لسطوة الموضوعات الجاهلية من فخر ومدح وهجاء ورثاء ونسيب، كان هناك استنكار لغيره من الموضوعات والأغراض، ولو فطن القارئ لتسمية الشعر العمودي بهذا الاسم لعلم أن التجديد مستحيل؛ ذلك لأن العمود جلمد صلد لا يلين، فهم لم يقتربوا من الشعر الاجتماعي مثلاً إلا على استحياء، فكان أن تجمد الأدب، وصار الفحل من الشعراء هو من يسير على جادة الجاهليين أسلافه، ومن تنكب لجادة الصواب المزعومة عُدّ مبتذلاً مأفونًا، ولو نظرنا إلى وصف الطبيعة لوجدناه قد ينحصر في الأندلس، لما فيها من أشجار وأطيار، وخضرة منتشرة، لكن هذا الوصف لا يأتي من قلب الشاعر، وإنما من رأسه الذي يعتسف نمط الشعر الجاهلي وما هو عليه من جفوة وخشونة.

حتى اليوم ونحن نستخدم مفردات ليست من طبيعتنا المعاصرة، كان الجاهليون يصفون ما أمامهم بحكم العلاقة المكانية، ونحن نهاجم من يستخدم مفردات عصرنا، فظل الأدب بأنواعه يسير اليوم في نطاق ضيق، يسير بقدم واحدة، هذه القدم قلما تنتج كما أنتج الجاهليون حين كانوا يسيرون بقدمين لا بقدم واحدة.

لو كان زمن الجاهليين حياة دعة وحضارة كما نعيشها اليوم، ونحن نعيش حياتهم من نوق وسيوف ورماح، ومن شظف عيش وجوع وحياة بداوة..، هل نستبدل ناقتنا وفرسنا بطائراتهم وسياراتهم؟ فنصف تلك الطائرات والسيارات كما وصفوها، ونتلذذ بصفة ركوبها كما فعلوا؟ إن رضينا هذا فنحن نصف ما لم نشاهده وما لم نستخدمه، أفلا يكون من الحق ألا نجتر تشبيهاتهم واستعاراتهم ومحسناتهم ونحن نشاهد السيف والرمح والنوق ولم نستخدمها كما استخدموها، إذ حظنا منها المشاهدة دون المعاقرة؟!

- ماجستير في الأدب العربي الحديث


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة