الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 31th March,2003 العدد : 4

الأثنين 28 ,محرم 1424

«شهود على الضفاف»
سعد البازعي*

«شهود على الضفاف» هو عنوان قصيدة لشاعر عراقي فزعت اليه باحثاً عما يمكن ان يقال في هذه الأيام الصعبة. قلت ماذا عساني أن أختار من أمور الفكر أو الثقافة؟ كيف لي أو لغيري أن يتأمل في الابداع بعيداً عما يجري؟ وهل لدى أحد الاستعداد للتوقف أمام عنوان مترف أو مقالة غارقة في الجماليات أو التنظير بينما المشاهد تترى لتغرق الأعين والأذهان في القصف وأحداث الدمار؟ إنه الشعر العراقي إذاً.
«في البدء سمعنا الهدير..» يقول سركون بولص في مطلع النص، مشيراً، في البدء على الأقل الى هدير ليس الذي نسمع هذه الأيام:
في البدء
قبل أن نرى
عندما اصطكت ركب الجبال وانهارت
سدة العالم الخفية:
جاء هادراً
يحمل أبواب البيوت..
الصورة الأخيرة ستوضح أي هدير وهادر هو المقصود في البدء. لكن الشاعر ينتظر الى السطر ما قبل الأخير ليوضح وليعلن للجميع ان ما حدث كان «في صباح الفيضان». ومع ذلك فإن السؤال يظل قائماً: هل الحديث مقصور على فيضان النهر؟ أم أن ثمة فيضاناً آخر؟ نهاية القصيدة تجعل السؤال ملحاً، كما سنرى.
هنا نلاحظ شمولية الدمار: أبواب البيوت، الأشجار المنزوعة من جذورها، أعشاش اللقالق والتوابيت، العربات والخيول. القائمة منتقاة لتبرز مختلف الأحجام ومستويات المخلوقات والأشياء. الكل متضرر، بدءاً بالناس الأحياء في بيوتهم «أبواب البيوت»، ومروراً بالناس الميتين في صناديقهم «التوابيت»، وانتهاء بالطيور، وبالحيوانات. لكن العموميات ما تلبث أن تفضي الى صور أكثر تفصيلا. فالفيضان:
يحمل صندوق حارس تعلوه راية
دولاب عروس له ثلاث مرايا
قبل أن نرى المهد
قبل أن نرى
المهد يجري على الأمواج
والمرأة تسبح وراء المهد عيناها
جديلتها الطافية
الى أن نصل الى المهد والمرأة يظل الانسان حاضراً من خلال أشيائه فحسب «الأبواب، الصندوق، الدولاب»، لكن العروس الغائبة تحضر هنا ما تطارد ابنها الذي تحمله الأمواج، أما كانت تطارد ابنها، فعيناها وجديلتها الطافية مؤشرات موت، ومن الطبيعي هنا أن ترف على صورة المهد والأم صورة قرآنية معروفة، صورة موسى عليه السلام، وقد وضعته أمه في اليوم، لكن المقارنة ستبرز الاختلاف بين المصائر.
تتخذ القصيدة مساراً مغايراً بعد تلك الصورة المؤلمة، إذ يتخلى الشاعر عن وصف المشهد ليبدأ في التعليق عليه:
من يوقف العالم عن الانجراف
أو يسد من أجلنا باب القيامة، بأية صخرة؟
لا أحد.
من يعيد الينا القامة التي تغيب
من يرفع المهد كالطائر من بين مخالب التنين
أو يوصل اليه الأم الغريقة؟
لا أحد..
هذا التوسل المشوب باليأس، هذه الاشارات الى الانجراف والقيامة، هذا كله هو ما يأخذ بالطوفان الى أبعاد تتجاوز السيل الجارف الناتج عن المطر. نحن إزاء اتساع في الصور وفي الدلالات يخرج به عما تتضمن قائمة التفاصيل.
لكن قبل التأمل في تلك الدلالات لننظر في نهاية المشهد. النفي في «لا أحد» يستثني محاولة واحدة:
رجل واحد القى بنفسه لاعناً في التيار
تلقاه النهر الهائج كأنه ذبيحة
صارع قليلاً، صاح مرة
واختفى..
هذه النهاية المأساوية الأخرى هي كل ما هنالك من احتمالات النجاة. لكن النهايات المأساوية نفسها لم تنته بعد، وهي ليست بالضرورة ما ينتج عن الموت:
هذا ما رأيناه في صباح الفيضان
نحن الشهود على الضفاف.
هذه النهاية هي المأساة الحقيقية التي تأخذ بالنص وبنا الى ما يتجاوز الدمار المادي أو الجسدي القريب، الى ما هو أسوأ من الموت. فالسؤال يقوم أولاً عن المتحدث، أو المتحدثين: من هم؟ الاجابة القريبة هي أنهم أهل القرية، أولئك الذين لم يملكوا الشجاعة على النزول لتقديم المساعدة للأم أو للطفل في المهد، أو لينقذوا أي شيء هالك أمامهم. لكن الايحاءات تحمل على ما يبدو ما هو أكثر من ذلك.
في «نحن الشهود على الضفاف» ينصب الشاعر مصيدة لنا جميعاً. فكل الناجين شهود، وكل الشهود عاجزون أو جبناء، كلهم اكتفوا بالمشاهدة، وخافوا من مصير الأم التي اندفعت بغريزتها وحبها لطفلها، أو الرجل الذي دفعته رجولته أو قيمه أو ضغوط الآخرين الى المحاولة كارها «القى بنفسه لاعناً». هنا نستذكر صورة البدء المدهشة، صورة الجبال التي اصطكت ركبها خوفا من الطوفان اذا كان ذلك هو شعور الناس الواقفين على الضفاف؟ إنه العجز الانساني أيضا، تلك الحقيقة التي لا يحب الانسان عادة وهو يتغنى ببطولاته أن يعترف بها لتأتي الأحداث بما يضطره الى ذلك.
نحن بالفعل في مصيدة، نحن والشاعر، مصيدة تضطرنا للاعتراف بهامشيتنا إزاء ما يحدث على الرغم من أهميته الكبيرة بالنسبة لنا. لقد قلت في بداية هذه المقالة: إنني فزعت الى الشاعر العراقي بحثا عما يمكن أن يقال في أيام صعبة كهذه التي نعيش التي يعاني فيها العراقيون داخليا وخارجياً، ولكني أجد الشاعر نفسه بحاجة الى من يعينه. فسركون بولص الذي خرج من العراق منذ العام 1969 ليستقر في سان فرانسيسكو، كما خرج الملايين غيره من أبناء العراق منفيين عن بلادهم، يجد نفسه واقفاً على الضفاف لا يفعل أكثر من مشاهدة ما يجتاح وطنه من طوفانات كثيرة، شاهداً على المأساة عاجزاً عن فعل شيء تجاهها، سوى هذه المواجهة الصريحة للخيبة والانكسار التي يبثها الينا حتى لنكاد نغرق في طوفانها الأشد إغراقاً واجتياحاً من ماء النهر.
قصيدة «شهود على الضفاف» ضمنها بولص مجموعته «حامل الفانوس في ليل الذئاب» «منشورات الجمل، 1996»، ولكن همها الأساس ليس جديداً على الشاعر، ففي مجموعة سابقة هي «الأول والتالي» «منشورات الجمل، 1992» يرسم بولص مشاهد معتمة أخرى من مآسي الحياة في العراق الذي تركه ليشاهده من بعيد وقد احتفظ بذكريات يستعيدها بين الحين والآخر مادة لقصائده. المجموعة الأخيرة المهداة «الى أهلي في أرض الرافدين.. الى أحيائي وأمواتي» تتضمن قصائد يذكرنا بعضها بالقصيدة التي تأملنا من مجموعة «حامل الفانوس في ليل الذئاب»، وأشير هنا الى قصيدة بعنوان «يونس وبئر الرملة» تصف معتوهاً يدخل بيت أرملة في القرية «بحجة البستنة أو حمل المؤونة..» ويحسده رجال القرية لاعتقادهم بأنه على علاقة خاصة مع الأرملة لا يستطيعون هم تحقيقها. فنحن هنا، كما في «شهود على ضفاف»، نرى شهوداً آخرين يتحدثون «بلهجة قانطة بقدر ما هي متواطئة»، أناس يقتلهم الحسد والعجز ولا يفعلون أكثر من تبادل الأحاديث التي تكشف رغبة مشينة وعجزاً عن تحقيق الرغبة في الوقت نفسه.
في مقالة قادمة سأتوقف وقفة أكثر تفصيلا إن شاء الله عند قصائد أخرى من مجموعة «الأول والتالي» يرسم فيها الشاعر مشاهد للمعاناة وشهوداً يعيشونها أو يقفون على الضفاف ولا يفعلون شيئاً.


Albazei53@yahoo.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
المنتدى
كتب
مسرح
وراقيات
ذاكرة
مداخلات
المحررون

ارشيف الاعداد


موافق

ابحث في هذا العدد

للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved