الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 31th March,2003 العدد : 4

الأثنين 28 ,محرم 1424

ذاكرة القبور
قراءة في رواية «الحفائر تتنفس» (12)

* حسين المناصرة:
«قطعا أنني جننت. نظرت إلى باب الحمام بذهول ثم إلى سور الحوش، ثم إلى الضوء المعتم في الركن، كانت جميعها صامتة، أطياف يتآكلها الصمت، جامدة كقبور من دون همس ولا ضحكات».
«الحفائر تتنفس، ص162»
كما يتضح من عنوان الرواية (الحفائر تتنفس) فقد أدخلنا كاتبها (القاص عبدالله التعزي) إلى عالم الجثث وروائحها المختلفة، وأنفاسها المنتشرة في الهواء المغبر، وأشياحها المتناثرة في كل مكان من بداية الرواية إلى نهايتها، بحيث يصعب على قارئ هذه الرواية ان يجد نفسه باستثناء بعض الأحيان مبتعدا كثيرا عن لغة ذاكرة القبورالحفائر، وما تفضي إليه هذه اللغة أو الذاكرة من فجائع الموت والجنون وكوابيس الأحلام، والعلاقات الغرائبية التي تجعل بيئة السرد (البيئة المكية) ممثلة ببيئة بلدة أو حارة «الحفائر» كما هي موجودة في الرواية عالما مخيفاً بل مرعبا للمتلقي لذلك لا أنصح الأطفال على سبيل النكتة بقراءة هذه الرواية قبل سن البلوغ!!
في سياق الرؤية المأزومة التشاؤمية تبدو زمكانية «الحفائر» (بيوتها، وشوارعها، وجبلها، ومقبرتها، وليلها، ونهارها..) قبرا كبيرا مليئا بالقبور الصغيرة المشوهة المعالم، على نحو قول الراوي/البطل (محمود مسعود تكنيري): «من طبع الحفائر ان تحفر لكل حكاية قبرا تدفن فيه، ولا تسمح بأن يوضع لأي منها شاهد قبر يميزه عن غيره، كانت الحفائر نفسها قبرا كبيرا يحتوي على ألوف من القبور الصغيرة التي تبدو كأنها ستستمر في وجودها ما استمرت أسرارها في الكتمان» (ص1011) ففي هذه المقولة اليبابية تتحول الرواية إلى البحث عن الأسرار والعلل وراء تشكل عالم «الحفائر» المشوه، بمعنى لماذا تشوه البطل، في ظل تشوه والديه، وتشوه مجذوب الحفائر، وتشوه العلاقات الخرافية في أحواش المزار و«المزمار»..الخ؟!
في ضوء الإجابة عن هذا التساؤل تصبح الجثث هي الذاكرة التي تولد تنفس الجثث وحصارها لشخصية البطل الذي كانت ولادته بحد ذاتها تدمج بين الموت والحياة معا: «كان حزنا وفرحا ولدا معا، واضطرا إلى ان يتعايشا معا ولدت أنا وتوفيت والدتي في مهزلة الحياة المستمرة ص67) هكذا غدت الجثث تتنفس وتهيم في الأمكنة وتنشئ الحوارات مع البطل، وتتهيأ له حيثما ذهب. يقول عن جثة أبيه: «كانت جثته تتنفس وأجدني أستنشق فراقها فأتنفسها في الليالي الحالكة السواد» (ص67) ويقول عن جثة سراج الأعرج «ترك (سراج الأعرج) جثته تتحرك ببطء نحوي.. يحرك جثته هازئا بي.. تحركت الجثة وكأنها تبحث عن مكان ترتاح فيه وتقلقني.. جعلتني حركتها البطيئة هذه أراقب ماحولي وأشاركه الصمت.. أتخيل هذه الغرفة بمحتوياتها، كأنها قبر فرعوني» (ص24) ويقول في آخر فقرة من الرواية عن المقبرة: «تسلقت سورها.. قفزت إلى الداخل. كانت الأرواح تحلق فوق رأسي كطيور مهاجرة لا وجهة لرحيلها ولا صوت لها ركضت إلى ان وصلت قبره (قبر والده) جلست بين القبور تتداخلني رهبة الموت وصرخات الأموات تزلزل الأرض من تحتي (خمشت) بيدي التراب وأخذت أنبش القبر بقوة والتراب يتطاير حول أنفاسي اللاهثة وأنا خائف أن يموت في القبر أو أجد سراج الأعرج بجواره» (ص190).
إن ذاكرة القبور بجثثها التي تتنفس هي الفرشاة التي لوّن بها «التعزي» بنية الرواية، سواء في رسم الشخصيات، أو وصف المكان، أو حركية الزمن، أو اختيار الجمل اللغوية السردية الكئيبة والحوارية والوصفية القاتمتين أو بناء الحركة والحبكة المفككة في ثنايا التداعي الجنوني.. وخلاصة ذلك كله ما نراه مختزلا في العنوان: «الحفائر تتنفس» أو الجثث التي تتنفس أي تأكيد حضورها المجازي بوصفها البعد المهيمن على فاعلية السرد المتشكلة في الموت بدءاً ونهاية فيصير نهار الحفائر مثل ليلها ملفوفا بسواد كثيف يكفن جثثا تتنفس، وجثثا «تسرح بها تستند إلى صخورها الحارة تبتسم ثم تتوسد التراب الخشن لا تجد أي إنسان يشعر بوجودها غير بعض الأجساد المتفحمة والجلود الجافة المتكسرة الأطراف» (ص85).
ماذا بإمكان البطل المأزوم أن يفعل تجاه هذا الوضع الجنائزي الكابوسي؟ إنه يصلح حالة مرضية، أو حالة جنون مليئة بالرعب الذي يتشكل من خلال العلاقة بالمكان الكابوسي من حوله، بما يحويه هذا المكان من جثث وأسرار وأصوات غرائبية تصدر عن هذه الجثث والأسرار، يصور البطل وقعها المأساوي على حالته الرهيبة هذه، بقوله: «أتكوّم بخوف وهزيمة، والرعب يمزقني، أرهفت سمعي ورحت أتحسس الأصوات البعيدة التي كانت تزيدني رعبا كان يتراءى لي صمت الصخور الصماء صراخاً مفزعاً يحيلني إلى كتلة من لحم مرتجفة لا يسكنها إلا الهلع صار رعبي بحجم الأسرار المدفونة في الحفائر رعبا بلا نهاية» (ص63).
ربما علينا ان نعترف بأن هذا العالم الكابوسي في الحفائر ينبع من حالة البطل النفسية، بوصفها حالة جنائزية، مسكونة بعقد نفسية عميقة التكون في داخله عندما كان طفلا على وجه التحديد إذ إنه فقد حنان الأم فعاش في جحيم قسوة الأب كما سنلاحظ فيما بعد وهذا الوضع النفسي المرضي على وجه التحديد هو البعد المأساوي الذي يجعل البطل ينظر إلى الأشياء من حوله بمنظار سوداوي يختلط فيه الوهم بالحقيقة والاغتراب بالواقع، والاتزان بعدمه، وكأننا أمام عالم غرائبي يتكسر إلى شظايا من الخوف والرعب رغم تماسكه الظاهري. يقول البطل واصفا حاله هذه أيضاً: «يلتبس علي الواقع بخيالات هلامية خيالات أفقد صوابي أمامها، وأعجز عن قبولها، فهي لا تحتمل، أشعر بها تتقدمني وتجاورني مصغية، وكأننا نتحمل معا صراخنا في وجه الأيام خيالات تتمدد ألما يصل إلى ذاكرتي وتتشكل كائنا غريبا يجلس في هذه الغرفة مع جثة سراج الأعرج الدافئة أمامي ألم الخيالات هذه يضحكني بدموع غيمة لها أطراف الدماء» (ص 89).
يبدو أنني سأعتذر عن هذه الاقتباسات الطويلة نسبيا لكن المهم في نهاية المطاف هو ان هذه الاقتباسات تحاول التأكيد على ذاكرة القبور، بوصفها الذاكرة الرئيسة في تشكيل بنية هذه الرواية إلى حد اننا نجد الأحياء أنفهسم يمثلون جزءاً نجده في وصفه لمسيرة العبيد الخرساء ونخاسهم: كانوا يساقون كهزيمة يتقدمهم النخّاس بملابسه المتسخة الأطراف وقد اسودت أظافره بترسب أوساخ تكومت تحتها بدا كأحد القادة المنكسرين قديما متربا، تعلوه صفرة الدهر ينتعلون أحذية مهترئة من الجلد القاسي، مربوطة في منتصف سيقانهم فتصبح أقدامهم محاصرة بأنفاس الجلد الميت المشدود حولها، فيما هم يرتاعون من هذا الموت الحسي الملتصق بأقدامهم (ص7).
وكذلك يتمثل الموت في وصف سراج الأعرج لحياته بوصفها صورة من صور هامش الحياة على ذمة الموت «جسمي يتمايل إلى الأمام وإلى الخلف بتناغم غريب تعودت عليه، أشعر بوجودي المستمر كأن العصور تناقلتني إلى الحفائر رث الثياب منعدم الفهم قليل الحيلة الذي أطلبه من الناس الاستمرار في الحياة ليس مهما هذا الاستمرار أكان بهم أو من خلالهم أو حتى فوق أجسادهم المتعفنة» (ص175).
غدت الرؤية القبورية التي انطلق منها التعزي واضحة من خلال هذه الذاكرة حيث ذاكرة السرد لديه تنطلق من وعي المقبرة ودلالاتها المتعددة من خلال الجثث الآدمية وهي الذاكرة التي ستتجسد واضحة أيضا في حركية بناء الشخصيات الجثثية في القسم الثاني من هذه القراءة.
إن الهاجس الإبداعي الذي بدأت به الرواية وانتهت هو هاجس الموت وأسراره وهو الرغبة المستحيلة الذي يطمح ان يصل إليها الراوي/البطل من خلال فتح الحوار مع انه الميت ليعرف منه أسرار الموتى وخباياهم يقول: «تجتاحني رغبة في ان أتحدث مع أني أسأله هل يعرف شيئا عن موت سراج الأعرج؟ هل رأى العبيد من قبل؟ أسأله عن أمي أسأله عن بيوت الحفائر وسكانها الأموات يجب ان أجده» (ص187) فبهذا الوهم المستحيل تنتهي الرواية كما بدأت، وتغدو الحفائر مقبرة كبيرة مزركشة بقبور صغيرة يتنفسها البطل الراوي مع الهواء المغبر، ويقتاتها مع الأكل الجاف، ويشربها مع الماء المالح، ويفكر بها مع كل فكرة مأساوية تخطر في ذهنه!!
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
المنتدى
كتب
مسرح
وراقيات
ذاكرة
مداخلات
المحررون

ارشيف الاعداد


موافق

ابحث في هذا العدد

للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved