الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 31th May,2004 العدد : 61

الأثنين 12 ,ربيع الثاني 1425

الدكتور عبدالله مناع
شفافية الكلمة: تحدثاً.. وكتابة.. والتزاماً
عبدالمقصود خوجة

إن أصدقاء العمر كثر ولله الحمد، والكتابة عن أي منهم تمثل تحدياً حقيقياً لأنهم في منزلة النفس.. وما أصعب الكتابة عن النفس.. فالمناع (مجرداً من أي لقب) يحمل في إهابه دائماً زهو الشباب، وأصالة ابن البلد، فهو مزيج من الهدوء والصخب.. الفرح الطاغي والحزن العميق.. السعادة والشقاء بما حوله ومن حوله.. إنسان تمور في جوانحه مختلف المشاعر التي لا تخفيها تعابير وجهه أو كلماته.. إذا قرأت كلماته حسبت أنك تسمع صوته يأتيك من مكان خفي.. وهذا ببساطة يعني أنه جوهر مميز في كل حالاته التي تتعلق بالكلمة، لا يماري ولا يجامل ولا يتجمل.. يبحث عن الفكرة الجيدة ويلتقطها من زوايا احترافية قد لا تخطر على بال كثيرين، ثم يصوغها بأسلوبه المميز، ويغدق عليها من ثقافته الواسعة ما يجعلها قطعة أدبية بمواصفات خاصة.. وإذا أمعنت النظر في كتاباته الجريئة تجده مفكراً يحمل هموم أمته ويسعى لإيجاد العلاج الناجع لكثير من أدوائها المستعصية والمستوطنة.
لقد درس المناع طب الأسنان في القاهرة بناء على نصيحة السيدة الفاضلة والدته.. فقد أقنعته بعبارتها الصادرة عن قلب الأم حين قالت له: (يا بني إن الكتابة والأدب ليس بالضرورة أن يتعلمها الإنسان في الجامعة، ولكن الطب لا يمكن لإنسان إلا أن يتعلمه في الجامعة إذا أراد أن يكون طبيباً)، وقد كانت كافية لإقناعه، كما أشار إلى ذلك، فحقق أمنيتها، ثم انصرف للبحث عن ذاته.. وفي مجتمع جدة المنفتح والمتجدد، استطاع أن يواصل عشقه مع الكلمة.. فدخل دنيا الصحافة من أوسع أبوابها، وصعد سلمها بطريقة لم تخل من قفزات غير مستغربة على مفاجآت المناع، وبطبيعة الحال كان كرسي رئاسة التحرير (ساخناً) معه في أكثر من موقع.. وحتى حبره ككاتب ومفكر لم تطقه بعض الصحف، وعليه فإن احتجاب قلمه يشكل خسارة كبيرة للمشهد الثقافي لأننا أحوج ما نكون لكل الأقلام التي تؤمن بالحوار، وتتخذه أسلوباً حضارياً للتواصل مع الآخر بهدوء وعقلانية يمثلان حجر الزاوية الذي ترتكز عليه محاولاتنا المستمرة لوأد طريقة التغييب والتغريب التي اتبعت كثيراً، ولم تؤد إلا لمزيد من العزلة والتشرذم والتقوقع والتشرنق.
أما إذا صحبت المناع مسافراً، فإنه سيأخذك معه إلى عالم الدهشة الذي يسكنه باستمرار.. ولا تستغربوا إذا نسيتم تذاكر سفركم، أو جوازاتكم أو حقائبكم!! لا يهم، طالما الدهشة هي العنصر الحاضر في كل الأحوال، وهي التي تقدح الذهن وتحرض الفكر على خوض مزيد من التجارب لاستخلاص الدروس والعبر.. ولا أخالني أذهب بعيداً إذا قلت: إن المناع زاده كتاب، ومهجعه كتاب، وأول ما تصافح عيناه كل صبح كتابا.. وقد وهبه الله سبحانه وتعالى بصيرة نافذة، وذاكرة نشطة، فهو يقرأ ويقارن ويسترجع مخزونه المعرفي الهائل في لحظات ليبدي رأيه مدعماً بالبراهين في مسألة قد يمر عليها كثيرون دون أن يأبهوا لها، وهذه من صفات القارئ الناقد الذي لا ينساق وراء السطور فقط، بل يغوص فيما بينها وفوقها وتحتها.
وللمناع ذائقة موسيقية مترفة، يستغرق في عالم خاص مع أم كلثوم، وعبدالوهاب، وفيروز.. ويطوف به الشجن إلى حيث لا ندري، ولكن الشيء المؤكد أنه يحلق معها في وجد أحسب أنه يخرج به عن دائرة المألوف والمحسوس.. كما أن ذائقته الفنية تشمل الأعمال التشكيلية بمختلف مدارسها وأنماطها، ولعل مقدمته الشهيرة لكتاب (قصة الفن في جدة) لمعالي الدكتور المهندس محمد سعيد فارسي خير شاهد على سعة أفقه في هذا المجال.. أما مؤلفاته العديدة, فهي تعبر عن فكر مستنير، وتمازج مع مجريات الحياة، وهو في ذات الوقت يتفاعل مع أرض الواقع بصورة عملية، ويسهم في بلورة ما يدور على الساحة الوطنية مما يدعم الاستقرار والتنمية، ويبعد شبح الارهاب والفكر الظلامي الذي يقف وراءه.
وقد استهلت به الاثنينية موسمها لعام 1410هـ 1989م، واحتفت به بتاريخ1 41410هـ الموافق30101989م .. وقد قلت عنه في ذلك الحفل: (إنه المتْعَب.. والمتْعِب.. متعَب بما ينوء به كاهله من تمسكه بمبادئه وأخلاقياته لدرجة أنني أحس بالتعب عنه، ومُتعِب لأننا نحن زملاءه نحس بالالتزام أمام ما نراه من سلوكياته).. وقد أيد أستاذنا الكبير محمد حسين زيدان رحمه الله هذا المنحى بقوله (عبدالله مناع متعب ومتعب.. متعب للذين لا يعرفونه، أما الذين يعرفونه فيرتاحون إليه، ومتعب من الذين لا يعرفونه ولا يريد أن يعرفهم.. هو مثلث العلاقة، صديق لصديقه، خليل لخليله، قليل الأصحاب، لأنه المناع عقل قبل أن يكون عاطفة، لهذا فهو ليس متعدد المراحل، بل هو مرحلة واحدة، التزام واحد، لأن العقل قد يتطور ولا يتغير.. أما العاطفة فيحكمها التغير).
يأسرني في المناع ظرف أهل الحجاز، فهو ابن حارة البحر بجدة، تجذرت الأصالة في نفسه من رجالات توارثوا الفضل كابراً عن كابر، فكان ذلك الأنيق في ملبسه، الهادئ في حواره، الرزين في تعليقاته، المتواضع مع من يعرف ومن لا يعرف القوي في الحق، اللين العريكة مع من يطلب منه دعماً أو جاهاً، الكريم بوقته وماله ومكانته الاجتماعية.. وهذا غيض من فيض صفاته النبيلة.
إن الحديث عن المناع يطول ويتشعب، وهو أهل لذلك وأكثر، إلا أن المقام لا يتسع لكل ما في صدري تجاه هذا المفكر، والكاتب الألمعي، والصحفي الكبير.. سائلاً الله سبحانه وتعالى أن يمتعه بالصحة والعافية، وألا يحرمنا من مشاركاته القيمة التي تشكل رافداً لا غنى عنه في إثراء الحركة الثقافية.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
قضايا
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved