الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 31th May,2004 العدد : 61

الأثنين 12 ,ربيع الثاني 1425

عبدالله المناع.. بين السهل والامتناع!
محمد حمد البشيت *

لم يكن من السهل أن يدرك المرء.. ما يتمنى.. فجل الأشياء لا تؤخذ بالتمني.. تؤخذ بقوة الإرادة والعزم والصبر فقد غضضت الطرف لهذا المثلث (الحافز) للكتابة لانشغالي بالأمور (الحياتية) التي أبعدتني من المشاركة في (دنيا) الصحافة والأدب والتي بقدر ما هي محببة (للنفس) بقدر ما هي متعبة (للقلب) حقاً إنها مهنة البحث عن المتاعب.
وأستدرك وأقول: إنه ليس من السهل العودة للكتابة.. وقد ينقطع المرء عنها سنوات عديدة ثم (بعد) فجأة.. مهما كانت الأماني جميلة.. إلا أن هذه المرة تختلف (الأمنية) في هذا السياق؟
يأتي ذلك للرغبة التي كنت (أضمرها) في الكتابة عن الصحفي الأديب الكبير منذ وقت طويل.. وقد انداحت الأيام والأعوام بحلوها ومرها دون تحقيق هذه (الأمنية) (الدفينة) وقد راودت (النفس) حينما كنت محرراً (بالجزيرة).
حينما دعاني الأستاذ عبدالحفيظ الشمري من باب الزمالة القديمة.. للمشاركة بالكتابة للعدد (الثقافي) الذي سيصدر عن الدكتور عبدالله مناع الكاتب الصحفي الأديب المعروف (إشادة) فيما قدمه ولايزال يقدمه للأدب والصحافة في بلادنا.
قلت في نفسي: هذه المرة أوشك تحقيق تلك (الأمنية) المخبأة أو حسب قول المثل الشعبي الدارج (جاك يا مهنا.. ما تمنى) سعدت بذلك الدفع المعنوي الذي أتاتي من الملحق (الثقافي) كانت دعوته أشبه بالحافز القوي للإرادة والعزم والتصميم في كتابة هذه المقالة (مسدين) لي خدمة مشاركة (الملحق الثقافي) الرائع في الاحتفاء بضيف من ضيوفه من الرواد الأدباء والصحفيين الذين خدموا الصحافة والأدب في بلادنا الغالية.
فقد كان ولا يزال الملحق الثقافي كريماً في عطائه الثقافي للضيوف.. فهم يستحقون ذلك للإشادة بإنجازاتهم الأدبية والصحفية.. في سالف الأعوام وقادم الأيام.
وبما أنها المرة الأولى التي أكتب بهذا الملحق الثقافي.. فإنني (أرجو) أن (تطيب) مقالتي هذه للأديبين الأستاذين إبراهيم التركي وعبدالحفيظ الشمري عن ضيف الثقافي (المناع) الذي لا تزال (قامته) شامخة بعمله وأدبه وصحافته.
كما يحدوني الأمل.. أن تكون هذه المقالة عن المناع الضيف خفيفة الظل ندية الطل صادقة القول واضحة (المعنى) في يوم الاحتفاء به ذلك الفنان الأديب المخضرم الذي تربطه ب(الجزيرة) وشائج الصداقة وزمالة (الحرف).
فالمناع يمتلك رصيداً معرفياً من الأدباء والصحفيين، الذين يقدرونه ويحترمونه رأيه في كافة (الندوات) الأدبية والصحفية التي كثيراً ما دعي للحضور لها.
عرفت الدكتور عبدالله مناع من خلال مجلة (اقرأ) عبر الزميل عمر يحيى سكرتير التحرير كان ذلك بعمارة باخشب المحاذية لمبنى الخارجية القديم حيث كانت إدارة مؤسسة البلاد جريدة البلاد ومجلة (اقرأ) تتخذ من العمارة مقراً لإدارتها أما المطابع فكانت بجوار جريدة ومطابع المدينة بحي الصحافة وحين انتقلت هيئة تحرير المجلة (اقرأ) فقد كانت بتلك (الفيلا) القريبة من مطابع البلاد.
خلال هذه الفترة الوجيزة عرفت الأستاذ (المناع) من خلال تعاوني مع المجلة غير (المتفرغ) كمراسل لها من حائل فكانت التحقيقات الصحفية الفنية وغيرها التي أزود بها المجلة من الداخل والخارج.. هي التي قربتني من رؤية رئيس التحرير للمجلة (اقرأ) الدكتور عبدالله مناع عن قرب.
وفي بداية تعاملي مع (اقرأ) أسرني حب الرجل في لطافته ووداعته وهدوئه. وكلمته الموجزة في النقاش والحوار مع (المحررين).. يتبسط في الحديث يستشير ويشار يأخذ برأي الأغلبية في شؤون المجلة لا يفرض رأيه لا يعرف كلمة (إلا أنا) بالمجلة.. فعندما قدمت اليه أتذكر ذلك جيداً موضوعاً فنياً كان يومها حديث الوسط الفني.
قرأه.. ثم وضعه جانباً على مكتبه كنت أتوقع إجازته أو إعادته لي بالحال مبدياً اعتراضه أو موافقته، ولكنه أرجأه لمدة أسبوع.. وحينما كنت أساله كان (يبتسم) وفجأة، أجازه وفوق هذا وذاك (بقلمه) العذب كتب مقدمته مع (ملاحظة صغيرة) مرفقة مع الموضوع تاركاً الاختيار لي بين المقدمتين فأخذت (مقدمته) ذات العزف الفني المنفرد!
.. وعندما نشر الموضوع.. أدركت سر تأخير نشره.. فقد كان الرجل رائعاً على كل المقاييس ويعرف يومها الشيء الذي لم نكن نعرفه كمراسلين أو محررين عن عملية النشر والخطوط التي يمكن تجاوزها لهذا أو تلك الموضوع!
هذا الرائع عبدالله المناع يملك من الكتابة الفنية ناصيتها.. ما يجعله في مصاف كتاب الفن الكبار أمثال الدكتور حسين مؤنس وأنيس منصور ومصطفى وعلي أمين، ذوو الخبرة الكتابية الفنية الزاهرة في دنيا (الفن) على مختلف (مشاربه).
ربما القليل من القراء الذين يعرفون كتابات الدكتور عبدالله المناع (الفنية) فهو المقل بها ولكنه يمتلك الباع الطويلة في هذا (المضمار) الفني.. الذي قال عنه الدكتور.. رشاد رشدي عميد كلية الفنون الجميلة القاهرية آنذاك (الفن.. للفن).
فحينما توفي الموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب رحمه الله كان لموته ذاك الدوي الكبير في الوطن العربي الذي ترددت أصداؤه حزنا وكمداً عبر القنوات الفضائية والمطبوعات العربية. هذا العملاق (الفرعوني) ذو الروائع (الخالدة) في دنيا الفن والطرب!!
(المناع) انتفض لوعة وكمداً على هذا الصرح الفني الكبير الذي (هوى) فكتب بقلمه أعذب المعاني والكلمات التي جاءت أشد عذوبة من (الشهد) لتكون (بلسماً) شافياً لهذا المصاب (الجلل) وتلك اللوعة والحسرة التي ليست ألمت به وحده.. وإنما ألمت بكل متذوقي الفن (الرفيع) عن هذا الفنان الموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب.
فكان أسلوبه في كتابه عن محمد عبدالوهاب كعادته ذلك الأسلوب السهل الممتنع، الذي يوصل الكلمة للقارئ دون التواء أو(تقعر) وجهامة الكلمة و(المنفرة).. الكلمة الممتعة التي تشد القارئ لتجعله أكثر متابعة للقراءة، دون الإسفاف في الكلام والحشو الزائد الذي لا طائل منه الباعث على الملل والرتابة القراءة للمناع متعة.. رحلة جميلة في مصاحبته في القراءة الماتعة المنيرة الذي يحاول دائماً أن تضيء الدهاليز (المعتمة) ليحسن القارئ وقع خطواته وتداعي أفكاره نحو قراءة (تحرضه) على المتابعة..
إنه في كتابته منيرا (كفنار) جدة عروس البحر الأحمر.. مصدر وحيه وإلهامه!!
وقبيل إصدار كتابه (إمبراطور النغم) كنت قرأت له كتابه (الطرف الآخر).. ولكن ليست مقالتي هذه بصدد القراءة عن هذين المؤلفين.. إلا إذا كان الشيء بالشيء يذكر فإنني أتذكر حينما قرأت (إمبراطور النغم) هاتفته حينما كان يعمل مديراً عاماً لمطابع البلاد واعتقد لايزال.. هاتفته اسأله لماذا لم يوزع كتابه (إمبراطور النغم) في الداخل.. ضحك الرجل ضحكة (ساخرة) ولم يعلق.. وربما علق.. ولكنني لا أود ذكرها هنا لأن الموضوع الكتاب وصدوره مضى عليه سنوات طوال!
فكتابات (المناع) السياسية والاجتماعية والفنية.. تأتي بالتحليل الصادق والرؤية الواضحة.. في سبر أعماق مواضيعه الذي يكتب عنها، مبيناً الشواهد والأدلة لتأتي كتابته ذات المصداقية والشفافية.
يتألق.. ويتأنق في كتابته ينتفي (العبارة) الأنيقة الرشيقة التي تشوبها أحياناً (السخرية) الفكهة. تلك الميزة التي كان يتحلى بها الكاتب القدير عبدالقادر المازني.
اعود وأقول إن علاقة الدكتور عبدالله المناع مع (الجزيرة) علاقة.. حميمية.. فحينما انتقلت (مؤسسة الجزيرة الصحفية) لدارها الجديدة الحالية كان المناع من بين الحضور وكتب مقالته التي كان يود أن تنشر ب(الجزيرة) إلا أن جريدة البلاد وضعت يدها عليها ففي البلاد السنة 64 العدد 14889 الأربعاء 24 ذي القعدة 1417ه أبريل 1997م حيث كانت المناسبة الاحتفال بالمقر الجديد ل(الجزيرة).
يقول المناع بعنوان الجزيرة وخالد المالك وأنا (أحسب أنني لست بحاجة لأن أدفع عن نفسي تهمة (الغرور) أو شيء من دواعيه كما قد يترأى ل(البعض) أو يستفزهم.. عندما أستخدم ال(أنا) في عنوان المقال فلست أول من أستخدم هذا ال(أنا) معطوفة على غيرها كما أفعل الآن ولا منفردة وحدها كما فعل الأستاذ العقاد في عنوان كتابه الشهير (أنا) الذي تحدث فيه عن نفسه وتجربته وقلمه وحياته وبيئته وندوته، فقد استخدم هذا (الأنا) كثيرون قبلي من الكتاب والسياسيين فقد استخدمها وزير الثقافة الديجولي الأشهر (أندريه مالرو) في كتابه الرائع والجميل (أنا وديجول أو السنديانات التي يقطعون) واستخدمها وزير البلاط الإيراني (أسد علم) في كتابه الحافل بالقصص والأخبار والأسرار:( الشاه وأنا)، واستخدمها الروائي الإيطالي (البيرتومورافيا) في روايته العجيبة والمثيرة:
(أنا.. وهو) واستخدمتها السينما الأمريكية في الستينات في فيلمها الضخم الإمبراطور وأنا الذي لعب الممثل العالمي الشهير وقتها (بول براينر) أن استخدامي لهذه ال(أنا) في عنوان هذا المقال. إنما هو للتأكيد على التيار القديم من الحميمية الذي ربطني ب(جزيرة) خالد المالك، وألمع رؤساء تحريرها السابقين الذي جعل فيها أكثر الصحف اليومية مبيعاً بسبقها الخبري وتبنيها لقضايا المواطنين واحتضانها لتلك الطروحات الفكرية والأدبية الجميلة والجريئة والتي كانت تأتي في مقدمتها قصائد ومقالات الشاعر الدكتور غازي القصيبي.. لقد كان مفترضاً.. ونتيجة لهذين التيارين العميقين في الحميمية والتقدير اللذين يصلان ما بيني وبين (الجزيرة) يضاف إليهما مقال (المسائية) الذي أخذ بمجامع قلبي ومحتواه وعنوانه (مالم يؤخذ بالقلم.. يؤخذ بالمشرط) والذي كان تحييه دافئة ودعوة أكثر دفناً.. في شهر شعبان الماضي عبر بوابة (الجزيرة) وفوق صفحاتها وقد وعدت بذلك في رسالتي الجوابية لرجل مؤسستنا الجزيرة الأول الإعلامي والشجاع الكبير بحق الدكتور عبدالرحمن الشبيلي ، الذي جاء إلى موقعه تماماً برئاسته لمجلس الإدارة...
ويصف لنا (المناع) أجزاء الحفل الصحفي الكبير.. بأسلوبه الأخاذ قائلا:( بين (أطلالة) على الماضي و (استدارة) نحو الحاضر قدمت (الجزيرة) في تغطيتها عشارات المقالات بعشرات الكتاب الذين تحدثوا عن (الجزيرة) وهذا البرزخ الهائل الذي تقع فيه بين ضخامة (كمها) وضآلة مردودها لكم تمنيت أن ألتقط من تلك المقالات أهم ما جاء فيها من أفكار تعالج تلك الحالة البرزخية وهي ترمي بثقلها نحو الحاضر والمستقبل. لكن ضيق الوقت والمساحة يحولان دون ذلك.. لاتوقف عند مقالة (خالد المالك) (الجزيرة قنديل ضياء) الذي قال فيه بحذر ورؤية وهو يتحدث عن تجربته وأيامه مع (الجزيرة) وفيها (تعلمت فيها مالم أتعلم من قبل.. وشعرت بسنوات طويلة بالدفء في بلاطها.. وإن صادف ذلك شيئاً من التعب وإن رافق رحلة طويلة كرحلتي مع الجزيرة مالا يتمناه المرء أحيانا).. الخ.
وتمضي الأيام.. وتحتفي (أثنينة) الأستاذ عبدالمقصود خوجة بالأستاذ خالد المالك بعد عودته لرئاسة التحرير بالجزيرة، وفي ذلك المساء الاثنيني الذي شهد حضوراً وافراً من الأدباء والصحفيين.. كان من بينهم عبدالله مناع الذي جاءت كلمته بعد الأستاذ عبدالله الجفري قال المناع: (معذرة وإن لم اكن مستعداً على ذلك القدر أو على هذا القدر الذي حدده الأستاذ عبدالله الجفري ولكنني منذ قدرت أن أشارك في هذه الأمسية واحتفي مع المحتفين بالصديق العزيز الأستاذ خالد المالك، فقد كنت اتأمل ماذا سأقول والحقيقة أن الأستاذ خالد المالك رئيس تحرير الجزيرة العائد إليها بعد سنوات طويلة والذي صنع منها صحيفة كبرى حقيقة في زمانه كنت أتصور الأستاذ خالد ربما كانت هذه رؤياي فيه أنه صحفي قادر على أن ينشئ صحيفة ناجحة في أي وقت وفي أي زمان، وإنه إن لم يكن كاتباً عظيماً صاحب اسم كبير في دنيا القلم والكتابة فانه صحفي كبير، ولم يكن على اؤلئك الذين ينشئونها كتاباً عظاماً فالصحافة تحتاج إلى صحفيين عظام وقد كان خالد المالك أحد هؤلاء الصحفيين العظام الأستاذ خالد المالك كياسر هواري في الصحافة اللبنانية ليس كاتباً عظيماً ولكنه صحفي عظيم قادر على أن ينشئ صحيفة أو مجلة في كل يوم.. الأستاذ خالد المالك قدم خلال سنوات عمله الأولى (الجزيرة) صحافة ترضي القارئ وقد كان القراء يبحثون في ذلك الزمان عن الأخبار التي تهمهم واستطاع خالد أن يقدم لهم الأخبار التي تهمهم، كان مدرسة مصطفى وعلي أمين تلك المدرسة التي تعتمد على الشعاع وعلى كتاب الآلة وعلى موظفين المكاتب الصغار للحصول على أهم الأخبار فكان دائماً يحصل على أهم الأخبار التي يبحث عنها المواطنون.. الخ.
إنني لازلت أهتدي على (فناره) موضحا بعض كتابته في البلاد.. مثل مقالته الموجه للأستاذ عبدالرحمن العبدالعزيز الشبيلي (بعنوان دبلوماسية الكتابة.. ودبلوماسية.. الاعتذار) بالبلاد العدد 14826 الأربعاء 20 رمضان 1417هـ الموافق 26 يناير 1997م يقول..(في ختام رسالته الضافية الشاملة والجامعة على قصرها.. الحائزة بين الاقدام والتراجع والواقفة على شفير الأسى أمام هوة الأحزان والكروب المدبرة والمقبلة.. والواعية بكل ما جرى ويجري التي تشبه ذلك النمط الرفيع من رسائل (إخوان الصفا) والتي قيل في بعضها (إن الشريعة طب العامة.. وإن الفلسفة طب الخاصة) قال الصديق الأستاذ عبدالرحمن العبدالعزيز الشبيلي الذي لم تعرفني به سنوات عمله الدبلوماسي على طولها كما عرفتني به وكأجمل وأعمق ما تكون (المعرفة) مقالاته التي فاجأ وامتع بها الجميع على صفحات الشرق الأوسط أيام مباحثات السلام الضائع مع محادثات كامب ديفيد كيف وضعها وزير خارجية الرئيس السادات محمد إبراهيم كامل.. التي لامس فيها عبث العابثين بمقدار هذه الأمة وتواطؤ المتواطئين على مصائرها.. فلاقى ما لاقى حتى قال في مطلع رسالته (لو كان سهماً واحداً.. لاتقيته.. ولا كنه سهم ثاني.. وثالث) لقد هتفت يومها مرحباً به.. أين كنت وأين كان قلمك يا هذا الشبيلي الرائع؟..
قضية الكتابة هي قلم رصاص + أوراق بيضاء ومن السهل تسويدها بأي قلم وبأي كلام ولكن هناك دماء تنزف بحرارة فمن الذي يقرأ ما تكتبه تلك الدماء..)؟!
فيرد عليه الأستاذ عبدالرحمن العبدالعزيز الشبيلي بالعدد رقم 14857 يوم السبت 22 شوال 1417هـ الموافق 1 مارس 1997م بعنوان (أخوان الصفا).
أخي الدكتور عبدالله مناع قرأت رسالتك بل غرقت بها، ولم ينقذني عنها سوى روعة اختيارك، ما ورد على لسان أحد أبطال (أصداء السيرة الذاتية) للمبدع الكبير ( النويبلي (1) نجيب محفوظ عندما سئل كيف تنتهي المحنة التي نعانيها..؟
فقال (إن خرجنا سالمين.. فهي الرحمة.. وإن خرجنا.. هالكين فهو العدل) عزيزي عبدالله كم مضى على هذا القول؟ وهل تعتقد أن جماعة (درويش) خرجوا سالمين أم تراهم هلكوا؟ سأجعل نفسي مكان ذلك (الدرويش) واقفاً في موقفة فهل ترغب أن اجيب نيابة عنه..! نعم عزيزي عبدالله لقد خرجنا (بالعدل) والحمد لله ولهذا نعيش! نعم أنا (درويش) الذي كان اسمه قبل أن يخرج من المحنة بالعدل (عبد ربه التائه).
استمرت كتابة الرسائل فيما بينهما على (حلقات) في جريدة البلاد.. وقد كانت كتابة أدبية (جسورة) لهذين الكاتبين عبدالرحمن العبدالعزيز الشبيلي وعبدالله مناع.
وما أكثر كتاباته الأدبية والسياسية والاجتماعية. إنها (اشبه) إن جاز لي أن (أشبهها) بالحديقة الوارفة الظلال التي تضم بداخلها كافة الورود والأزهار والنباتات الجميلة (الفواحة) بعطر الشذا.
إنني في كل يوم (أربعاء) (أدلف) إلى هذه الحقيقة..(المناعية) مستأذنا ذلك (البستاني) الحاذق أن يمهلني بعض الوقت للتجول بحديقته بين هذه الأصناف النادرة من ورود وزهور للاستئناس بها.
(كنت أجول) بحديقته (الأربعمائية) أمشي (الهوين) اقصد مقالته.
اقطف هذه الزهرة الجميلة (الكلمة) وأستنشق عبيرها الذي (ينفثه) يراع (قلمه) ذلك لعمر القلم (الجسور) الذي لا يعرف (التحلق) والمداهنة (إنه يحلق بقارئه إلى (عالم) أكثر (رحابة) بمفردات جميلة تطرب لايقاعها (الإذن) قبل أن تصافح العين مستقرة (بالعقل) تاركة إبداعاً أدبياً لا يمكن أن تمحوه العين مستقر (بالعقل) تاركه إبداعاً أدبياً لا يمكن أن تمحوه عاديات الأيام.. نطالع ذلك في كتاباته عن اللورد عزيز ضياء وعن السير محمد حسن فقي فعن الأديب الكبير عزيز ضياء يقول عنهم بمقالته (اللورد) (عزيز ضياء).
هذه (الكلمات) ومهما طالت.. فإنها تضل أقصر منه، وهذه (المقالة) مهما كبرت.
هذه (الكلمات) ومهما طالت ..فإنها تظل أقصر منه وهذه (المقالة) مهما كبرت
فإنها تبقى أصغر منه، فهو الأطول قامة والأكبر حجما منهما.. كما كان الأطول قامة والأكبر حجماً بين زملائه واقرانه من أبناء الجيل الثالث من (الرواد) في فجر حياتنا الثقافية ب(حجم) عطائه و (تنوعه) ب(اختلافه، وتمييزه.. وبذلك المستوى الرفيع من الأدباء..اسلوبا وفكراً الذي بدأ به حياته الأدبية وظل محافظا عليه حتى غدا جزأ من قوام قلمه وسمة من سماته.. الخ.
ففي ألقاب (اللورد.. والسير..) يقول عن هذه التسميات لست مسؤولاً عن هذا العنوان (السير.. محمد حسن فقي) الا بقدر اعترافي ب(صلاحية) ل(مضمون) هذا المقال.. وأفكاره وإيحاءاته وبواعثه.
ف(السير) هي كلمة (إنجليزية).. و(لقب) بريطاني كانت تمنحه بريطانيا أو سيدة البحار التي غرقت في بحر (قناة السويس) ل(البارزين) والمتميزين والموهوبين من ابنائها الذين خدموا (التاج) واخلصوا ل(الإمبراطورية) ونستون تشرشل.. واحد عظماء الرواية الروابة الأوربيين.. تشارليس ديكنز وأحس فلتات الكرة الإنجليزية (بوبي شارلتون) فهو لقب (كالوسام) و(إشارة) على كتف أو جبين صاحبها.
وشهادة اعتراف ب(الفضل) لحامله أن هذا هو (المعنى) الذي قصدته تماماً باستخدام هذا العنوان (السير محمد حسن فقي) والذي ولد عن مصادفة تستحق أن تروى فقد كنت في وقت سابق، تحدث إلى الأستاذين (عزيز ضياء) و (محمد حسن فقي) عن اعتزامي الكتابة عنهما حباً فيهما وب(دورهما) في خدمة الأدب والفكر والكلمة.
نثراً وشعراً فلكل منهما قمة وقيمة وقامة لايطالها كثيرون.. الخ.
وعندما غيب (الموت) شاعر العروبة الكبير محمد مهدي الجواهري.. ابا (فرات) يكتب المناع عنه..ب(الجزيرة) العدد 9147 في 13 جماد الآخرة 1418ه الموافق 1 اكتوبر 1997م ويقول عنه: غصت إجازتي في بدء ايامها ب(نبأ) وفاة شاعر العروبة الشامخ والشجاع.. القلق والمتألق.. و(الشاب) بعطائه وابداعاته وال(الشيخ) بسنواته وأيامه محمد مهدي الجواهري ولم تعن شواطئ الإسكندرية سمفونية موجها.. ومتعة صحبتها على تجاوز تلك (الغصة) التي سرعان ما استفزت في حنايا القلب لوعة.. وحرقة.. وجمرة وهي تلتف ب(أكفان) من الأسئلة التي لاح لي وبعد يرتد مسترجعاً أيام كبوات تاريخنا العربي ولياليه.. من (أين المقنع) إلى (الحلاج) ومن (ابن زيدون) إلى (ابن رشد) بأنه الإجابة لها او عليها لم ينفِ المبدوعون من أرضهم وهم أحب الناس اليها.. وأكثرهم احساساً بها.
وأقدرهم على التعبير عنها وعن آلامها وآمالها ولم يعيشوا.. وأوطان الغربة وديارهم تتقاذفهم تقبلهم ساعة.. وترفضهم أخرى.. وتسخط عليهم ثلاثة!
ولم يموتوا في النهاية غرباء وحدهم لا وطن يودعهم ولا قلوب تحوطهم ولا قبور تضمهم وتحنو عليهم..!
وإذا كانت (صورة) شيخوخته الناحلة والصلبة.. الرائعة والضارعة في محراب الكلمة.. الآسية على ما مضى من الزمن الغابر والغادر والمتحدية لما هو آت منه.. المتناسية لجراح الزمن وغير المبالية بثقلها قد بهرتني وامتعتني واسعدتني كما بهرت واسعدت المئات من شيوخ الأدب والشعر وشبابه ممن ضمهم المسرح دار الأوبرا في تلك الليلة القاهرية من ليالي أغسطس من عام 1992م وهو ينشد شعره واقفاً وعلى مدى ساعتين بعد أن قدمه شاعر المقاومة الفلسطينية (سميح القاسم) تقديماً حميمياً عاصفاً أليق ما يكون به وب(بركانيته) وحممه الشعرية فقد بقيت تلك (الصورة) لم تبرح خيالي وقد استقرت بين القلب والعقل.. بين الحب والإدراك ناصعة بهية وكأنها جدارية فرعونية دافئة الألوان.. بملاحمه العديدة ولغته الفريدة وإنشاده المتدفق.. الخ.
إنني لازلت (أتوكأ) على قلمي داخل الحديقة (المناعية) كاشفاً عن أطايب ورودها وازهارها دون أن (ادفع) اجرة (الكشف) أو الاكتشاف لان هذا (البستاني) الطبيب.. لم يعد يتعامل مع زائري (حديقته) كما هي الحال مع طبيب (العيادة) التي سمته الدفع.. اما القلم فسمته الدعوة (للزيارة) المجانية.. القراء دعوة (حرة) تأتي بالاختيار وليس بالانتظار لهذا الأديب الصحفي (الكاتب) الذي يتابع القراء مقالته.
لم تعد مهنة الطب وممارستها (حرفة) له يعتاش منها.. بعد تحصيله (لمؤهله) العلمي الكبير في طب (الأسنان) ربما جرب ذلك في حالة او حالتين.. (عافت) نفسه ذلك.. فناداه ذلك النداء الخفي من قلبه ومشاعره وأحاسيسه وعشقه لدنيا الصحافة والأدب.. أن يقف عن استمرارية المضي بها قدماً!!
نحا (مشرطة) وادوات معمله جانباً.. وهجر مهنته (الطب) الى المهنة التي انساقت لها رغباته وميوله وهوايته للتحول إلى (الاحتراف) كما هي الحال مع الدكتور ابراهيم ناجي صاحب ( الاطلال) الذي لولا اشعاره ونثره وقصصه.. لما غنت له (أم كلثوم) اطلاله التي طيرت شهرته في الوطن العربي.. مثلما هي مع صاحب (الجندول) علي محمد طه عرفه الناس عبر صوت سيدة الغناء العربي!
فلو كان الأستاذ (المناع) في عيادته دون أن يشارك في ثقافتنا الأدبية والصحفية.. دون أن يكتب مقالاته الرائعة على متن الصحف.. ودون أن تظهر مؤلفاته للعيان لما عرفه الناس!!
وفوق هذا وذاك فقد ساهم في بداية مشواره الصحفي في جريدة (الرائد) إلى أن شاهدنا (مولودته) مجلة (اقراء) فقد ولدت بين يديه ورعاها حتى كبرت وازدهرت في (عهده) فقد تنحى عنها.. او نحي عنها.. وإن كنت متأكداً ان الأب البار لا يمكن أن يتخلى عن (مولودته) ولكن.. وآه من كلمة ولكن.. ولكن ثانيا وثالثاً الله (أعلم) فقد كان لها اباً باراً يرعاها ويسقيها من (دمه) لا أريد أن ازيد او أن اقلب في (المواجع) التي اضجرت يومها (المهاجع)!
المناع حين تراه لأول وهلة.. يترآى لك أن هموم الدنيا على عاتقه وأن الحزن اخذ منه ما اخذه.. ولكن حينما تجلس اليه وتبدأ الحديث معه.. تحس ان قلبه مثل صحراء الدهناء وروحه مرحة برحة.. فهو صاحب نكتة وقفشة وطرفة.. ومن طرائفه سأكتفي بذكر بعضها، يقول (انني سعيت مرة لاستقدام (خطاط) مصري معروف ومعتز ب(قدراته) ومكانته بين الخطاطين ولكنه عندما وصل كان عالم التقنية الصحفية الجديد قد بدأ في الانتشار ببريقه وجماله. فكنا نحضر إليه حروفاً مكتوبة بخط جميل، وكان عليه أن يوصل تلك الحروف ببعضها ليصنع منها ما تريده من كلمات أغلب (المانشيتات) والعناوين وذلك بالضغط على الحروف مع الاستعانة بخطوطه الشخصية كلما دعت الحاجة.. فاستمر اسبوعا.. واثنين إلى آخر الشهر ليفاجئني (باستقالته) مع خطاب يقول فيه: (يا استاذنا، أنا خطاط وليس ب(ضغاط) وعندما نشرت مقالي السابق عن (اللورد).. عزيز ضياء هاتفني الأستاذ الفقي قائلاً وضاحكاً: ومتى سيكون مقالك.. عن (السير) محمد حسن فقي..؟ فضحكت ل( الطرافة) ولهذه المقابلة.. الذكية الجميلة منه.. ليستقر عزمي على أن يكون عنوان مقالتي عنه هو (السير محمد حسن فقي)..!
ثم يقول: أذكر انني تلقيت ذات مرة (طرفة).. عنوانها (السياسة للمبتدئين) تقول الطرفة إذا كان لديك بقرتان فأعط جارك بقرة واحتفظ بالأخرى.. فهذه هي (الاشتراكية) اما (الشيوعية) فإن عليك أن تعطي البقرتين ل(الحكومة). وهي تعطيك (اللبن) مجاناً أما ( الفاشية).. فإن الحكومة تأخذ البقرتين وتبيعك اللبن، أما (النازية) فإن الحكومة تأخذ منك البقرتين وتقتلك وتستحل ارضك..!!
وبعد هذه الرحلة مع (المناع) و (قلمه) ومقالاته وطرائفه وثقافته الضافية الوافية.. التي كانت هي قدره واقتداره!
فقدره أن يكون صحفيا وادبياً من عشاق (الكلمة) وواحداً من رموزها (صانعي) ثقافتنا المعاصرة.. واقتداره ليكون رائداً مؤسسا ثقافيا يشار إلى رئادته في اثبات (شخصيته) ما بين مشاركته في جريدة (الرائد) وتأسيسه لمجلة ( اقراء).
فما عساني ان اضيف إلى هذه المآثر الأدبية والصحفية وقد ذكرت عنه النزر القليل فيما اعرفه عنه في هذه المقالة (البسيطة) عنه.. بينما سيتحدث عنه الغير من الشيء الكثير فيما يعرفونه عنه (بشمولية) أتوقع ذلك.. اتوقع ذلك.. في مقالاتهم التي سترد هنا بالملحق (الثقافي) في معرض (الاحتفاء) به.
ويبقى السؤال الذي مازلت لم اجد اجابة عنه لماذا لم تستثمر خبرته الصحفية ومقدرته الأدبية كرئيس تحرير لاحدى الاصدارات الصحفية اليومية؟!!
وما أكثرها هذه الإصدارات الصحفية اليومية.. التي يتبوأ البعض (منهم) رئاسة (تحريرها) ومكانتهم بها.. تلك المكانة التي لن ولم تكن في (مكانة) (المناع) الصحفية والأدبية.. اقول (البعض) منهم..اليست (المكانة للمكين) بعلمه وأدبه وصحافته وخبراته!!
إن لي اصدقاء رؤساء تحرير اعتز بهم وبمكانتهم (الرائدة) مثلما هو اعتزازي بزملاء المهنة من الكوادر الصحفية والمهنية التي (تفتخر) بهم صحفهم كما هي حال (افتخار) صحافتنا الوطنية بهم.
والله من وراء القصد


* مدير مكتب (الجزيرة) بحائل سابقاً

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
قضايا
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved