الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 31th May,2004 العدد : 61

الأثنين 12 ,ربيع الثاني 1425

استراحة داخل صومعة الفكر
الإنسان
ذلك الشيء
ظافر بن علي القرني
103 صفحات من القطع المتوسط..
سعد البواردي

الغوص في أعماق الإنسان أشبه بالغوص في أعماق البحار.. حيث المحار واللؤلؤ والأودية المعشبة والمغارات والأسماك والحيتان المفترسة.. وحيث الضحايا الذين ابتلعتهم الأمواج.. وحيث السكون والصخب..
هكذا الإنسان بحر متلاطم من الأشياء كل الأشياء.. منها ما يحبب إلى النفس.. ومنها ما تجفل منه الحواس.. إنه المزيج من تناقضات تتقاطع داخل أعماق يطفو بعضها ليرى.. ويغفو بعضها خلف ستار الأسرار حتى لا يكاد يلحظه..
شاعرنا القرني بديوانه.. وبعنوانه المثير استحوذ على فضولنا كقراء.. وكان لا بد من الغوص في تجاديف سطوره كي نتعرف من خلالها على (الإنسان ذلك الشيء) بحثاً عن ذلك الشيء الذي أثاره واستثاره وعمد إلى رصده شعراً.. ومشاعر..
من قصيدته (العروة الوثقى) جاءت الاشارة خاطفة وسريعة إلى هذا المعنى:
كلنا أشياء في كف الحروف
فإذا ما شان حرف شان فكر
وإذا ما زان حرف زان إنسان وعصر
وتصرفنا بعقل رغم هوجاء الصروف
ويزيدنا وضوحاً في تعريفه للإنسان
إنه الإنسان من يفتح أبواب الحياة
إنه الإنسان من يصنع أطواق النجاة
ليس من يحيا ويفنى نوره الهادي هواء
هكذا يرى شاعرنا إنسانه شمعة تضيء.. ودمعة ترحم وتحب وتبكي وتضحك وتسخر حين يتعرى الفهم. ويتعدى الظلم حدود حقوق الآخرين.. ويتجاوز العقوق حدود الحقوق.. وتتداعى ابجديات القيم أمام طوفان التنكر لكل الأشياء الجميلة.. ألمس في شعر شاعرنا شحنة إيمانية تطل من بين ثنايا سطوره.. ودفقة انتمائية لوطنه تتوازعها أبياته..
سوف ابقى شامخ القامة مرفوع العماد
دون ديني.. فبلادي
وحسناً لو أبدل حرف الفاء بالواو لكان الأنسب.. هذا عن الوطن في عروته الوثقى.. وحسنا ايضاً لو باعد بين شعره وبين المباشرة.. وتكثيف الكلمات إلى درجة الإرهاق والإرباك كقوله في أسطورة الغي:
واعتصر القول ليَّ الشدوق
فلا عين في العين إلا دفت
مجرد نموذج لتراكمات لفظية تعقد لدى المتلقي الفهم وتنال من جلاء الصورة الشعرية وديباجتها..
وعن الجسد يتحدث شاعرنا ظافر القرني: وبين الجسد والروح تتنازعه اغراض الشعر مثقلة بقيودها..
أعلله يحمل القلب في دفتيه
إلى حفرة الهول حيث السؤال
الذي لا يجاب بيسر
وحيث اللظى جانباها
فما كنت فيها ازكي
وكنت اتمتم تمتمة الروم
مبتورة الحركات.
ومنزوعة البركات.
فكيف أكون.
إذا هلك الناس في ساعة
تفك الأواصر بين ذوي النزعة الواحدة؟
هل كان يتحدث عن القبر.؟ وأي قبر اصطفى؟ وأية صلة بالآتي تشده إلى الجسد..
وكيف أكون وما كنت اسمع
خير من النوم في تلكم الفترة الواعدة
هذه ساعة الحق ياما ظننت الظنون بها
وغرتني الواحة الباردة..
في درب المتاهة مع شعر شاعرنا جاء التواصل مثقلاً بالتفكير لولا مسحة إيمانية شاء لها أن تحتل مكانا تهدى من ثائرة المسير ليس إلا..
سلام على المرسلين كما
سلام على سيد الخلق ما
همى داكن السحب من فوقنا
وما خرت النصب الجامدة
الجسد يا صديقي كي نستغرق تشريحه لا بد له من مجهر ومشرط واخصائي وغرفة عمليات مخبرية لا لكي يُشرّح.. وإنما لرسم خيوطه ودقاته وصولا إلى وظائفه وأدواته.. واحسب أن الجسد في ديوانك ما زال يكتنفه غموض المحاولة رغم صدق المحاولة.. ومن الجسد إلى الوهم.. والوهم مرض نفساني يؤثر على ثبات الجسد وحواسه وأنشطته المختلفة..
وقرأت قبل النوم
أن النوم قبل النوم يضني
وقرأت بعد النوم
أن النوم بعد النوم يفني
ماذا بعد النوم وماذا قبله؟ لقد ضبط شاعرنا ساعته متحريا وقت السلامة من هواجس راودته دفعته إلى الاستزادة من القراءة ليستشيط به التحري والتمني وليقضي ساعة في ضبطه التوقيت قبل أن ينام..!! ثم لينفخ في زجاج الآلة السوداء بعد أن مسح وجهها بالقطن.. يمضي شاعرنا على هذه الوتيرة دون أن يوصله إلى حقيقة الوهم.. فالساعة وضبط التوقيت وسطحها المجالي على رسغه كانت الشغل الشاغل لشاعرنا.. ولي أنا الذي خرجت من المتابعة صفر اليدين لا أعرف من الأمر شيئاً..
على هذا النسق من السرد الغامض تشدنا قصائد الديوان بقيد من الحيرة والغموض لا نكاد ننفك من ثقله..
(أيها) قصيدة تقول بعض أبياتها:
ارسم سلمته ملامحي
فالعصر هذا عصر مسخ ملامح الإنسان حيا
اجعل لنا ذكرى هنا في اللاحقين
وسوف لا أنساك في المتقدمين
فأنت في عقلي وفي عينيّ مرسوم المحيا
في أبياته تلك اقتراب من الفهم يمكن التعامل معه كأداة تعبير عن مضمون يحاول شاعرنا القرني ايصاله دون فوضوية في عضويته وبنائه الشعري.. ودون تلوث في تركيبته اللفظية..
يا أيها الفكر المخاتل نفسه
هذا التلوث في الطبيعة ما كفى
أعمى العيون.. وما كفى
صم الأذان.. وما كفى
نخر العظام.. وما كفى
فأتيت كي تحتاج هذا الواهم المسكين
هل الفيت شيئاً؟
يبدو أنه لم يجد شيئاً رغم كثافة الدخان، وضبابية الأفق واختناق الأنفاس.. أما شاعرنا فظل في مكانه متماسكاً يهفو إلى صفو الحياة متيما.. بل ويتيما لأن النار من حوله تضخ دخانها في الأفق دون أن تجد من يطفئ لهبها المتصاعد..
المتباعد.. وعلى وقع الدخان يتساءل شاعرنا..
هل بعد هذا الحب
نسمع صوت من يدعو بنا
هيا إلى البغضاء هيا ؟
ولأنه يكره دخان البغضاء وغبارها ساقته خطاه سريعاً إلى ما بين الدخول وحومل حيث امرئ القيس تقول الروايات:
أن امرأ القيس كان هنا وحده يحتطب
وكان إذا اقبل الخصم يغلي من الغيظ
عطشان من وهج الفكر
ملتهباً من وميض البيان.. رمى الفأس
ثم رماه بأخرى من الشعر
فارتج من سطوة القول
وانهار حتى إذا ما تشادى هرب
وتتحدث الروايات إليه بأكثر من هذا في سرد روائي إنشائي ينتهي به إلى حقيقة ثابتة مؤادها أن الشجيرات مثل الشجيرات.. والفأس كالفأس.. والنفس كالنفس مشحونة بالرعب.. يعقبه تساؤل:
فما بالنا كلما ننبذ الفأس
ثم نلوذ بأعنف بيت من الشعر
بل بشواظ من الشعر يعمي العيون
ويضمي المسامع في القبلتين
لأن الفأس يجتث من الرأس نزق الشعر.. ويحتز ما شذ في الجسد من عصب.. ويخلص في النهاية إلى الطرح الأخير من تساؤله:
فهل يا ترى في العصور القديمة
كان على حالنا من كذب؟!
لا أملك يا صديقي الجواب.. عند امرئ القيس الذي كان وحده يحتطب.!
الشاعر الغالي القرني ينزع في شعره إلى تشبيه الشيء بالشيء نفسه تاركاً قارئه في حيرة من أمره حتى وهو الشاعر الذي يتحدث عن تآلف الشعراء في عالم مفتون..
ماذا سنكتب أيها الشعراء عنه.
وما نقوله؟
أنقول كان الصدق صدقاً؟.
والجميل به جميلاً؟
والحديث بلا شجون..
الثوابت السلوكية يا شاعرنا تنتفي بانتفاء وجودها.. الصدق لا يكون إلا صدقاً، والجميل لا يكون إلا جميلاً.. من قال غير هذا تعوزه المعرفة والدليل.. أمر جميل أن يتعامل بروح استقرائية تبحث عن الفضيلة الغائبة.. وأجمل من ذلك أن يخرج بتصور لا ابتسار فيه ولا تكلف فنحن معه في قوله:
لولا لحياة لما عرفنا المر في ريب المنون
نحن معه في أن يتحول الخنجر المسموم إلى وردة بيضاء تبحث في مدى المحراب عن أطياف تسر بها العيون كما يقول.. ولكن تبقى الأمنيات وحدها رهن التطبيق على أرضية الواقع.. والواقع المعاش لا منطق له لأنه ينطق بلغة غريبة عن مدراك العقل..
(الإنسان ذلك الشيء) يتعرى حين تكتسي موجة ثلجية غاضبة.. والموجات الباردة تهتز لها ابدانها صيفا وشتاء بعامل الخوف والغدر..
أيا صاحب الغدر
لو لجَّ قول الفتى بالعثار
فالنفس بالفكر متسقة
أين أضحى الذي ابتعثه من لئام
وأين الذي بعثني من مقه؟
لعل شاعرنا بما يعنيه ويشير إليه يبحث عنه تحت ظلال اللغة التي افردها عنواناً لهذا الاستفهام الغامض فهو أدرى بشعابه وبالحروف التي راودته في السر محاولاً قذفها في لظى المحرقة لو أنها تجسدت له في شكل مخلوق يتخطى..
عن (رمضان) الضيف الكريم الذي يشبع الجياع.. ويسعد النفوس.. ويشنف الأسماع يقول (الجهني) عن الناس:
هذا يتمتم بالفضيلة
وذاك يحرث في الرذيلة
وعلى ضفاف الورد
يعصف بالشعور الحب
يسقي الزائرين متاعه
من أحرف اللغة الجميلة
جميلة هذه الأبيات الموحية بروحانية الشهر وجماله وجلاله.. إن يسترسل مشغوفاً بصيامه وقيامه وكرمه..
ويهب كل للصلاح
فذاك ينفق ماله
واخوه يصلح حاله
وإذا دعا الداعي بنا
نهفو إلى المحراب
نستبق الصفوف
يكاد يختنق الإمام من الزحام
صورة وصفية خالية من الشوائب تؤكد قدرة شاعرنا على صياغة الحدث لو أنه تأمل وتمهل في املاءات شعره وخيارات مفرداته.. واقحامه لجمل اعتراضية مرتبكة تسيء إلى الديباجة.. وتنتقص من قيمتها..
ولأنه يهوى السفر إلى مواقع الغمام كان لزاماً علينا أن نطير معه بأجنحة متابعة كي نستشرف دلالات تلك الرحلة وحصادها لعل قطراً من السماء يبل الظمأ..
تمضي، وتحتضن البشر
وتجول في كل الجهات
فلا ترى إلا الدعابة والرحابة
واخضرار القفر.والحب الذي ملأ النظر
حب يحيل المر حلوا
والسماء الصحو تبعث في عروق الصب رائحة المطر..
حب، أو حبات مطر رطبت شفاهنا الظامئة واترعت أرضنا العطشى ونحن في رحلة لم تبرح مكانها على الأرض.. السحاب وحده هو الذي قام بالرحلة ونحن الذين استقبلنا قطره فرحين مرحين.. وهذا يكفي..
الدائرة في شعره تتسع.. افقها أرحب.. وأكثر شفافية واشراقاً:
يمور في دائرة مهولة
مداه نصف قطرها الممتد فيما حوله
منحصر كخطوة كسولة
أو غرفة ضيقة عن حقها خجولة
أو قرية, قبيلة. مدينة. دويلة.. أو دولة
فتارة يتيه في ارجائها
وتارة يكاد يخترق المحيط
من ذلك المجهول الذي يتولى أمر الدائرة ويرسم حدودها؟ لعل لدى شاعرنا الخبر اليقين..
تشعبت أهواؤه
تبعثرت أعباؤه
فساعة مخططة
وساعة يخذله التخطيط
أمر محير أمر الدائرة ذات المركز الثقيل والشريرة الباهتة الخطوط التي تحمل شعار التفكيك والقنوط.. وأمر محير أكثر ذلك المجهول الذي يأتي ويبتعد، يدنو فيرتعد لأنه غير مستعد
وما درى لجهله بأنها يهمها وصوله..
لغز لا يمكن لنا حله.. لأن مفتاح الحل في خزنة شاعرنا.. ربما لخصوصية الدائرة ومن يدور حولها..
وأخيراً.. ارهاصات حب شاعرنا الأخير.. وهل كالحب يأتي مسك ختام..؟
ارفق بنفسك..
ليس هذا وقت تشتيت النظر
أنسيت ما بيني من الماضي.. وما بين الحوار
لا تقطعن مودتي
وتسير في شرك المسافة واهماً
تستشرف الأفق البعيد
فتسبتد بي العبر..
مقطع جميل من رسالة حبه تؤكد قدرة شاعرنا على اعطاء شعر أجمل وأفضل حين لا يتعجل.. فالصورة كما قرأتها موحية بالعذوبة والرقة والعتب..
أقول لصديقي د. ظافر القرني وبكل صدق.. في ديوانك ما شدني إليه.. فهما.. وفيه ما أبعدني عنه هضماً ربما لعيب اتحمله.. أو لغموض في تركيبته واجترار في جمله يتحملها غيري.. بكل الصدق أشد على يدك على أمل عطاء متجدد، متوهج بالصور والمعاني، والأخيلة..


الرياض ص. ب 231185 الرمز 11321
فاكس 2053338

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
قضايا
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved