الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 31th May,2004 العدد : 61

الأثنين 12 ,ربيع الثاني 1425

هؤلاء مرُّوا على جسر التنهدات
الوزير.. الدكاترة!!
بقلم/علوي طه الصافي

مشكلته (الأولى) تتمثّل في عدم استقرار بلده سياسياً، في إطار حكومة ديمقراطية، قادرة على تجميع شتات طبقات الشعب، وأطيافه المتنافرة المتنازعة في (بوتقة) واحدة متناغمة، و(نسيج) متماسك الخيوط، و(شعور وطني) عام، همّه الأكبر العمل، والبناء، وتحقيق (التنمية الشاملة) بعيداً عن المصالح (الفئوية) والنزعات (الطائفية) والنعرات (الحزبية)!!.
لقد مرّ بلده بعدد من (الانقلابات) التي عصفت رياحها المجنونة باستقراره، وتعاقبت مع هذه الانقلابات حكومات لها توجهاتها، وسياساتها..وكان للأحزاب، والتكتلات الحزبية، والطوائف، والطائفية، أدوارها السلبية على بلده، هذا إلى جانب النزاع الطويل بين شماله، حيث (الحكومة المركزية)، وبين جنوبه المطالب بالانفصال حيناً، والحكم الذاتي حيناً آخر.. هذا النزاع الذي تغذّيه، وتحرض عليه بعض الدول المجاورة لمصالحها الخاصة!! أليست السياسة تقوم في كل زمان، وكل مكان على (المصالح الخاصة)؟!
وهو نزاع خطير له جانبه (العسكري) الذي ذهب بآلاف الأرواح البريئة، ليس هذا فحسب، بل الأخطر منه الإبقاء على حالة (عدم الاستقرار)، وتمكين (التخلف) بكل أنواعه مهيمناً، ومسيطراً على البلد كله، في وجه أي تقدم، أو تنمية!!
أضف إلى ذلك انعدام فرص العمل أمام المواطنين الذين اضطروا إلى (الهجرة) في الأقطار العربية، والعالمية، بمن فيهم العقول العلمية الكبيرة.. التي يعد صاحبنا واحدا منها، وهو الدكاترة الوزير الشاعر (محيي الدين صابر) من السودان الشقيق.
** ومشكلته (الثانية) تعد امتداداً لمشكلته الأولى، وهي ان بلده يعد من (البلدان الفقيرة) في قائمة دول العالم، وبعض أفراده يعيش تحت (خط الفقر)!! رغم ان (ثرواته الطبيعية) أفضل من (اليابان)، وهي قادرة مع تنمية (ثروته البشرية) ان تجعلاه بلدا أكثر مما عليه بنسب مرتفعة لو أحسن (الاستغلال)، وتعلم (الاستثمار) من خلال خطط علمية مدروسة، ومحسوبة بحيث يرتفع خط رسمه البياني تدريجياً عن مستوى خط تحت الفقر الذي جعله في خانة (المدين) في (مقاصة) الحسابات العالمية!!
** ومشكلته (الثالثة) هي في الأساس مشكلة أغلب إن لم يكن كل الدول النامية بنسب متفاوتة، وهي لو نظرنا إليها لا نستطيع أن ننظر إليها بمعزل عن المشكلتين السابقتين؛ لأنها من مقرراتها وتتمثل في تفشي (الأمية) في صفوف الشعب السوداني، رغم أننا في القرن الواحد والعشرين الميلادي..وهذه المشكلة من أكثر عداء، وضراوة، وشراسة على الإنسان في كل زمان، وكل مكان من الكرة الأرضية، وتعد أكبر عائق في طريق أي تنمية في أي بلد من البلدان!!
وهي نسبة ليست عالية، أو مرتفعة فحسب، بل (كارثة) كبرى يحتاج حلها إلى عشرات العقود المستقبلية.. هذا إذا تضافرت (الجهود) التخطيطية التثويرية!!
وبما ان التنمية المنشودة لن تتحقق إلا من خلال التنمية البشرية، وعنصرها الرئيسي هو الإنسان، فانه يجب الارتفاع بهذا العنصر، وهذا الارتفاع لن يتحقق إلا بالقضاء على (كارثة الأمية) التي تبلغ حسب علمنا 70%.
ومن هنا يتبدى لنا ان (التنمية) سلسلة من الحلقات المترابطة ترابطاً التزامياً، لا انفكاك بينها، والقطب الرئيسي، أو الحلقة الأكبر في هذه السلسلة هو (الإنسان) الذي يختفي دوره الكبير أمام (طغيان الأمية).. فيتحول إلى قطب هامشي يقود إلى تهميش التنمية الشاملة، وخططها!!
لهذا حين تسلم الدكاترة (محيي الدين صابر) حقيبة ومسؤولية (وزارة التربية والتعليم)، قام بتثوير (المنهج التعليمي) لإصلاح ما أفسده الدهر، تطلعاً لمواكبة العصر، لكنه وجد نفسه أمام سور أكبر من (سور الصين) التاريخي، وتراكمات أجيال من التخلف!! وحين وجد نفسه محاصراً بالعقبات (المزمنة) والاحباطات (المحدقة) اضطر مكرهاً لا بطلاً إلى (الهجرة) ليتسنم منصباً رفيعاً حساساً هو (أمين عام المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم) بتونس، حيث كانت بداية معرفتي به في الندوة التي أقامتها المنظمة عن اللغة العربية، ووسائل نشرها وانتشارها في العالم.
يتسم بالهدوء، والوقار، وابتسامته العذبة التي تسبق يده مرحباً بضيوف (الندوة) الذين حضروا من كل أقطار الوطن العربي.. تحس وهو يتجول،أو قاعد انه يفكر في صمت، تتساءل بماذا يفكر هذا الرجل؟
ولو لجأت إلى التخمين، والتوقع لتخيّلت انه يفكر في وطنه السودان الذي تعصف به الرياح، فتحول دون استقراره.. ويفكر في غربته، وغربة الآلاف غيره من أبناء وطنه، أليست الغربة للأحرار ذبحا، كما يقول الشاعر (ابن النحاس المدني)، ولسان حاله كما قال (خيرالدين الزركلي):
العين بعد فراقها الوطنا
لا ساكناً ألفت ولا سكنا
وبعد ان تركتُ تونس سنوات فوجئت برسالة تصلني منه..عرفت من سطورها بأنه ترك المنظمة (متقاعداً) عن العمل رغم انه كان قادراً على العمل، والعطاء من خلال شهاداته، وتجاربه وخبراته العملية الطويلة في مناصب قيادية!!
وهذه من مشاكل كل قدرة (فاعلة) وكفاءة (مؤثرة)، قدرها أنها تنتمي إلى (البلدان النائمة)، لا (النامية) فلو كان ينتمي إلى سكان (الدول المتقدمة) لكان له شأن كبير؛ لأن هذه الدول تدرك جيداً ان ثروتها الحقيقية تتمثل في الدرجة الأولى في (إنسانها) الذي تقوم على كتفيه تنميتها، وعلى ساعديه (الصناعة)، وتشييد (المصانع)، ومن خلال خبرته يحرك إدارة (عجلة العمل)، ويثري بعلمه ميادين الاكتشافات، والابتكارات دون ان يكون لسنه كبير أثر، بل كلما زادت سنوات عمره، تراكمت خبراته، وأصبح سوق العمل أكثر طلباً عليه.
وإذا طلب بنفسه التفرغ عن العمل، فإنما التفرغ للقراءة، والكتابة في الصحف، والمجلات، أو تأليف الكتب في مجال اختصاصه العلمي، وخبرته الطويلة في العمل، يتفيأ تحت (مظلة التأمين العامة) التي تجعله بمنأى عن الحاجة، بل قد تخطب وده الشركات الكبرى فتعينه مستشاراً لها، و هو في منزله دون ان تكلفه بأوقات محددة للعمل، أو الحضور إلى مكاتبها!!
أما في الدول (النائمة) فان الإنسان إذا وصل إلى سن معينة (كالستين عادة) فانه يوقف عن العمل، ولو كان في قمة نشاطه، ويطلقون عليه (متقاعد)، كأنهم يوحون إليه (مت قاعداً).. ولا أدري من أين جاء هذا المصطلح القاسي على العقل، المنفّر للنفس، فيتحول إلى (دولاب خامس)، أو (إنسان هامشي) يقضي وقته متسكعاً بين (المقاهي)، أو متجولاً على (أرصفة الشوارع) يسلي نفسه بالنظر إلى واجهات (الفاترينات)، أو يقبع في شقة متواضعة منزوية لمتابعة أخبار التلفاز (الرائي) التي تحدث في العالم، أو مشاهدة (فيلم سخيف) أو مباراة لكرة القدم... مجرد طاقة إنتاجية معطلة حتى يأتيه الموت في يوم من الأيام، أو ساعة من الساعات، هذا إذا لم يتعرض لبعض الأمراض النفسية كالاكتئاب مثلاً!!
قلت: تلقيت رسالة منه اقتطف السطور التالية منها:
(إني أشعر بالرضا، لأني أترك المنظمة بعد سنوات طوال، وقد تحقق لها الكثير من الإنجازات في أهدافها، فقد استكملت كل الإستراتيجيات الكبرى في مجالات سعيها، فوضعت الاستراتيجية العربية لمحو الأمية وتعليم الكبار، واستراتيجية تطوير التربية العربية، والخطة الشاملة للثقافة العربية، واستراتيجية العلوم والثقافة، والنظام العربي الجديد للاتصال، وأصبحت لها القدرة الذاتية على الإنتاج الثقافي، وتملكت وسائله من دار طباعة قادرة، ومن نظام للمعلوماتية يتمثل في البنك العربي الأول في مجال المعلومات التربوية والثقافية والعلمية في الوطن العربي وخارجه (فارابي)، ونسجت علاقات دولية ثقافية، من الصين إلى المكسيك، في إطار نشر اللغة العربية، والثقافة العربية الإسلامية). انتهت.
كانت الرسالة لا تاريخ لها، لكنني عرفته من خلال ردي الفوري عليه الذي كان بتاريخ 7 51408هـ الموافق 2712 1987م فلم أتلق بعد هذا التاريخ أي رسالة منه، وقد استشففت من رسالته انه يريد ان يوثق للتاريخ ما قدمه من أعمال، وجهود للمنظمة، لإدراكه ان من طباع الإدارة في البلاد العربية مع الأسف الشديد أن الرئيس (اللاحق) يحرص على طمس جهود الرئيس (السابق) أو ينسبها لنفسه، هذا لم يسئ له!! وهي (ظاهرة) متفشية في الإدارات العربية على كل المستويات!!
وبعد مرور ما يقارب (14) عاماً على رسالته، وجوابي عليه، فوجئت في العام الماضي أثناء مطالعتي لإحدى صحفنا تنعى فيه وفاة صاحبنا الدكاترة الوزير الشاعر الصامت (محيي الدين صابر) وانتقاله إلى رحمة الله.. تغمده الله بواسع رحمته.
وحين أكتب عنه هذا الموضوع إنما أكتبه لتوثيق ما قدمه من جهود للمنظمة، متسائلاً عن مصير شعره الذي ربما تركه مخطوطاً لدى أسرته، ويحتاج إلى جهة مسؤولة تبعثه بالطبع.. والله المستعان.

alawi@alsafi.com
ص ب (7967) الرياض (11472)

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
قضايا
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved