Culture Magazine Monday  31/12/2007 G Issue 227
الملف
الأثنين 22 ,ذو الحجة 1428   العدد  227
 

أديب من جيل الروّاد
عبد العزيز بن عبد الله السالم

 

 

أديب عصامي اعتمد - بعد ربه - على نفسه، وبنى مجده بجهده، مع أن نشأته جاءت في عصر كانت فيه وسائل التعليم تكاد تكون مفقودة، والنظرة إلى التحصيل العلمي كانت نظرة باهتة، وظروف العيش صعبة، وأدوات التثقيف غائبة، والحياة في واقعها ومنعطفاتها محدودة في كل غاياتها وعلى مختلف مناحيها، فقد كانت محفوفة بالمتاعب من كل جانب من جوانبها سواء في نواحيها الاقتصادية، أو امتداداتها الاجتماعية، أو فيما سوى ذلك من الأوضاع.. ومن خلال استقراء هذه الصورة فإن جيل العهد السابق لم يكن جيلاً مرفهاً يجد كل ما يريده حاضراً بين يديه، كما هو الحال في هذا العهد وكما هو واقع هذا الجيل، وإنما عاش الجيل السالف عيشة ضنكا لم تتوافر له أي نسبة من الرفاه المعاصر في مجال الحياة العامة، فقد كان يفتقر إلى أدنى مقومات الحضارة التي كانت غائبة في دنياه.

* * *

نشأ فارسنا (ابن إدريس) كغيره من جيل الرواد محتاجاً إلى الإمكانات التي تساعده في التطلع إلى أنوار الثقافة والآداب، وتقوده إلى مصادر العلوم ومعطياتها.. وعلى الرغم من تراكم العوائق أمامه وبروز التحديات في مواجهته، فقد كان في حسه الداخلي يتمثل في قول المتنبي: (إذا عظم المطلوب قلّ المساعد).. وفي ضوء هذه الرؤية خاض غمار المشكلات بروح التحدي، وتطلع الواثق من عون الله تبارك وتعالى له. إلى جانب مواصلة الكفاح من جانبه نحو التقدم العلمي. لاسيما وقد شعر أنه على مفترق طرق: إما أن تنهض به همة عليا ترتفع به إلى آفاق العلم والثقافة، وتحلق به في سماء الفكر والمعرفة، وإما ان تهبط به همة دنيا تنتهي به إلى الإحباط والاقتناع بأن يسير على نهج من لا تطلع لهم ولا عزيمة لديهم، فيحيا عمره كله مهمشاً بلا طموح، مجهول القدر فاقد المكانة، فيضطر إلى الانكفاء على الذات، والتقوقع في زاوية من زوايا المجتمع ليصبح بذلك نسياً منسيا.

* * *

لكنه بحسه المتوقد وطموحه المتوثب ونفسه الأبية: أبى ان يرتضي القعود عن طلب المعالي فقرر اقتحام الصعاب والتغلب على المتاعب. ولذا فقد اختار المرتقى الصعب، والمسار الشاق، والنهج الذي تكتنفه الصعوبات وتحيطه المتاعب، وفي ظل هذا الاصرار كانت مسيرته الجادة المصحوبة بالمثبطات والمعوقات والتحديات، فقد واجه في مساره ثغرات وواجهته عثرات، ولكنه بتوفيق من الله له وبفضل اعتماده عليه سبحانه، ثم على مدركاته وجهوده الذاتية استطاع ان يحقق ما رسمه في ذهنه مما يصبو إليه من مجد أدبي، وما تتوق إليه نفسه من مركز اجتماعي.

* * *

وفارسنا هذا أمضى صباه في بلدة صغيرة بحكم واقعها في العهد السالف كمثيلاتها من البلدان التي كانت معدودة السكان محدودة المساحة، ثم تحولت بفعل التقدم والتطور الحضاري إلى مدن يكثر فيها السكان وتمتد فيها المساحة وتزدهر فيها وسائل التطور الحديثة، فلم تعد قرية أو شبه قرية منغلقة على نفسها، وإنما أصبحت مدينة كبيرة منفتحة على العالم وتقنياته وعلى الحضارة ومعطياتها.

* * *

وفي هذه البيئة التي تحدها الأسوار المادية والفكرية تجسد في حس أديبنا هاجس الانطلاق الواسع. ليروُي طموحاته التي تقوده نحو الخروج على العزلة البيئية التي فرضتها عليه طبيعة مجتمعه التي تحفها البساطة وترتكز على السماحة ولذلك لم يجد في هذه البيئة المحدودة الإطار ما يتجاوب مع طموحه ويلبي أشواقه العلمية، ولذا فقد نازعته نفسه التواقة إلى المجد ورغبته الصادقة في التوجه نحو العلم في مظانه، لأن يسعى وراء مساقط أشعة النور، متطلعاً إلى مستقبل باسم وغد مشرق، فكان حتماً عليه - استجابة لذلك الهاجس - ان يرحل إلى الرياض عاصمة البلاد وملتقى الطامحين، ففيها ندوات علمية ومعاهد تعليمية ودراسات عليا، وهذه العاصمة احتضنت نخبة من أبناء المملكة عاشوا في كنفها ودرسوا في معاهدها على علماء أجلاء ذوي اختصاصات متعددة وثقافات متنوعة، وبما طُبع عليه أفراد من الجيل الرائد من ذكاء فطري وما وهبهم الله من أذهان متفتحة ورغبة جادة وقابلية ذاتية للتزود من نهر العلوم الذي يتدفق في جنبات هذه المدينة (الرياض) التي لها من اسمها أوفى نصيب، فهي رياض للعلم كما انها رياض بحكم الطبيعة، فاسمها مشتق من طبيعتها، لذا فقد نهلوا من العلم وتفوقوا في الثقافة.

* * *

وكان الوافدون حينذاك إلى مدينة الرياض والمقيمون بها غالباً ما يكونون من أصحاب التطلعات العلمية يتنافسون في التحصيل ويتبارون في التفوق، وكانت النتيجة صفوة من العلماء والمثقفين والأدباء والشعراء. استكملوا دراساتهم المتنوعة في المعاهد والجامعات، وعملوا في مجالات تتلاءم مع تنوع مؤهلاتهم وتخصصاتهم، فشغلوا مناصب عديدة في الدولة.. وكان من هذا الرعيل الأول الأستاذ عبد الله بن عبد العزيز بن إدريس، الذي جمع في ذاته الكاتب والأديب والشاعر، وقد تمثلت في شخصيته جميع هذه الصفات مكتملة المظهر مشهودة المخبر، فهو بحق كاتب معروف، وأديب مقروء، وشاعر مطبوع.

* * *

وبمثابرته وجده وكفاحه للوصول إلى المكانة الأدبية التي بلغها، استطاع أن يوجد له مكاناً بين أدباء جيله، وما مؤلفه (شعراء نجد المعاصرون) إلا صورة ملحوظة من ثقافته المبكرة، ولون مميز من ألوان جهوده الثقافية.. وتأليفه باكورة إنتاجه المتمثل في هذا الكتاب مما يدل على مدى اهتمامه بمواكبة النهضة الأدبية في هذه البلاد، وإبراز مكانتها بين البلدان العربية التي سبقتنا في هذا الميدان الريادي، ولذا نراه قد جند نفسه وعمل على تكريس كل وقته لإخراج كتابه هذا بصورة مشرّفة، ولذا نلمس مبلغ معاناته في جمع المادة الشعرية ومتابعة الشعراء لتسجيل آثارهم وعطاءاتهم. وهذا التصميم يدل على إرادة قوية وعزيمة صادقة وتضحية بالجهد والوقت.. وبمثابرته وجديته وكفاحه للوصول إلى المكانة الأدبية التي تبوأها، استطاع أن يُعطي انطباعاً عن بواكير النهضة الأدبية في منطقة نجد بالذات بما حشده في كتابه من أسماء كوكبة من شعرائها. كانت أسماؤهم وآثارهم غائبة، فبعثها من أجواء الركود، وحفظها من عاديات النسيان.

* * *

وقد ملأ كتابه - بصدوره في عهده - مكاناً لم يملأه كتاب سواه في مضمونه وإبراز فرسانه، فقد حمل في طياته تعريفاً بنهضة هذه المنطقة وتقديماً لقائمة من شعرائها المعاصرين إلى البلدان العربية، وإذا كان قد سبقته مؤلفات عن بعض مناطق المملكة مثل كتاب: (وحي الصحراء) وكتاب: (شعراء الحجاز). فإن منطقة نجد وجدت نفسها ثقافياً في هذا الكتاب الذي جمع فيه مؤلفه نماذج متعددة لمجموعة من شعرائنا الشباب في ذلك الوقت. بذل فيه جهداً يشكر له في متابعة أولئك الشعراء ولقائهم وتدوين نماذج من أشعارهم وترجمات حياتهم، ومن هذا المنظور فقد كان للمؤلف دور بارز في التعريف بشعراء هذا الجزء المهم من بلادنا.

* * *

ولعل الجيل المعاصر الذي وجد الطريق أمامه ممهداً والحركة الثقافية في أوج نشاطها، واتساع معطياتها على امتداد الآفاق الثقافية، لعله يدرك مدى الجهود المبذولة من جيل الرواد الذي مهد الطريق أمامه وفتح مجالات واسعة في مجالات النهضة الأدبية بمختلف أطيافها وتعدد ألوانها وتشعب مناحيها، وأصبح من اليسير عليه في ظل التقنيات الباهرة أن يواكب الحضارة المعاصرة بمعطياتها التقنية الحديثة، وأن يتابع الحركات الأدبية في شتى صورها المتنوعة وأطيافها المتعددة: لا سيما وقد أصبحت دنيانا أشبه بقرية كونية في اتصالاتها وانطلاقاتها وتقارب بلدانها وانطواء مسافاتها، وسرعة انتقال المعلومة من منطقة إلى أخرى بأسرع مما يتصور الإنسان قبل عهدنا الحاضر بفضل ما حققه العلم الحديث من إنجازات مذهلة على مستوى مدهش، وسرعة فائقة واتقان ملموس لم يكن يدور في أذهان الأجيال التي سبقتنا ولا خطر في أحلامها أو دار في أمانيها، ذلك أنها عاشت حياة واجهت خلالها معاناة شديدة في ظروف روتينية قاسية محاطة بجفاف العيش المحدود، وجفاء الواقع المعيش، فقد كانت الحياة في أنماطها المادية والمدنية تقوم على البساط المطلقة، وترتكز على وسائل بدائية، وذلك ينسحب على جميع المظاهر الاجتماعية والأوضاع الثقافية سواء في منظورهما العام، أو في صورتهما الحقيقية.

* * *

ولعل نظرتنا إلى الواقع الذي نعيشه بكل طفراته وتقنياته يعيدنا إلى الوراء قليلاً بما يستدعي الالتفات إلى واقع أجيالنا الذين سبقونا إلى هذا الوجود، وعاشوا حياة متقشفة واجهوا من خلالها المعاناة الشديدة، ومكابدة صنوف الحياة معتمدين بعد الله على جهودهم الذاتية، فلم يدركوا هذه الطفرة التقدمية التي شملت مساحة كبيرة من المجتمعات، لا سيما في بلادنا المترامية الأطراف المتباعدة المناطق، وكانت الاتصالات بينها تقوم على وسائل بدائية.. وفي هذا المحضن ولد فارسنا ونشأ كأمثاله من المواطنين في مجتمع تنقصه أدوات الحضارة ويفتقر إلى المدنية، ومع ذلك عاش وضعه المغلق منفتحاً على آفاق فكرية استطاع في ضوئها أن يصدر كتاباً مهماً عن الحياة الأدبية في هذه البلاد يمثل باكورة إنتاجه الذي أطلق عليه اسم: (شعراء نجد المعاصرون)، وهو يحدثنا في ذكرياته التي ينشرها في صحيفة الجزيرة عن معاناته في إصدار هذا الكتاب، ولا أدل على ذلك من أنه عندما تقدم للجهة المسؤولة بطلب المساعدة في طباعته جاء الرد: بأن المساعدة مشروطة بإجراء بعض التعديلات بالحذف والزيادة في مادة الكتاب، فكان جوابه: أُقسم بالله إنهم لو دفعوا لي (عشرين ألف ريال) لما عدّلت ولا بدّلت فيه، وكان هذا المبلغ في حينه يعني الشيء الكثير، وهكذا واجه جيل الرواد معاناة في إنتاجهم الفكري وعطائهم الأدبي، ولكنهم استطاعوا أن يثبتوا وجودهم، وأن ينتجوا في ظل الأوضاع التي عاشوها والصعوبات التي تغلبوا عليها، وأن يحققوا إنجازات ثقافية منظورة يدركها الجيل المعاصر.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة