Culture Magazine Monday  31/12/2007 G Issue 227
الملف
الأثنين 22 ,ذو الحجة 1428   العدد  227
 

الإبحار بلا ماء عند الشاعر عبدالله بن إدريس
عبد اللطيف الأرناؤوط

 

 

الأديب الشاعر عبدالله بن إدريس أحد روّاد الشعر الاتباعي البارزين وأعلامه في الجزيرة العربية، وناقد معروف شق طريقه النقدي بكتابيه المعروفين: (شعراء نجد المعاصرون) و(الشعر في الجزيرة العربية خلال النصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري)، إضافة إلى دراساته الشعرية التي جمعها في كتاب عنوانه (كلام في أحلى كلام).

إن مسيرة (عبدالله بن إدريس) الأدبية، تكشف عن حقيقتين مهمتين تسمان إنتاجه:

أولاهما: أنه يباعد بين فترتين ضافيتين من الزمن لتكونا أقرب إلى الكمال.

وثانيهما: أنه لم يقبل على كتابة الشعر بلا تمرس أو اطلاع على التراث، ومحاولات سابقيه من الروّاد، ودراستهما بعمق، فتكونت لديه الدعائم الراسخة التي يقيم عليها عطاءه الشعري، ومن ذلك امتلاكه ناصية اللغة، وتأثره البالغ بديباجة الشعر العربي، وطرائق التعبير فيه، والتزام ملحوظ بنهجه الموروث، وإن هذا الجهد يفرض الاحترام والتقدير.

إذا قارناه بالمحاولات المتسرعة التي يندفع إليها بعض شعراء العصر، وهم يحسبون واهمين أن الموهبة والشعور وحدهما - إن وجدا - والنية الحسنة، يمكن أن تبدع شعراً، وفاتهم أن تاريخ الشعر العربي يثبت أن عمالقة الشعر لم يتميزوا إلا بعد أن أعدّوا أنفسهم إعداداً جيداً قبل الإقدام على التجربة الشعرية، وهي تجربة وعرة المسالك، ثلاثة أرباعها تقوم على الجهد الفني والثقافة والتأثر.

في المجموعة الشعرية عنوانها (إبحار بلا ماء) يحاول الشاعر عبدالله بن إدريس أن يجاري العصر، بعد أن شقّت الحداثة الشعرية طريقها. فيجمع بين النظم على الشعر التقليدي وقصيدة التفعيلة، وإن كان في جوهر شعره يظل أقرب إلى الشعر الاتباعي الحديث الذي يلتزم قواعد الشعر التقليدي، ويمنحه روح العصر بالأفكار والموضوعات.

يُبدي الشاعر (ابن إدريس) اطمئناناً كبيراً إلى أن الشعر غير مهدد بالزوال، مهما زاحمت منكبيه الفنون الأدبية الأخرى كالرواية، فالشعر هو (رئة العربي يتنفس خلالها آلام الحياة وهمومها) وهو صديق الذات الإنسانية الخفية، والمعبّر عن صدق معاناة الإنسان وخلجاته النفسية.

يثبت تاريخ القصائد أن الشاعر نظمها خلال خمس عشرة سنة سبقت ظهور المجموعة، وعبّر فيها عن مناسبات حياتية ووقائع ذاتية.. ففي قصيدته (بعد الخمسين) يشعر أنه يدلف إلى الشيخوخة، فيستعير إطارها من شاعر جاهلي، ويتوجه بها إلى أبنائه، جرياً على عادة السلف يزودهم بنصائح وقيم عليا ليلتزموها في مستقبل الحياة، وفيها تبدد عزة نفس الشاعر وإباؤه، وترفّعه عن مجاراة أبناء عصره في التماس رخاء العيش مقابل السقوط والتردي في عبادة المال وجمعه بطرق غير مشروعة، يقول:

أبني إن أباكمُ قد أكهلا

وطوى المسافة مصعداً متعجلاً

ورمى على (الخمسين) قامة ظله

متأملاً من عمره ما أهملا

ويحدد الشاعر مبدأه في الحياة في الأبيات الآتية الرائعة:

لي مبدئي، لي عزّتي، وكرامتي

لا تستذلّ لغير حق أنزلا

يُرمى على دربي النضار فأنثني

مستصغراً شأن النضار ومفضلا

فلقد رأيت المال يُجهد أهله

في جمعه مما أسفَّ ما علا

ولقد رأيت الكثر خادم ماله

لا المال يخدمه حفياً مبهلا

ويوصي الشاعر أبناءه أن يجمعوا بين النبل والتماس سبل الحياة بالكسب الشريف، ويحذرهم من النفاق والاستجداء والتذلل أو التغازل عن المبادئ السامية في الحياة، فهو مثلهم الأعلى.

ومن شعره الوجداني النفسي، قصيدة نظمها وفق شعر التفعيلة الحديث، يتحدث فيها عن حفيده الذي يراه امتداداً لحياته على الأرض، ويجيد الشاعر تصوير الطفولة ومرحلتها، ويتحدث عما ينتظره الحفيد من منغصات الحياة، وتردّي واقع أمته:

تروم التفوّه بالأحرف

ولا تقتدر

لكي ما تبوح

بما في الحنايا استتر

كأنك مستعجل نهبة

ولو من شقا أمةٍ

مجدها يعتصر

وبوح الرؤى يُحتضر

ويثبت الشاعر (ابن إدريس) أنه مؤهل للكتابة الشعرية وفق قواعد الشعر، ويتجلى ذلك في قصيدته: (هم يشنقون الفجر) التي مطلعها:

لم يقتلوك، ولكن نورهم وأدوا

واستأصلوا من بقايا الحق ما وجدوا

فهو في شعره الاتباعي أمتن ديباجة، وأقرب إلى موهبته وثقافته الشعرية الأصيلة..

وتمر حياة الشاعر في أزمات نفسية عاصفة، تدفعه إلى السأم والأسى، وهي أزمّات أحلاها تبدل القيم والنفوس في عصره، فيحاول أن يدفن نفسه في ضمير النسيان، لكن محاولاته خائبة، فهو يعبّر عن قلقه بممارسة أعمال وعادات تسليه، فلم تبق عادة شرب الشاي أو رعاية النخل أو القراءة المتواصلة شفاء لروحه القلقة، ثم يكتشف أن الحب وحده الوسيلة الوحيدة لأن نجعل لحياتنا معنى.

دوماً إذا النفس لم تُطلق أعنّتها

في واسع من رحاب الوُدّ مأهولا

تفجّر البؤس في أحشائها حُمماً

وأنجبُ الكُرهُ في أحضانها غولا

أعيش بالحب في صحوي وفي سنتي

وأزرع الودَّ مشروباً ومأكولا

أمجّد الحبَّ لا أرضى به بدلاً

وأكره الكُرهَ فعّالاً ومفعولا

والشاعر عبد الله بن إدريس، مرهف الحس، يرصد من مواقف الحياة أرق المواقف وأكثرها تأثيراً في النفس، وهي مواقف تعكس تعلق الإنسان بما يحب أو من يحب، كذلك المؤذن (ابن ماجد) الذي بكى بعد أن هدم المسجد الذي رفع الأذان فيه أربعين عاماً، فقد رأى أن حياته كلها تطوى وتهدم بهدم المسجد لترميمه، أو ذاك الالف الذي اختصه الشاعر بالحب، ولكن الأيام أفسدت الود وجف ماء التواصل، ويرمز إلى ذلك الحبيب بالنهر كان ماؤه يروي ظمأه فانقطع رفده بعد تدفق:

يا نهر جدد على الأيام في دعة

مسار فيضك لا تخضع لتكرار

أرنو إليك تعود اليوم منطلقاً

تسقي على ظمأ شوفي واصحاري

وللشاعر قصائد وجدانية أخرى، منها قصائد يتبادلها مع أقرانه من شعراء الجزيرة، وأخرى يخلد فيها عظمة وطنه وما فيه من عمران ونماء وتاريخ عريق والتزام لرسالة الإسلام والدفاع عن حياضه:

شبه الجزيرة يا انبلاج صباحنا

لك في القلوب منازل أفياح

شبه الجزيرة يا انبثاق حضارة

بيضاء فيها رحمة وسماح

وتهزه ثورة أطفال الحجارة في فلسطين، فيكتب رائعته (الحجر والصامتون) يمجد فيها نضال أطفال الحجارة ويندد بالصمت العربي:

قد جاء يومك يعدد أيها الحجر

يقول لها: إنني من فرحة سكر

(عشرون عاماً) ولم يهطل لنا أمل

عشرون مصحرة يستافها الكدر

ظلام قهر على شعب تغرده

أن ليس يقهره التعذيب والبطر

وللشاعر عبد الله بن إدريس جولات في وصف الطبيعة، كوصفه بحيرة (ليكتوبا) في (سوماطرة) وتصويره مجنة مرضه ومعاناته من عملية طبية أجريت له، وهو في وصفه دقيق اللملاحظة، واقعي النزعة بلا إسفاف:

مالت إليك ولم تميلي نحوها

وسقتك (لكتوبا) ألذ شراب

فتمنعي أو فاستجيبي حرة

الحسن ملكك فاعدلي أو حابي

والعشق فيك تباينت غاياته

لجمالك الخلاب للألباب

وللشاعر تأملات وابتهالات، وحكمة هي عصارة عمر مديد من التجارب، فهو يجاري مدرسته الأدبية الاتباعية لاعلان شأن العقل، والاتكاء عليه في الشعر، وتمجيد القيم الخلقية الإنسانية العامة، والتزام النهج الإيمائي في الحياة، والدعوة إلى الخير:

وما أنا من يغشى الضلال ميمماً

إلى موقف فيه الرؤوس نواكس

ولكنني أسموا إلى كل غاية

تؤطرها الأخلاق والحق شامس

فما قيمة الإنسان إن ذل نفسه

على مذبح الأهواء والليل دامس

وما قيمة الإنسان إن زال خوفه

من الله.. أو رانت عليه الحنادس؟

على أن تلك النزعة العقلية لديه أسلمت شعره إلى لون من المباشرة والتقريرية، ربما لأنه بدأ حياته الأدبية ناقداً، ومعلماً، فهو حريص على الوضوح الفكري في شعره والإلحاح على الفكرة شرحاً وتفصيلاً، متجاوزاً وصيته أن الشعر لمح، كما أسلمته نزعته العقلية التقريرية إلى الواقع، فلم يحتل الخيال الشعري مكانة مرموقة في شعره سواء في مستوى التصوير البياني أم في مستوى التخيل الإبداعي إلا في حدود ضيقة، وهو إن التمس البيان استمده من واقعه أو من صور مستعارة من التراث. مثل: (في لفة تحكي شميم عرار.. تفيض مكة على الوجود عطاءها بحراً وهو قراح.. شبه الجزيرة ابتلاج صباح ومنارة.. كخطو طيور الحجل..) ونادراً ما نعثر على صورة مبتكرة مثل: (ويالفظة تعزف ترن على مسمعي ترزن)..

وإن هذا الوفاء من الشاعر للتراث والتقاليد الأدبية، والنهل من معينها، يجعله من أكثر الشعراء التزاماً للنهج الشعري العربي، يساعده على ذلك مخزون أدبي ولغوي أصبح جزءاً من شخصيته الشعرية إلا أن عبد الله بن إدريس يجهد في اظهار الأفكار والصور الطريفة أحياناً.. كقوله في نهر النيل بمصر:

يا نيل يا منجباً مصراً وعاشقها

كل سوى عشقك المنهوم كذاب

يجري الزمان كما تجري بساحتها

وأنت والزمن المخضر أصحاب

أو قوله في تحية مجلة (الفيصل) بمناسبة صدور مئة عدد منها:

نوّارة حاضناها الطل والطفل

ونبتة بسنا الأحلام تكتحل

رشفاتها من رضاب المجد صافية

على حفا في نهر الشمس تغتسل

فالبيت الثاني يشير إلى معنى معاصر يتصل بتمجيد الفكر والاشادة بالفكر الصريح والصادق الذي تبثه المجلة خلال الصور المحلقة (الفكر يغتسل بنهر الشمس) وهي صورة حافلة بالحركة فيها حيوية وتشخيص راقص.

ويعني ذلك أن الشاعر عبد الله بن إدريس يملك الخيال الشعري المتألق، إنه يمثل شخصية الأديب متعدد المواهب، ولا يحتل الشعر في نتاجه الأدبي إلا جانباً فكان نصيب الشعر من الجودة لديه، بمقدار ما نذر له من وقته ونفسه وهذا مما يثبت أهمية التفرغ للعمل الأدبي والجهد في الابداع وهما لا يقلان أهمية من الموهبة.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة