Culture Magazine Monday  31/12/2007 G Issue 227
فضاءات
الأثنين 22 ,ذو الحجة 1428   العدد  227
 
مايا الظاهرة والحقيقة
رحمة الزبيدي

 

 

تقول مي في حديث لها عن الأقلام النسائية:

(والجمهور يرقبنا بنظرةٍ خاصة تائقاً إلى تصفُّحِ نفس المرأة في ما تصِفُ به ذاتها

و ليس في ما يرويه عنها الكاتبون).

ولأنني - بالمثل - أرى أن خير من يكتب عن المظاهر النسائية العميقة هي امرأة؛ أعتقد بإيمان أيضا ً أن الكتابة عن معاناة الروح لمي،إنما تستطيع تصويرها بطريقة قريبة من الواقع امرأة مثلها.

امرأة لها من الأخيلة الأنثوية كما مي، وتقع في مجتمع شرقي كمي، و أدركتها حرفة الأدب كما رفيقتها مي.

مي زيادة، امرأة أثارت الوجد وحركت قلوب مثقفي عصرها.

كانت من الندرة في ذلك الوقت بحيث أنها فاقت كثير من رجال زمانها بتعدد مواهبها، فكيف بنساء ذلك العصر الذي كان يطغى عليه الجهل، أو أنصاف المتعلمين.

ومن منا لا يعرف مايا؟

ربما لا يعرفها الأكثر كأديبة، ناقدة، متعددة اللغات، و كضاربة موسيقى، وصاحبة خط بارع، لكن يعرفها الأعظم منا كعاشقة.

كانت لمي حكايات مع الرافعي نُسج من ظلالها أعظم كتب العربية في فلسفة الحب. وتأتينا قصة حب أخرى لها: وقد كسر العقاد قلبها بسارة، ثم آخرين كثر!.

وتوقفت محطات التأريخ لقلبها بجبران وذلك الحب الأسطوري عجيب الملابسات. وهكذا نحن نعرفها أكثر، أو هكذا نحن نحبها أكثر؛ لأننا هناك نراها كعاشقة حقيقية. تصلنا رسائل شوقها والتهابها، ونعيش معها - بشغف وفقد لاذع - بعد الحبيب وانقطاع رسائلهما مرتين: مابين حرب عشق، ومابين حرب دول! ثم يكون انطفاء الشعلة بها بانطفاء أبويها وجبران في سنوات ثلاث متتالية.

كل هذا لا يعنيني صدق التاريخ فيه، ولا تحليل حكايات حبها، ومن أحبت، ومن أحبها من طرف واحد.

لكن مايهمني حقاً هو ذلك السر لمي وهي تترك بأبها مشرعاً على مصراعيه لمعجبين كثر، كان لهم صيتهم في العلم والأدب.

هل كانت مايا - الذكية الجميلة الرقيقة - وهي تترك الحبل على الغارب لكل مثقفي زمانها بأن يعشقوها كما يريد كل أحد منهم، إنما تفعل ذلك لتثري في نفسها حب التملك والمباهاة بالجاذبية كأي امرأة؟.

عندما أفكر في مايا محافظة، معتزلة، وفي غاية المعرفة أجد أن مقايستها بذلك المقياس الذي قاله لي شاعر: (لو كان بيد كل امرأة أن تجعل كل رجال الأرض يعشقونها، لفعلت) يبدو قياساً ظالماً لها ولقلبها ولعقلها

ربما مايا فتحت الباب لرجال كثر، ولكنها يقيناً لم تفتحه حباً بل بمودة الأصدقاء، وكانت في ركضها ذاك إنما تبحث عن رجل وحيد يقدرها كمفكرة، خارجة عن إطار الأفكار المقولبة عن أنثى.

وإلا ما معنى هذه المرارة التي نجدها تلوح من خلف هذه السطور لمي؟

(يزعم الجمهور أن رغبته في تذوُّق إنشاءِ المرأة لا تُعربُ عن إكبارهِ لذلك الإنشاء، أو عن إقراره بصدق الفراسة منها. وإنما لأن في كتاباتها مظهراً من مظاهر الذات النسائية العامة.

خطوةٌ صالحة نحو تكريم الأدب النسائي، إلا أن فيها من الظلم و غمط الحقوق ما فيها)

***

ولأن الطيور على أشكالها تقع، ولأن وجود امرأة استثانية العقل كان نادرا؛ فإن مي آثرت رفقة العقول الرجالية، بروحها المصروعة بالأدب والباحثة عن المعرفة، على رفقة نساء لم يكن ليفهمن أي من خطراتها.

فوقع الأدباء في حبها كأنثى، ووقعت هي في صداقتهم كمفكرة، محافظة على تلك الكبرياء لرجولتهم بذلك الاحتواء لأنثى، تأنس بالتعاون وتنفر من المنافسة.

ما كانت مي تبحث عن حبيب يتملق فكرها ويعشق أنوثتها، كانت تبحث عن مفكر يعلي عقلها ثم يحب أنوثتها من بعد، ولذلك ربما عشقت جبران وهي ترى فيه ذلك الرجل الذي يعلي من مواهبها كامرأة مختلفة، ثم يحبها بحب مترفع لا تظهر فيه صورة الجسد.

نعم تحب المرأة -بما فطرها الله من حب التزين - أن يُنظر لجسدها وخاصة ممن تحب بكل تلك الدهشة للإغراء، ولكن المرأة المثقفة تحب أولا ً أن يُعترف لها بذلك الجهاز القابع خلف عينيها.

ألم تصادر الكاتبة الفرنسية (جورج صاند) حقيقتها كأنثى، وهي تختار لنفسها اسماً رجاليا، محاولة من خلاله تمرير أحاديث قلبها عبر مجتمع كانت النساء فيه للمباهاة وإكمال الصورة الأخرى للرجل لا غير.

ولكن هيت لكما يا رفيقتا الأدب.

ما كانت المرأة في نظر معظم الرجال وعند كل الشعوب إلا أنثى، للحب والتوله والعشق. وإن نساء الدنيا بمعظمهن لهن نسبة متضخمة - يحاسبن عليها - في تكريس تلك النظرة للمرأة. وأصابت تلك الكاتبة كبد الوجع:(الحمد لله أني لم أخلق رجلا ً، لكي لا أتزوج امرأة).

غير أنه للحق، وبعيداً عن التعميم، فقد أثبت التاريخ مرة تلو المرة، وبتجربة أنثى تلو الأخرى:أن الرجال المثقفين قليل منهم من يخرج عن ثقافة مجتمعه ويعامل المرأة المثقفة بالندية معه، دون النظر لها كأنثى.

إن المثقفين عندما يمنحون بعض الاحترام المتملق أحياناً للمرأة المثقفة، إنما يفعلون هذا تحت تأثير الدهشة الأولى من أنوثة عاقلة، لم يتوقعوا أن تُوجد في حيز دائرة تأثيرهم. معظم المثقفين بشر حصلوا على ثقافة أرفع فقط من ثقافة مجتمعهم، ولكنها ثقافة لا يمكن أن تصنع ثورات حقيقية في أرواحهم تجعلهم ينظرون للمرأة بندية في أمور الثقافة- بعيداً عن الأمور الأخرى التي لا أعالجها هنا - تماثل ما يعامل به بعضهم من نفس الجنس المذكر.

إن السيادة للقوة والكثرة، ولذلك ساد الرجال في أمور الثقافة وضاعت النساء.

رحماك ربي بقلب مايا، وجورج، وبقية المثقفات.

- جدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة