Culture Magazine Monday  31/12/2007 G Issue 227
قراءات
الأثنين 22 ,ذو الحجة 1428   العدد  227
 
التوظيف الأسطوري في أحلام السندباد الأعمى
د. أسماء أبوبكر

 

 
يوظف الخطراوي دال (السندباد) كرمز أسطوري تاريخي على مستوي الرؤية الشعرية، إذ يدعم البنية المعمارية لقصيدته بنصوص جديدة، يستدعي دلالتها لتمتزج مع الدلالة الحاضرة للنص الشعري, كما يكون لهذا التوظيف أبعاداً فكرية وجمالية.. يتناص من خلالها زمنان زمن قديم وزمن جديد، وتختلط روافد المعرفة القديمة بروافد المعرفة الجديدة، وبالتالي يندلع الصراع بين روافد الثقافتين في الخطاب النصي، وقد تمثل ذلك في قصيدة (وعميت أحلام السندباد) من ديوان (ثرثرة علي ضفاف العقيق)* يقول:

(إلى أين تمضي بي الأمنيات؟)

وهذا المساء يصاولني

ويطوف بمركبتي

ويحجب عني المدى: ص93

إذ يرتدي الشاعر قناعاً (سندبادياً) كما تضفي الشخصية التراثية على الخطاب الشعري أجواءً من ألف ليلة وليلة، وبالتالي تمتزج شخصيتان: شخصية معاصرة وأخرى تراثية، لتطرح أبعاداً إيحائية ودلالية، وتأتي بنية السؤال إلى أين تمضي به الأمنيات؟! لتمثل مفتاحاً إشارياً يلج به الشاعر إلى عالم ألف ليلة وليلة، ومن ثم ارتداء ملابس السندباد، وامتطاء جواده, والولوج إلى عالمه, ومغامراته، والشاعر يصور رحلته في الواقع المعيش، تتلاعب به الأمنيات، ويستحضر جواً من الرحيل المبهم الذي تعمقه أداة الاستفهام (إلى أين)، يتشابه مع رحلة السندباد إلى واقعه المادي, ليعري الشاعر ذاته عن عجزها حين تتلاعب به الأمنيات، ويتعبق النص الشعري بأجواء أسطورية، مما يضفي على المشهد الشعري طابعاً سحرياً، وإذا كانت رحلات السندباد وأسفاره محاطة بالمغامرة والتجوال، فإن مغامرات سندباد العصر الحديث، تتمثل داخل ذاته من أجل استكشافها وسبر أغوارها ،ومن ثم تصبح (الرحلة) قاسماً مشتركاً بين الشخصيتين: التراثية والمعاصرة، وإن امتزجت كلتاهما في كيان واحد، يتبدى في ذات الشاعر السندبادية المرتحلة، ولكنها رحلة محاصرة بالضياع في الجزر النائيات عبر منافذ الخوف, وقد استهلها الشاعر بالإبحار داخل ذاته، إلا أن فعل الخارج يكبله ويقتل طموحاته.

وإذا كانت الأهوال والمخاطر قد أحاطت بسندباد الزمن القديم في رحلاته السبع، فإن رحلة الذات الإنسانية في بحار الواقع المعيش، قد ارتبطت (بالمساء) الذي يلاحق الذات ويحيطها بالمخاطر والأهوال، عبر معاناتها الشفيفة، وتطلعاتها للانعتاق من السكونية والخوف، وتأتي الصورة الفنية لتتجاوز التعبير عن هذه المعاني في صورتها المباشرة، إلى التعبير عنها في صورتها الرامزة، فتصور خيبة الأمل والإحباط، اللذين يلاحقان الذات الشاعرة، من خلال تصاعد درامي للمشهد الشعري، وعبر تلاحق الحدث الذي يشكل الصورة الفنية:

فيراوغني الوهم

يعبث بي حلم نازح

والدروب اضطراب بين السراب..

كما يجسد النص حركة المعاناة في بعد درامي مأساوي، وتتعمق القيمة الشعورية للمشهد الشعري عبر دال (فيراوغني) الذي يوحي بالصراع والمعاناة، وبالتالي تتجلي في النص ذات ماضية وذات حاضرة، تشيران لأبعاد شخصية (السندباد) وتتراوح الصورة بينهما لتبرز هذه الذات ،التي تتطلع إلي معادل رمزي يبلور الحركة الدائبة والمميتة، التي تلاحق الذات الشاعرة، والتي تشير إلى حركة الحياة نفسها.

ثم يعبئ الشاعر النص بحمولته التصويرية، التي تتقصي التعبير عن توترات الذات وإيقاعاتها الحركية، عبر جدلية (الذات - الوهم) ليؤسس مفهوماً تحويلياً لرحلة (السندباد) داخل ذاته، ويخلص المشهد الشعري لمعاودة بروز العنصر الفعال (المساء) الذي يحضر حضوراً رمزياً فيراه أداة تتناغم مع همومه الذاتية، وتنسجم مع أعبائه الشعرية والتعبيرية، يقول:

فيا للمساء إذا ما تسورني

والرياح إذا ما احتوتني

ورحت أجوب الميادين طلق الجناح

وقد علقت أرجلي بالقيود

فلا من غدو.. ولا من رواح

وتأتي البنية التخالفية القائمة علي التقابل العكسي بين (لا غدو - لا رواح) لتشكل الفضاء الدلالي الخاص بالنموذج (السندبادي) ويتكثف البعد الرمزي المفارق، لبنية النموذج التراثي، الذي يرتبط بتحقيق الأحلام، والذي يتعارض مع النموذج السندبادي المعاصر، ليبرز في السياق ملاحقاً بالقيود، مما يضفي علي صورة السندباد السمة الازدواجية التي تشير للتماثل معه صورياً, وللتخالف على المستوى الدلالي، وأصبحت رحلة السندباد المعاصر رحلة ضيقة محددة (بالميادين) بما يناهض الرحلات السندبادية القديمة وتشير إلى المساحة الضيقة التي تنحصر فيها أحلام الشخصية المعاصرة، ولكن الذات السندبادية الثائرة لا تستسلم وإنما تحاول التملص من قيودها، فتتحدى إعاقتها وتجوب الميادين، لتناهض فعل السلب، وبرغم ذلك تبقى محصلة حركتها في المكان (صفراً) ذلك (الصفر) الذي يبلور الصراع (الما ورائي) ويحدده بالوقوف في ذات المكان، فيكون الشاعر قد وظف أسطورة السندباد توظيفاً غير مألوف، يناهض دلالتها التي تشير للانطلاق وتحقيق الطموحات، ومن ثم ينبني هذا النموذج التراثي بناءً مغايراً للمألوف بما يتوافق والأبعاد الحياتية اللا مألوفة في حياة الإنسان المعاصر، وبالتالي تتناص في الخطاب الشعري شخصيتان وزمانان ومكانان وسندبادان: سندباد ألف ليلة وليلة (وسندباد الدروب المراوغة - سندباد الشاعر)، إنه السندباد المغاير الذي يرتدي ثوباً جديداً، فيبنيه الشاعر بناءً جديداً تبعاً للحالات الوجدانية والنفسية التي يعيشها.

كما يسعي الشاعر إلى إهدار البعد الدلالي القار للرمز الأسطوري، في الذاكرة المعرفية، ليطرح قيماً إنسانية ودلالية جديدة، ليكشف عن الزائف، ويعري الذات الإنسانية عن الخوف الرابض في أعماقها، كما يبرز (التساؤل) كبنية رمزية تجمع بين ذاتين: ذات ترتحل وذات محاصرة، ومن ثم فإن علاقة الذات التراثية بالذات المعاصرة علاقة (الحلم بالحياة) وهي ذاتها علاقة (الاستفهامات بالاستجوابات) إنها علاقة احتواء، لكنه الاحتواء المتخالف الذي يجمع بين الشيء وتفيضه ضمن بنية دلالية واحدة، ومن ثم فإن هذه البنية النصية تميل إلى إبراز واقع الشخصية العربية، التي تطمح إلي الحلم، وتتطلع إلى الترحال في البيئات العربية، ويتحول البحر إلى بؤرة للخوف، أما الجزر التي كانت تتبارك بمغامرات السندباد فتحولت إلى منافذ للموت إنها معاناة الإنسان من أجل الكشف والمعرفة، ومن أجل الكسب المادي والمعنوي في الواقع المعيش، هنا تعود بنية الاستفسارات للبروز مرة أخرى، لتشير إلى تأكيد التعتيم والاستغلاقية:

(إلي أين يتجه السندباد؟) ذلك السؤال الذي لا يهدف إلى إجابة، بقدر ما يهدف إلى طرح ذاته، لتبرز رؤية الشاعر للرمز السندبادي، الذي يشكله تشكيلاً جديداً إذ يعيد (صكه) (وصبه) في قوالب مفارقة، تتخالف مع الأبعاد الرمزية السندباية في رحلاته. وتتحول الرموز عن بعدها الثري إلى بعدها المتهاوي، فتشير (الهند والسند) إلى الخواء والفقر، ليتعمق الشعور بالخسارة المادية والمعنوية التي تعانيها الذات المعاصرة, فشخصية السندباد المعاصر شخصية مقهورة مغمورة في الحصار والخوف، ولكنها تقاوم وتصارع من أجل انتصار الذات على عوامل التمزق والاهتراء، ويبرز ذلك عبر بنية التوزين علي مستويين: الأول تشكيلي والثاني فكري، فعلي المستوي التشكيلي تأتي بنية الأسطر الشعرية متوازية من حيث تركيبها:

وقد عميت سفنه

ودميت قدماه

وهذا التشكيل البلاغي يولد بنية إيقاعية، تلعب دورأ بارزا في تشكيل الدلالة في بعدها الإبلاغي، كما تتشكل بنية التوازي على المستوي الفكري إذ يوازن بين محاولات السندباد بكل طاقاتها الحلمية وبين عناصر التمزق والاهتراء التي يوحي بها دالا (عميت) دميت) وبالرغم من أن هذه الحركة تتسم ببعد فكري، إلا أنها تمتزج ببعد شعوري أيضا، وبالتالي تندمج حركة العقل مع حركة الشعور والوجدان، من أجل بنية النسق الرمزي المعاصر لصورة السندباد.

*محمد العيد الخطراوي ثرثرة على ضفاف العقيق دار الكنوز الأدبية 1423هـ


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة