Al Jazirah Magazine Tuesday  03/04/2007 G Issue 213
الفن السابع
الثلاثاء 15 ,ربيع الاول 1428   العدد  213
 

كلينت إيستوود يغير مفهوم البطولة
قصّتان في موقع واحد

 

 
* هوليود - محمد رضا:

بينما كان النقد العربي غارقا في المسميات (هذا رجعي وهذا تقدّمي) ويعامل الأفلام كمنشورات سياسية، كان كلينت ايستوود يبدأ بنقد الصورة المحفوظة عن البطل والبطولة. وذلك عندما كان ما زال في أوج نجوميّته وشبابه السينمائيين.

ليس النقاد العرب وحدهم، بل آخرون في أمريكا وأوروبا، تأخّروا في الاستنتاج. شخصية ايستوود على الشاشة (بصرف النظر عن أفلامها) تدرّجت من البطل في صورته التقليدية التي أسسها له سيرجيو ليوني ودونالد سيغال اليه في صورة يشوبها الغموض وتنال منها السلبيات المحفورة في الداخل. وما بدا لدى الناقدة الأمريكية المعروفة بولين كايل ظهوراً عنيفاً فاشياً (في ديرتي هاري وقد كان ذلك، لكن أليست مسؤولية مخرجه دوونالد سيغال أيضاً، وربما أساساً؟) تحوّل لاحقاً إلى نقد صارم للعنف وسخرية من السلوك المؤدي إليها. كان ذلك مفاجئاً إلى حد ما، وربما لم يستطع النقاد في أوروبا والعالم العربي التغلّب على الصدمة، فلم يصدّقوها. لكن من حين أن أخرج ايستوود فيلمه الأول (أعزف لي ميستي) عام 1971 وضع في مرماه النيل من الصورة الذهنية المحفوظة عن البطولة. ثم انتقدها في فيلمه الوسترن (الخارج عن القانون جوزي ولز) عام 1976 ثم ليكررها لاحقاً في (الفارض) في نفس العام و(برونكو بيلي) و (وقع مفاجئ) و(حبل مشدود) في الثمانينات، ولاحقاً في فيلمه الوسترن أيضاً (غير المُسامَح) عام 1992 وعدد آخر من أفلام التسعينات.

احتلال

في فيلميه الأخيرين عزوف ايستوود الممثل لنقد البطولة، الذي امتد لأفلام لم يقم بتمثيلها بل اكتفى بإخراجها وإنتاجها، يتمثّل كاملاً. إنهما (رسائل من إيوو جيما) و(رايات آبائنا). الأول هو الفيلم الرديف للثاني في مبادرة لم يسبق إيستوود إليها أحد فهو صنع فيلمين حول موقعة واحدة من وجهتي نظر. للتوضيح، لم يصنع فيلماً حول وجهة نظر في حادثة من زاويتين متقابلتين. هذا مختلف. (رسائل من إيوو جيما) ينتقي الحديث عن اولئك الجنود اليابانيين الذين تُركوا لمصائرهم من قبل قيادتهم ومحاولة القيادة المحلّية مجابهة المستحيل بالنصر اوّلاً ثم بالموت في سبيل الوطن ثانياً. (رايات آبائنا) ليس عن الوضع نفسه او معكوساً لدى الأمريكيين. بل عن ثلاثة جنود من الذين رفعوا العلم فوق إحدى قمم الجزيرة (من أصل ستة او سبعة) كان عليهم المشاركة في الترويج للحرب والاشتراك في حملة جمع التبرّعات من كبار الصناعيين والرأسماليين للغايات العسكرية. الأول يقع معظمه فوق الجزيرة. الثاني يقع متناصفاً بين الجزيرة وبين الولايات المتحدة الأمريكية. الأول حول الهزيمة التي لا تخلو في صميمها من النصر والثاني حول النصر الذي لا يخلو في داخله من الهزيمة. كل ناطق بلغته. الجامع الرئيسي بين الفيلمين المنفصلين هو البطولة، أو في التوضيح، عدمها. كان فيلم رايات آبائنا يبحث في البطولة كما وردت في المسلّمات التاريخية: الأمريكيون احتلّوا الجزيرة قبل أشهر قليلة من إلقاء القنبلة النووية على ناكازاكي وهيروشيما وخرجوا منتصرين. في مطلع هذا الفيلم واحدة من اللقطات القليلة جدّاً المؤلّفة على الكومبيوتر: أسطول كبير من السفن الحربية الأمريكية يقترب من الجزيرة. شعور ممتزج من التوقعات بين الجنود الذين يُتاح لنا التعرّف عليهم. فوق الأرض، يواجهون نيراناً صارمة. لقد اختبأ اليابانيون فوق الصخور العالية بعدما حفروا أنفاقاً تسهل عملية الانتقال في غورها بين الجبال والهضاب. نصبوا مدافعهم القليلة فوق بعض تلك القمم وفتحوها.

غرس العلم فوق الجزيرة

أما في فيلم رسائل من إيوو جيما كان هناك إيضاح لهذا القرار. الجنرال تاداميشي (كن واتانابي) يصل إلى الجزيرة موفداً من قبل الإدارة العسكرية اليابانية لقيادة المجهودات قبيل الغزو الأمريكي. ينظر حوله متفقّداً فيجد أن الجنود يحفرون خنادقهم عند الشاطئ. يأمر بترك تلك المواقع والانتقال إلى أعلى الجبال سامحاً بذلك لموطئ قدم للأمريكيين على الأرض. حين يعرب بعض الضبّاط (وكثيرون منهم لا يعتقدون إنه على خبرة كافية) عن معارضته يخبرهم بأنهم لن يستطيعوا الدفاع عن أماكنهم طويلاً إذا ما بقوا عند الشاطئ. وما أن وصل الجنود الأمريكيون إلى الشاطئ وتقدّموا حتى أنهالت عليهم النيران. في فيلم رايات آبائنا هناك مشاهد أكثر لإيضاح ذلك. القنابل تنفجر في وحول الجنود الأمريكيين الباذلين. بعضهم يتطاير وبعضهم يفقد أطرافاً وآخرون يسقطون في أماكنهم. لكنهم يتقدّمون رغم كل شيء.

بعد أيام، وفي موقع آخر، ثلّة من الجنود الأمريكيين ينصبون العلم. وهنا يكمن بيت القصيد في فيلم ايستوود الأول رايات آبائنا (الأول نسبة لتاريخ عرضه إذ تبعه الثاني بأسابيع قليلة). فالصورة التقطها جو روزنثال الذي كان مصوّراً حربياً لوكالة أسوشياتد برس، وهي صورة، فنيّاً، جميلة وتبدو كما لو كانت عفوية: الجنود مصطفون واحداً تلو الآخر وهم يدفعون بصارية ركّزوا في أعلاها العلم الأمريكي لينصبوه فوق الجزيرة. حين بعث مراسل الوكالة بالصورة اعتبرت تحيّة للبطولة الأمريكية وملهمة. تنادت الأصوات للاحتفال بها ومن ثم بالجنود الذين زرعوا العلم فوق الجزيرة.

الصورة اليابانية

فيلم رسائل من إيوو جيما ينقلنا إلى وجهة النظر من زاوية يابانية صرفة. ليس فقط أن الحوار ياباني (باستثناء أربع مشاهد قصيرة)، بل في صلب الموضوع الثقافة الإنسانية اليابانية والصورة الخطأ المستلهمة من إعلام وأفلام الأمس حول الصراع الياباني الأمريكي في رحى تلك الحرب الطاحنة.

رسائل من إيوو جيما فيلم مصنوع لتقديم صورة متألّقة للياباني من دون أن تكون مزيّفة. إنه عن العلاقات الإنسانية بين الضابط وجنوده، وعن بعض الجنود وبعضهم الآخر. عن تلك الحكايات الخفية القابعة في الذاكرة. ليس الجنود الأمريكيون وحدهم الذين لديهم أحبّاء تركوهم في بلادهم وتوجّهوا لإداء واجب القتال. اليابانيون كذلك أيضاً. ما فعله اليابانيون هو الدفاع عن أرض في حرب خاسرة. ما فعله الأمريكيون كان الهجوم والإنتصار والموت على حد سواء.

وبينما يقوم رايات آبائنا على مشاهد كثيرة تنتقل ما بين أرض المعركة وبين الحياة في الجبهة الداخلية على الأرض الأمريكية، هناك القليل المُتاح لمثل هذا الفعل في رسائل من إيوو جيما وذلك تبعاً لمتطلّبات السيناريو. هذا القليل يتيح لنا الإطلاع على خلفية بعض الشخصيات الأخرى: المجنّد الذي كان خبّازاً بسيطاً، وقصّة المجنّد الذي رفض قتل كلب حاولت عائلة إخفاءه. ما يفعله ايستوود عبر هذه المشاهد، ثم عبر المعالجة برمّتها في أرض المعركة الصعبة هو تفتيت الصورة التقليدية التي سادت سابقاً حيث الياباني محارب متوحّش وسادي ومتهوّر.

(بروباغندا ) متبادلة

الصورة التي جسّدها االكولونيل سايتو (كما أداه سيسيو هاياكاوا) وجنوده في فيلم ديفيد لين الجسر على نهر كواي سنة 1975 وسبقتها وتناقلتها أفلام مشابهة أخرى. الحال ليس هكذا في رسائل من إيوو جيما. الياباني لديه ثقافة ووعي وهو على شرائح. شريحة واحدة فقط تماثل الصورة الكامنة في أذهان بعض الأمريكيين. باقي الصور مختلفة كلياً. وهي شرائح ثرية جداً. توافق معها او لا أمر يعود إلى مدى قبولك وجهات نظرها. شخصياً وجدت ذلك قائد الفصيلة الذي آثر أن يفجّر نفسه تحت أول دبابة تعبر فوقه حالة رائعة ليس من البذل فقط، بل في حجم المفهوم الوطني بأسره. هذا قائد يرفض أن تُهزم اليابان (حقّه) ويرى في عزوف الآخرين (معظمهم جائع وعطش وخائف) جبناً وخيانة. ينطلق وحيداً.

ايستوود يرسم صورة ساخرة ليست منه بل من قدريّته حين يتمدد ذلك القائد بين جثث يابانية أخرى في انتظار الدبّابة. يعود المخرج إليه بعد ساعات طويلة، لا يزال في مكانه. لا مرّت دبّابة يفجّرها ولا سُنحت له فرصة إثبات وطنيّته. يجلس في مكانه متذمّراً ومحتاراً.

لا رايات آبائنا بروباغندا أمريكية، ولا رسائل من إيوو جيما بروباغاندا يابانية. كذلك لا الفيلم الأول مقصود به نقد الطرف الآخر ولا الفيلم الثاني مقصود به نقد الطرف الأمريكي. بذلك المنقود في الحالتين هي الحرب ذاتها.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة