Thursday 18th February, 1999جريدة الجزيرة 1419 ,الخميس 2 ذو القعدة


يوميات تدعي الحياد
أمريكا وروسيا من منظور الجغرافيا الاقتصادية
د, علي الدين هلال

لا احد يستطيع ان يقرر، على وجه التحديد، كيف سيصف المؤرخون قرننا هذا وكيف سيحددون اسهامه في التاريخ
الانساني، فهو قد يوصف بأنه قرن صعود الفاشية وانتهائها، او قرن صعود الشيوعية وانهيارها، او قرن
الحربين العالميتين الاولى والثانية، او قرن تصفية الامبراطوريات مثل الامبراطوريتين العثمانية
والنمساوية/ المجرية، او قرن تصفية الاستعمار الاوروبي التقليدي وثورات الشعوب واستقلال دول آسيا
وافريقيا، او قرن الثورة العلمية والتكنولوجية، او عصر غزو الفضاء، وربما يوصف هذا القرن بأنه قرن
التنافس الروسي/ الامريكي من اجل السيطرة العالمية,
ولا شك ان هذا الوصف الأخير يركز على إحدى القسمات التي حكمت التاريخ السياسي والاجتماعي للقرن
العشرين، طوال المدة ما بين عام 1719 وهو سنة قيام الثورة البلشفية، وعام 1991 وهوسنة سقوط الاتحاد
السوفيتي وانهياره, وبين هذين التاريخين كانت العلاقات الروسية/ الامريكية عاملاً هاماً في تحديد حالة
السلام والأمن في العالم، وبالذات بعد الحرب العالمية الثانية، وتوسع النفوذ السوفيتي في شرق اوروبا،
واذا كان القرنان السابع عشر والثامن عشر قد شهدا نفوذ اسبانيا والبرتغال، وشهد القرن التاسع عشر نفوذ
انجلترا وفرنسا فان القرن العشرين هو قرن الصعود التاريخي لكل من امريكا وروسيا,
ومن المثير للدهشة ان الباحث يمكن ان يرصد الكثير من عناصر المقارنة والتشابه بين هاتين الدولتين او
هذين المجتمعين وهو ما تنبه له المؤلف الفرنسي الكسي دي توكفيل في كتابه الديمقراطية في امريكا الذي
نشر لأول مرة في سنة 1835 والذي كتب فيه انه يوجد الآن في العالم امتان عظيمتان، يبدو انهما تتجهان الى
نفس الهدف رغم انهما بدأتا من نقطتين مختلفتين اني اقصد بذلك الروس والأمريكيين، لقد نمت كل منهما دون
أن يلحظ احد، وبينما كان اهتمام البشر موجها الى مكان آخر، فقد احتلتا فجأة مكاناً بارزاً بين الأمم،
وادرك العالم وجودهما وعظمتهما في نفس الوقت تقريباً,
ويمضي توكفيل في شرح وجهة نظره بالقول: انه بينما تبدو جميع الأمم الأخرى وكأنها قد بلغت حدودها
الطبيعية، ولا شاغل لها سوى المحافظة على ماحققته، فان هاتين الأمتين ما زالتا في طور النمو، وتتقدمان
بسهولة وسرعة على طريق لا تستطيع العين المجردة ان ترى له نهاية، يناضل الامريكي ضد العوائق الطبيعية
التي تعترض طريقه، اما الروسي فان خصومه من بني البشر, ولذلك فان احدهما (امريكا) كما يقول توكفيل يحقق
انتصاراته بسلاح المحراث، بينما يحققها الثاني (روسيا) بالسيف, ويعتمد الأمريكي من اصل انجليزي على
المصلحة الشخصية لتحقيق اغراضه، ويتيح مجالاً حراً لجهود المواطنين معتمداً على حسن ادراكهم، اما الروس
فانهم يرسخون كل سلطة الدولة في يد واحدة هي سلطة القيصر, فاذا كانت ادارة المجتمع الأمريكي من اجل
البناء تقوم على الحرية، فان ادارة المجتمع الروسي تنهض على العبودية, ووصل توكفيل الى القول بأنه رغم
اختلاف نقطة الانطلاق بالنسبة لكل من الأمتين واختلاف الطرق التي يسلكانها، فمع ذلك يبدو ان الله قد
اختار كلاً منهما ليتحكم في مصير نصف الكرة الأرضية,
ولم يكن من الممكن ان يكون توكفيل دقيقاً تمام الدقة في الملاحظات التي ابداها، والتنبؤات التي اوردها:
من واقع مشاهداته في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، ولكن تطور التاريخ اثبت سلامة جوهر افكاره وهو
صعود امريكا وروسيا باعتبارهما القوتين العظميين للقرن العشرين,
والتشابهات بين البلدين كثيرة، وكذا الاختلافات ايضاً، ونريد في هذا التحليل ان نبرز بعض جوانب
الجغرافيا الاقتصادية والسياسية للبلدين، والتي كان لها شأن كبير في تحديد مسيرة كل منهما, فكلاهما
بحجم قارة كبيرة، وقد كان ذلك - اضافة الى المناخ السيىء - عنصراً معوقاً للتطور الروسي في كثير من
الاحيان ولكن بعض المفكرين الاستراتيجيين امثال ماكندر، اعتبر السيطرة على قلب الأرض بمثابة مفتاح
النفوذ الدولي وان سيطرة روسيا على مساحات كبيرة في اوروبا واسيا يؤهلها لأن تكون قوةدولية من الطراز
الأول,
والخلفية الطبيعية للدولتين تصلح اساساً لبدء المقارنة، فالاتحاد الروسي والولايات المتحدة يتقاربان من
حيث عدد السكان والمساحة (اذا ادخلنا كندا والمكسيك في اطار امريكا الشمالية) ومن حيث ان الاراضي
الزراعية في كل منهما تتاخم مساحات شاسعة من الاراضي البور التي لا تصلح للزراعة بسبب المناخ, وفي
امريكا الشمالية تمتد هذه الارض غرباً من شاطىء الاطلنطي الى خط طول مائة تقريباً، ومن خليج المكسيك
شمالاً الى الحافة الجنوبية لكندا، ومقابل ذلك يوجد في روسيا منطقة المثلث الخصب الذي يمتد من اطراف
ليننجراد على بحر البلطيق واوديسا على البحر الأسود الى الشرق من جبال الأورال,
واذا دققنا في هذه الفكرة، ونظرنا أولاً الى البحر سوف نجد انه بالرغم من ان ساحل روسيا ممتد لمسافات
طويلة الا ان جانباً كبيراً منه يقع الى الشمال من الدائرة القطبية، ولذلك ليست له فائدة كبيرة حيث انه
لا يصلح للملاحة او التجارة بسبب تجمد المياه طول السنة، وكان احد انطلاقات روسيا التاريخية موجهاً نحو
موانىء مفتوحة جزءاً من السنة على الاقل على بحر البلطيق اولاً ثم البحر الاسود، واخيراً المحيط
الهادىء, من ناحية اخرى حظيت امريكا الشمالية بساحل قابل للاستغلال رغم ان جزءا كبيراً منه ايضاً يظل
متجمداً معظم السنة ومع ذلك فانه باستثناء حالة الاسكا فان الولايات المتحدة لم تزعجها هذه المشكلة
بسبب وجود المحيط الاطلنطي وخليج المكسيك والمحيط الهادىء,
وفي القرن الثامن عشر كانت مدينة سانت بطرسبرج والمدن الاخرى الواقعة على البلطيق تشكل نافذة على
الغرب، فأبقت على اتصال روسيا بالحضارة الأوروبية التي امتدت عبر الأطلنطي الى بوسطن والموانىء الاخرى
الامريكية ويمكن عقد اوجه الشبه بين استيلاء امريكا على بحرها المتوسط وهو خليج المكسيك على مرحلتين
هامتين خلال النصف الاول من القرن التاسع عشر واستيعاب روسيا - قبل ذلك ببضع سنوات - للشواطىء الشمالية
والشرقية للبحر الاسود، منفذها الى البحر المتوسط ويمكن في هذا المجال ان نجد تقارباً بين القرم
والساحل الشمالي للبحر الاسود وبين ولاية لويزيانا كما يمكن المقارنة بين الدور الذي لعبته اوديسا
كمركز للصادرات الزراعية في روسيا والدور الذي لعبته ولاية نيو اورليانز في القرن التاسع عشر,
واذا ما تركنا البحار، واتجهنا الى الداخل على طول الأنهار التي لعبت دوراً هاماً في تاريخ الدولتين،
سوف نجد ان مدينة كييف نمت على نهر الدنيبر، وتسلل اليها الشماليون الذين قدموا عبر نهر دفينا الغربي
والانهار الاخرى، بنفس الطريقة التي تسللوا بها الى امريكا على طول نهر سانت لورانس، ومع نمو موسكوفيا
،(وهو الاسم القديم لروسيا) اصبحت الانهار التي تنبع من تلال فالدي الى الغرب من موسكو تشكل شرايين هامة
للمجتمع الجديد، ولم يقتصر ذلك على الدنيبر ودفينا الغربي فقط بل شمل ايضا نهري الدون والفولجا
وروافدهما، وقد اشتهر بين هذه الأنهار الفولجا، الذي كان يمكن ان تكون له قيمة اكبر، لو انه كان يصب في
البحر الأسود، بدلاً من بحر قزوين المحصور وسط اليابسة واقرب الأنهار الامريكية شبها بنهر الفولجا، وهو
المسيسيبي الذي لم تبرز اهميته حتى القرن التاسع عشر, وقد ساعدت الأنهار البعيدة عن المراكز الاولى
للحضارة على الاستكشاف والانتقال عبر الانهار الموجودة بها، سواء الى سيبيريا او الى اسيا الوسطى او
الى الباسفيك الروسي او نزولاً الى الجنوب الغربي الامريكي على طول نهر كلورادو وصعودا الى الشمال
الغربي على طول نهر كولومبيا ومن كاليفورنيا الشمالية الى كاليفورنيا الجنوبية على طول نهر ساكرمنتو
وسانت جواكين,
اما بخصوص الأراضي الزراعية فقد كان الاتحاد السوفيتي السابق يمتلك مساحة اكبر ولكن انتاجه من المحاصيل
لم يصل قط الى مثيله الامريكي وبالطبع توجد اسباب تكنولوجية وتنظيمية واخرى تتعلق بالنظام السياسي
السائد تفسر لنا هذه المفارقة ولكنّ هناك سببين طبيعيين ينبغي ان نأخذهما بعيني الاعتبار:
السبب الأول: هو ان جزءاً كبيراً من الاتحاد السوفيتي كان يقع في اطار منطقة القطب الشمالي، بينما لا
ينطبق ذلك في حالة امريكا الا على جزء من ولاية الاسكا وثلث مساحة الاتحاد السوفيتي تقريباً كانت مغطاة
بالغابات الشمالية وتنتشر فيها السهول الجرداء والمعزولة في تلك المنطقة القطبية الشمالية اما في
الولايات المتحدة فلا وجود لذلك سوى في الاسكا,
والسبب الثاني هو ان شكل الاتحاد السوفيتي المتمثل في صورة متوازى اضلاع منحرف مترامي الاطراف قد اسبغ
عليه مناخاً قارياً يزداد شدة كلما اتجهنا نحو الشرق، مما يجعل الزراعة في حكم المستحيل، فالبرد قابع
في الشمال والجفاف كامن في الجنوب، ولم يوجد في الاتحاد السوفيتي مثيل لمنطقة حزام القمح او منطقة حزام
القطن الموجودتين في امريكا، وحتى منطقة المثلث الزراعي الخصب الذي يوجد في روسيا، تتميز بمناخ قاري
بارد شبه جاف، قريباً من جو اقليم القمح الربيعي في مناطق البراري بكندا وولايتي داكوتا في الولايات
المتحدة، وهذه المناطق تتسم بقلة انتاجها بسبب ضعف الامطار وعم انتظامها وقصر الموسم الزراعي لذلك، فان
الزراعة في منطقة المثلث الخصب، شأنها في ذلك شأن منطقة القمح الربيعي الأمريكي تغلب عليها الحبوب
وخاصة القمح، وتمتد اخصب الاراضي الروسية (التربة السوداء) في شريط فسيح على طول الحافة الجنوبية
الشرقية للمثلث ولكن يعرقل من انتاجيتها نقص الأمطار,
اما الادوار التي لعبتها الغابات الروسية والامريكية الداخلة ضمن نطاق الاراضي الزراعية في السهول
والبراري فقد كانت بارزة فعن طريق اقتطاع اجزاء صغيرة من اراضي الغابات واحتراق اشجارها او اتباع وسائل
الزراعة في الوديان، ناضل سكان الحدود في كلا المجتمعين بصورة بطولية ضد مشكلات طبيعية ضخمة، ومن بين
اسباب الاختلافات القائمة بين تاريخي الدولتين قلة اهمية الجبال نسبياً ابان توسع روسيا, فجبال الاورال
لا تزيد في كثير من الحالات عن كونها تلالاً عالية، كما ان جبال القوقاز لم تكتسب اهمية قبل القرن
التاسع عشر، اما في امريكا فقد كان لجبال الأبالاش آثار هامة، وكان عبور سلاسل جبال روكي واحداً من اهم
احداث المسيرة الكبرى نحو الغرب,
فاذا ما تحولنا عن الأرض ونظرنا الى الموارد الطبيعية، فاننا نجد ان الاتحاد السوفيتي السابق امتلك
موارد هائلة من: مصادر الطاقة، وخامات الحديد والموارد المعدنية والمنجمية الاخرى ولكن ما اعاق
استخدامها ان تكلفة استغلال هذه الموارد كانت هائلة كما ان الاوضاع السياسية والاقتصادية لم تشجع على
المنافسة والابتكار وورثت روسيا الجزء الاكبر من هذه الموارد الطبيعية ولكن مازال عليها ان تنشىء
الاطر الاقتصادية والتنظيمية الضرورية لاستثمارها,
ونستخلص من العرض السابق امرين: الاول: ان الاتحاد السوفيتي السابق واجه عراقيل ومعوقات طبيعية كبيرة،
ولم يتمتع بنفس حجم الموارد او سعة الاقتصاد التي امتلكتها الولايات المتحدة ولم يتنبه القادة السوفيت
لهذه الحقيقة الاساسية، ومن ثم فان دخولهم في تنافس طويل الاجل مع امريكا كان يعني في واقع الامر
الاستنزاف المنظم لقدرات شعوبهم, والثاني: ان العبرة ليست بامتلاك الموارد الطبيعية ولكن بالقدرة
الفعالة على توظيفها واستثمارها واستغلالها وبوجود العلاقات الاجتماعية والاقتصادية الضرورية لتحقيق
الاستخدام الرشيد والكفء لهذه الموارد,

backtop
الاولــــى
محليـــات
فنون تشكيلية
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
شعر
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
مئوية التأسيس
الاخيــرة

الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved