Sunday 7th March, 1999جريدة الجزيرة 1419 ,الأحد 19 ذو القعدة


قصة قصيرة
الغُصة

كان يبدو انها خرجت من حوار مرّ مع دواخل صدرها، فرأت ان لا حول لها إلا من مخرج هذا الطريق.
حزمت نواياها، وجبرت كسير عزيمتها، وأوكلت مبرئ الامراض شأنها، وجاءت ملفوفة بالسواد كمِرودِ الكحل، تضلع خلف زوجها الشايب، إلى المستشفى ولم يكن يغيب عن المنتظر أمام وحدة (الكلية الصناعية)، انها غير ذات عهد قريب بالمراجعة الشبه اليومية, إذ ما لبثت الممرضة ان أطلت بوجهها الكمثري اليانع لتنادي باسمها,, بعد دقائق من وصولها.
جردت العجوز عباءتها ورطمت بها في حضن الشايب، ودخلت بخطوات تخط على البلاط كان لسانها يهمهم:
(توكلت على الله,, هم، يعلم,, بحالي,, هم، ما بعد ندري، متى يتوب عليّ من هذا العذاب,, هم).
كان الشايب الذي سلمها كل بصر عينيه الثابتتين خلف نظارته يشد بأصابع يده على العباءة المدهوكة في حجره، ويستند في قعدته باليد الاخرى على رأس عصاه الطويلة، التي تجاوزت جبهته, سيقعد على جفاف الكرسي البلاستيكي الابيض، ساعات بالتمام اربع، وعلى الله يمضي الوقت الرابض كالهضبة، والذي لا يعرفه إلا المنتظر.
***
في الوحدة الفسيحة، والمكتظة بالمكائن والسرر والمغاسل والمرايا، والممرضات,, دعتها تلك التي تضع فوق راسها الشارة البيضا، إلى مغسلة الايدي، وأجهدت لسانها لتوضح للعجوز، وبنثار من العربية مرتق,, ان عليها غسل ذراعيها إلى المرفقين بالماء والصابون.
بعد برهة من التردد، دلفت الى المغسلة وفمها يموج بالهمهمة,, بان للسامع منها: (كل يوم أتوضأ خمس مرات,, الحمد لله نظيفة), لم تفهم الممرضة الفلبينية، وألحت في استعجالها حيث فتحت لها صنبور الماء، وضغطت على محتوى لدن فوق المغسلة فسال الصابون.
مررت العجوز السائل المتزحلق، على ذراعيها المكشوفين، والخاليين من اي حلي,, الى المرفقين و,, تمضمضت,.
***
قالت للطبيب بصوت مسحوب، إنها لا تنام في الليل، وان اذنيها الساهرتين,, تستوفيان كل آذانات الصبح في المساجد، ولا تنقطع تقلباتها على جنبيها إلى آخر صوت ديك يغيب في حركة الفجر,
قالت، إنها تقرأ فاتحة الكتاب، والمعوذات، وتدعو بدعوات الصابر المستغيث، ولا يجيؤها النوم.
قالت : رضيت بالمرض، واحتكمت لخالقي، و: (المؤمن مبتلى يا,, ولدي).
وقالت كلاما كثيرا، فهم الطبيب منه انها تشكو الوجع وقلة النوم.
كان الطبيب هذه المرة من بلد عربي، مما زادها اطمئنانا لتقول ما بداخلها.
قال الطبيب (الله يوصله لاهله),, ابشري يا والدة، سأكتب لك حبوبا، وذهبت تكيل له الدعوات، بينما تسابقت حركة يدها الطليقة نحو السقف باسطة راحتها، ثم انخرطت في نشيج طويل، حتى ذاقت طعما كالملح تحت لسانها، وغصت بلاعمها بدفعات هوائية مرة ومتصلبة، واستنشقت سوائل أنفها المتقطعة,.
***
كنت في السرير المقابل استسلم لدبغ كريات دمي، وكانت ماكينة الغسيل تبعث صفيراً حاداً على اقساط متباطئة، لايمكن للاذن ان تخطئ معرفته مهما امتزجت به الاصوات.
كان قلبي يعج بالالم، وكان حلقي الجاف يندس في مرارة آسنة، وكان الوقت الهاطل بالبرودة، ينفذ رماديا من زجاج النافذة فيبين دخول المغرب.
و,,, كان الشايب الذي ينتظر زوجته خارج الوحدة قد تململ في قعدته اليابسة على الكرسي مائة مرة,, ولكن بقي من الوقت ساعتان، وفي شتاء الباحة سنتان لا ريب.
* من مجموعته القصصية (جاردينيا) دار كنوز - 1998م.

backtop
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
القرية الالكترونية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
العالم اليوم
مئوية التأسيس
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved