الدكتور: عالي القرشي لالجزيرة الثقافية إلى متى تظل روايتنا حبيسة الذات,,؟ أعمالنا الإبداعية والفكرية المتميزة جهد فردي معزول,,! الرواية السعودية اقتحام لحدود الواقع وكسر لجبروته,,! |
حوار: محمد الدبيسي
** أحسبه من المعنيين بشأننا الثقافي,, المشتغلين على قراءة نماذج خطابنا الابداعي,, والمساهمين بجهدهم المخلص في تكوين خطاب ثقافي حقيقي لذا جاءت هذه المداخلات لاستكناه آرائه في بعض اشكاليات هذا الخطاب وقضاياه المعاصرة,,ولعلها تكشف - هذه الاسطر - بعضا من ملامح الرؤية النقدية التي ينطلق منها الناقد الدكتور عالي سرحان القرشي.
* راهن الكثيرون على أن الثمانينات وما تلاها جديرة في ان تكون مجمولاتها وفعالياتها، ومناشطها المتغير الثقافي الصحي لواقع أفضل لثقافتنا,, الى أي حد نعتبر ذلك الرهان رابحا؟
- الفعل الثقافي فعالية تحاور الاشياء والعالم، وتستنطق المخبوء، وتعمل على انكشافه باتاحة الفرصة لذلك المحمول ان يتكون ويتشكل ,, ولذلك فان الرهان على فترة زمنية يجعل هذا الفعل منبتا، وهذا الانقطاع ليس من سمات الفعل الثقافي الحقيقي، فالثقافة تخلق في رحم الوعي الذي ربما ساعدت الظروف لتهيئة الرياح المواتية والامكانات المادية، والحماس لظهور ممارسات ثقافية كانت ارهاصاتها قبل ذلك وكان التعلق بالجاد منها والاصيل بعد ذلك.
فلاشك ان الثمانينات شهدت جدلا جادا حول المتغير الثقافي، بابعاده الجمالية وخلفياته الفكرية ولم يكن ذلك الجدل الا حول انتاج جمالي بلغ ذروة الالتفاف حوله والحماس له في تلك السنوات التي كان تهيؤ الحوار فيها مفتوحا لان يتغلغل في نسيج الخطاب الثقافي,, بخلاف ما آل اليه الامر بعد ذلك حين لم يبق من هذا الحوار الا العناوين، وحين انصرفت الثقافة عن انتاج نفسها الى الدوران حول تنمية بعض الرؤى في اتجاهات احادية، وبأصوات متشجنة في غالب الاحوال,, وهذا هو مأزق تلك الفترة الي جاء مما بعدها، جاء في الخطأ في تلقيها بعد ذلك، حين آلت الى فعل فردي - لانشك في فعالية الكثير منه - ولكن لم تكن مجالات التفاعل معه بمثل وقود حساسية التلقي في فترة الثمانينات.
* تتابع,, وتقرأ,, معطيات مشهدنا الثقافي من مواقع عدة,, هلا رسمت ملامح ما ,,,, لهذا المشهد,,!
- ربما أشرت في اجابتي السابقة الى خاصية الفردية في مشهدنا الثقافي حاليا، ذلك الامر الذي ارانا أعمالا ابداعية وفكرية نستحق الحوار والنقاش ,, ذلك الامر الذي لم يتم الا من خلال جهد فردي معزول، ويتعمد عزلته احيانا فالروايات الصادرة حديثا، والدواوين الشعرية,, وغيرها من الاعمال الابداعية والاعمال النقدية لم تلق تجاوبا معها من خلال جهد ثقافي يتسنى ذلك من خلال المؤسسات الثقافية,, فحين نلحظ مثلا ما قدمه (الغذامى) خلال الثمانينات وتجاوب الاندية الادبية وغيرها من المؤسسات الثقافية مع ما طرح نجد هناك تفاعلا عميقا مع ما قدم، لكن الامر اختلف بعد ذلك فيما قدمه من رؤى جريئة ناقشت العمق الثقافي، وقدمت قراءة للثقافة العربية في تكونها ومسارها عبر كتبه اللاحقة التي كان آخرها ثقافة الوهم حيث لم يتعمق الحوار مع تلك الكتب النسيج الثقافي بسبب من التشنج في بعض الحوارات، وعزوف المؤسسات الثقافية عن دورها في تنظيم الحوار الهادىء كما هو الحال في الثمانينات، ووصول المؤلف نفسه الى تجربة حسم الحوار فيها مع المتشنج لصالح الفعل الذي يردف عمله بعمل لاحق، ونظرته بنظرة اخرى.
وفي منجزنا الثقافي بعد الثمانينات روايات عدة، ولكن التجاوب معها والحوار حولها بقي محدودا وعلى استحياء احياناً في بعض المؤسسات الثقافية.
ثم ان التعلق بالنجومية اصبح حالة مرضية في مشهدنا الثقافي اما بالدوران حول الاسم النجم، او النظرية النجم، اما بالموافقة او المخالفة، الامر الذي ادى الى التسطيح في كثير من الانجازات، والتعلق بالشكل في كثير من الاحيان.
وبطبيعة الحال فان المظاهر السلبية المذكورة ليست عنوانا قارا في كل فعل ثقافي، فهناك من الاعمال الثقافية ما اكد تميزه، وجنح نحو اعطاء قراءة للفعل الانساني من خلال تمثل حركة الانجاز الانساني في عدد الاعمال الابداعية السردية والشعرية.
* ساهمت في قراءة المنجز الابداعي في اواخر الثمانينات وعاصرت تحولاتها الثرية، ثم انصرفت الى قراءة التراث من مسارات لغوية بحتة,, هل كان ذلك تعبيرا عن رفضك للراهن؟
- اولا: لم يحدث ذلك الانصراف بشكل يسمح بان نعده تعبيرا عن رفض الراهن، فقد كان لي تعامل ما مع بعض الاصدارات الجديدة في الحقل الابداعي السردي، حيث وقفت مع اعمال لكل من: (عبده خال، علي الدميني، رجاء عالم، غازي القصيبي).
- ثانيا: كان انصرافي الى التراث خاصة في كتابي الرؤية الانسانية في حركة اللغة ,, كان من رؤية تستمد تشكلها وتكونها من الراهن الثقافي الذي يتجه الى قراءة الظواهر، واستبطانها، ومحاولة الامساك بالخيط الذي يحكم نسيجها.
* اصدر السعوديون أكثر من عشر روايات خلال العامين المنصرمين في الوقت الذي اقر به المنظرون بريادة عصر الرواية في واقع الثقافة العربية, ما مدى مساهمة أعمالنا الروائية في رسم جغرافيا ذلك الواقع,,!
- في روايتنا التي اصدرها الروائيون السعوديون اقتحام لحدود الواقع، وكسر لجبروته، وتذويب لصلادته,, فيها نفي للمسيرة التاريخية باستعادة كتابتها، باختراق حوادثها وصنع احداثها بلغة الكلام على الورق، اقتحام للسرد الذي جرت به بتحليقها في افق لم يحدث حين بدأت الكتابة,, تتجلى فيها اعادة تكوين الذات، فهي تنفي صورة الذات في الواقع، لتغامر مع اعادة صورتها في افق الكتابة السردية، تلك الكتابة التي تسرد الواقع في اتجاه خيط الكتابة، فتعيد الحدث الذي كان منفلتا من الذات قبل الكتابة، الى الذات وهي تكتب وتعجن من الاحداث ما يلت على يد الكاتب في اتجاه الموقف واتجاه الرؤية على نحو ما نلحظ في (العصفورية)، وروايات (تركي الحمد)، و(علي الدميني) حيث استدنت هذه الروايات بؤرة تفكير الذات الى واجهة الاحداث، وجعلته قائدا لها.
وهناك روايات اتجهت الى تقمص الحركة الاجتماعية، فجعلت المجتمع هو البطل على نحو ما نلحظ في رواية (عبده خال) الموت يمر من هنا حيث كان مجتمع هذه القرية التي تتمحور احداث الرواية حول اسرها، هو البطل الذي يخوض الحرب الضروس ضد الموت، وفي مواجهة السوادي.
اما روايات (رجاء عالم) وخاصة طريق الحرير، فانك تجد الذات التي تستدني التكوين الثقافي الى حركة داخل نسيج الرواية، حركة تذيب فيها الحدود بين ماض وحاضر، بين حركة الذات الواقعية ، وحركة الذات عبر تخيلها وعبر عالم السرد الذي تستدعيه لتحرك ذاتها عبره ولكن السؤال الذي يحتد امامنا:
الى متى تظل الرواية حبيسة الذات؟
هذا ما اظن بعض الروايات حاولت ان تخفف من غلظته بتذويب البطولة كما في قرية (عبده خال).
او بخضوع حركة الذات والنص للتشكل والتكوين على يد متلقي النص وفق سرد الكاتب كما في طريق (رجاء عالم) او ترك هدف الذات مفتوحا، وبانقلاب الابطال على السارد كما في وادي (الدميني).
* مع تراكم المد السردي المتمثل في الاصدارات الروائية والمجموعات القصصية التي فاقت عشرين مجموعة في هذا العام هل تشهد ساحتنا الثقافية تراجعا او توقفا لمنجز القصيدة المعاصرة؟
- يبدو لي ان الاتجاه الى العمل السردي بهذا الازدحام ناتج عن الامكانات المتاحة فيه حيث يتجاوز الشعر مع الرؤية، مع القص، مع الحوار,, حيث يتاح فيه فضاء لاعادة مسيرة الذات عبر الكتابة على النحو الذي افضت فيه في اجابة سابقة هنا وفي مكان آخر.
ولكن ربما نضيف هنا سببا اخر يتمثل في الاتجاه الى الفعل الفردي في ثقافتنا فيتجه الكاتب الى الانكفاء على روايته فترة طويلة,, بحد ذاته في الصنيع الذي يصنعه ويراقب نماءه، فيشعر بالامومة لتلك العوالم التي يحتضنها، وتتخلق في رحم كتابته (ولا اريد لهذا التعبير ان ينساق خلف التصوير ليتصور منه انثوية السرد), ثم تصدر تلك الرواية ، كل ما يريده من القراء صبر على قراءتها، وهو يكتفي بان ألقاها اليهم وهو لايحلم بان يتلقى الانطباع عنها سريعا، فيكتفي اولا بالاشارات العاجلة، تم تأتية الاشارات الاخرى الاكثر عمقا، فيرتاح لبعضها، ويضجر للاخر، وقد يضجر في ان امكانات فعله الروائي لم تستنطق بعد.
لكن القصيدة فعل ابداعي يلقي في بيئة تعي تذوق الشعر، وانه جزء من كينونتها، فالشاعر يلقي قصيدته ويتوقع الانطباع سريعا,, ولكن ما آل اليه التلقي البطيء في ساحتنا الثقافية، والمنصرف الى العناوين والنجومية، جعل الشاعر منعزلا، فآل الشاعر الى تكريس تفرده او قل جنح الى كتابة روايته , والا فان ساحتنا شهدت تفجرا شعريا، وتحولا في بناء القصيدة قاده المبدعون من الجنسين في الاشكال المختلفة وفي قصيدة النثر التي تعمقت التجربة، واستدعت الفوضى في داخل الكلمات والصور لتخلق شاعريتها.
* تساهم في تقديم تجربتك الشعرية متأخرا متزامنة مع ما تطرحه في الجانب النقدي النظري والتطبيقي,, الأمر الذي لم يرق لبعض المتابعين لدرجة وصف نصوصك الشعرية بالرداءة مقارنة بما قدمته من دراسات نقدية,, أنت كيف تقوم ذلك؟,.
- تجربتي السابقة مع الشعر قبل تجربة النشر كانت محدودة جدا، فهي تجارب لم تتجاوز عدّ اصابع اليد الواحدة، رأيت عدم نضجها، عدم استطاعتها على ان تحمل اسمي او تحملني قبل ان يعرف اسمي، فذابت ولم يبق منها الا التذوق للنص الشعري الجميل والحماس له.
وقرض الشعر بالعامية في بيئتنا وعلى حدود ابعادها في ألوان لم تعد متداولة مثل الزهم والحدايا واني لأصدقك القول ان تجربتي الجديدة مع الشعر التي سمحت لها بالنشر بعد الاستشارة المحدودة لثقات اعرف حرصهم على النصح وذوقهم الشعري، اصدقك القول ان هذه التجربة اقتحمتني اقتحاما فمضيت مع النص، ومضيت مع قراءته مرات عدة فاذا الدافع الى النشر يمضي بي بنفس الالحاح الذي كنت ماضيا فيه حين كتبته، واحجم,, ثم اعود الى النص، فاذا الدافع يلح بقوة فلا ادري الا وقد ارسلت النص، ولعلك تذكر مقدمتي النثرية للنص الاول الذي كان بعنوان هذه اقلام المتن المعطوب التي كتبت فيها جمل تتالت,, وصور تراءت,, اصرت ان اكون مكتوبا لها ذات مساء لهذا لم اكن في يوم ما ملحا على ان اكون شاعرا، لكن عندما انكتب النص على يدي ، ما الذي يمنعني من ان أنشره، واتابع التجربة؟
قال احدهم عندما نشرت النص الأول:
انك تتيح الفرصة للمتربصين بك!
قلت: هؤلاء لا أعبأ بهم,,والقارىء لتاريخ الثقافة العربية، يعلم حظ الشاعر مع خصومه، ومتابعتهم له.
ومع ذلك فقد سعدت بانطباعات جيدة، وتلقيت ما شجعني على المغامرة ومتابعتها.
واني لاسعد بما يلحظ على ما أكتبه في حال توفر نبل المقصد، وسلامة النية، وموضوعية القول بعيدا عن التشنج، ومعاول الهدم، وداء الحسد, فرحم الله امرأً اهدى الي عيوبي، ومثل هؤلاء سيلقون كل شكر وتقدير بل انهم سينتزعونه لاننا جميعا نتعاضد ونتذاكر للبناء، اما الاخرون فاني ازعم انني لو لم اكتب شعرا لكان هجومهم بمثل ذلك، ولست انا الوحيد في ساحتنا الثقافية الذي حاولوا ان يجعلوه مادة متصلة الحلقات لاتهاماتهم.
واجدها مناسبة لاشكر ملحق الجزيرة الذي اهتم بهذه النصوص وللفنانين التشكيليين الذين تفاعلوا مع النص، وملحق ثقافة اليوم بصحيفة الرياض، وملحق الاربعاء اللذين نشر كل منهما نصا باخراج بهي جميل فاق توقعي وطموحي.
اما من ناحية تقويمي الذاتي لما كتبت فهو يتمثل في تلك المسافة التي عبر بها النص من التكون الى النشر.
* تشارك قارئا وكاتبا فيما تقدمه الملاحق الثقافية المتخصصة في صحفنا والتي تكاد تكون الوسيلة الايصالية الفاعلة في تقديم تجليات,, ومنجزات تجربتنا الثقافية,, كيف ترى ذلك؟
- لك يا محمد ان تفخر بما تنجزه مع زملائك المشرف على الملحق الثقافي بالجزيرة والمشرفين على الملاحق الثقافية في صحفنا,, لكني لا اعلم عن مقروئية هذه الملاحق.
نجد في هذه الملاحق سهرا على تفجير صلادة الصمت، وحرثها بجداول الثقافة وينابيع الدهشة,,, لكن الاثر يبدو انه لم يتجاوز اسوار العزلة التي لم تسمح بالتواصل والحوار مع الرؤى والافكار المكتوبة ,, مما يجعلك تنظر الى الملحق وكأن لكل كاتب نافذة لها سياج يعزل رؤيتها عن النافذة الاخرى، فلا يسمح لها بالنظر الا بعد ان يبعد نظرها عن النافذة المجاورة.
,,, احيانا تقيم الملاحق استطلاعاً حول قضايا ثقافية، فيأتي الاستطلاع وكأنه استكتاب منعزل لكل كاتب فلو كان هناك متابعة لما ادلى به كل كاتب مستطلع وبلور في صورة رؤى عن القضية، لكان الامر مجليا صورة من تكامل الرؤى بدلا من انعزالها,فالاستطلاع لا يكفي، ولابد ان تعقبه نظرة شمولية للملحق تجمع الرؤى، وتقيم بينها حوارا من خلال استنطاق الآراء المقدمة، وبلورة ذلك امام القارىء.
|
|
|