عبقريات العقاد بين المتن والإسناد65 صالح بن سعد اللحيدان |
ويبّين المؤلف في ص89 من كتابه (مطلع النور) كيف انتشر السحر وانتشرت الكهانة بين بني اسرائيل وبين النصارى حينما حرفوا اصل التوراة والانجيل وزادوا ونقصوا، يبين هذا بشيء من الاختصار لكنه مع ذلك يرمي الى معان جليلة مشهورة مشهودة وقد بين غيره من كبار الباحثين كيف دخلت الصور الكنيسة وكذلك الانغام الموسيقية وهو ما يسمى بالتراتيل بينوا ان اصل ذلك جاءهم من وثنيين يونان وهند وفارس منهم من يعبد الشمس ومنهم من يعبد النار ومنهم من يعبد القمر ومنهم من يعبد الحيوان كالبقر وطير العقاب وافعى الكوبرا,, الخ،فلما دخلت الوثنية في بني اسرائيل وكذا النصارى وحينما تم تحريف اصل التوراة والانجيل ساروا على سوء.
ولهذا لا تجد كنيسة الا وفيها صورة وثنية يزعمون انها لمريم وعيسى بين يديها، واحيانا صور متفرقة لرهبان وملائكة بجانب ترانيم موسيقية وكل هذا ليس في اصول كتبهم، ومن اجله اصبحت اليهودية والنصرانية ذات صبغة مادية سياسية, ولم يعد يقوم بالطقوس الا العوام وبعض المثقفين لعملية استمرار الحال على الحال ولهذا لا يمكن ان يقبل احد منهم ابدا النقاش العقلي او العلمي المادي، وان تطوع وناقش احدهم فان الاجابات تكون دون المستوى بدرجة كبيرة جدا، فهم ينحون في الاجابات نحو التقليد والعاطفة او تأجيل الاجابة ثم لا اجابة واحيانا - وهذا يحصل مع الطبقة المتعلمة من اليهود والنصارى - يهربون من اصل الجواب الى جوانب اخرى لا تمت الى المطلوب بشروى نقير.
والمؤلف هنا ليته جاء ببعض الحالات مما هو موجود لديهم، ولعل احمد ديدات فارس هذا المضمار بشيء جيد لافت للنظر خصوصا في حواراته المركزة المسؤولة مع بعض النصارى في هذا الحين.
يقول المؤلف مبينا ما كنت قد اشرت اليه من قبل: (وجاشت نفس ارميا وهو صبي بخواطر النبوة ثم القى اليه ان الرب يقول له (قبلما صورتك في البطن عرفتك وقبلما خرجت من الرحم قدستك وجعلتك نبيا للشعوب) فاستكثر النبوة على سنه وقال في صلاته: آه يا سيدي الرب من اين لي ان اعرف الكلام وانا ولد فمد الرب يده ولمس فمه وقال: ها قد جعلت كلامي في فمك، فانظر، لقد وكلتك هذا اليوم على الشعوب وعلى الممالك لتقطع وتهدم وتهلك وتنقض وتبني وتغرس).
ثم يبين المؤلف كثرة الكذب والسحر في اليهودية والنصرانية المحرفتين ويبيّن كثرة ادعاء النبوة وان فكرة الابن وسواها من متعلقات الوثنية انما جاءت بسبب دخول وثنية فارس والهند ويونان, يقول في ص 89 مع الاختصار (ولقد خشي الانبياء الكبار على الشعب خطر المعجزات والآيات التي يدّعيها المتنبئون لانهم عرفوا عجائب السحر في مصر وبابل وأشفقوا من فتنها على عقول السواد فلم ينكروا المعجزة الصادقة ولكنهم حسبوا حساب المعجزة الكاذبة التي يقتدر عليها السحرة واتباع الارباب المحرمين).
ويبين في ص 90 حقيقة الوثنية التي دخلت بني اسرائيل بسبب تحريف التوراة والانجيل، يقول مبينا امر سريان امر الوثنية والكذب: (ومنذ عرف اسم النبوة بين قبائل اسرائيل ظهر فيهم مئات وألوف من هؤلاء المتنبئين لم يكن شأن الاكثرين منهم ليزيد على شأن الدراويش الذين يلوذون بأماكن العبادة او اماكن الزيارة في جميع الاديان).
ثم تطرق في ص91 الى تأصل الوثنية وادعاء الالوهية بسبب ثقافات الهند واليونان وفارس، الوثنية المعروفة التي حطت رحالها لدى بني اسرائيل بسبب تعطيل حقيقة التوراة والانجيل وما جرى فيهما من تحريف وتغيير.
وما صاحب هذا من: رد الحق بقتل الانبياء وتشريد او سجن اتباعهم خلال مدد مختلفة، يقول: (ولم تكن قبائل البادية ولا اهل القرى ليضيقوا بتكاليف معاشهم لانهم كانوا يقتنعون بالقليل من الخبز والادم وبالخشن الرخيص من ملابس الشعر والصوف - وربما استراح اليهم الدهماء لانهم يفرحون عن صدورهم بالاجتراء على كبريائهم وسرواتهم الذين يستسلمون للطمع والكبرياء او ربما حمد لهم الامهات والآباء انهم يباركون اطفالهم ويشفون مرضاهم ويفوهون امامهم بأطراف من الاقاويل يفسرون رموزها بما يطيب لهم ولا يشعرون منها برهق شديد لانهم لا يحملون مؤنتها اذا اخذت مأخذ الجد والجسامة، بل ترتفع الى ايدي ولاة الامور ورؤساء الدين والكهان والحكماء فيوفقون بين (نقائضها) او يستخدمونها في تلقين الشعب ما يحبون ان يقولوه بلسان المتنبئين ولا يقولونه بألسنتهم خوفا من تبعاته او من قبيل الحيطة للتراجع اذا حسن لديهم ان يرجعوا عما فرضوه وأثبتوه).
ثم يبين في ص 93 صراحة تدخل الوثنية فيقول: (فمن نبوات يعقوب عليه السلام يفهم انهم كانوا يعولون عليه في رصد النجوم وان كل اسم من اسماء الابناء يشير الى برج من بروج السماء) فيبين هنا اثر الوثنية البابلية التي دخلت بني اسرائيل في سمة رصد النجوم وهو يشير هنا قصدا الى (ترك الوحي) وهذا سبب من اسباب ان اليهود جعلوا عُزيراً ابناً (لله) تعالى الله عما يقولون، وان النصارى جعلت المسيح ابناً لله على اختلاف بين طوائف النصرانية،
يقول المصنف (وهذه اشارة الى برج الاسد وكان عند البابليين برجان احدهما برج الاسد أرجولا والآخر ارماح احد نجوم الدب الاكبر) الخ ص93 - 94 فالوثنية سرت بين بني اسرائيل هكذا فانتشرت بينهم الكهانة ونظر النجوم والسحر, أما التوراة والانجيل وما كان يوحي الى يعقوب عليه السلام فهذا كله عطلته الوثنية بدعوى عدم صلاحيته او رجعيته او لانه يهدم مرادهم الذي يريدون جهلا بحقيقة التوحيد الذي دعت اليه الرسل عليهم السلام.
واتباع الهوى سبيل من سبل حياة اليهود والنصارى ولهذا قال تعالى (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) وقال سبحانه (أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى انفسكم فريقا كذّبتم وفريقا تقتلون).
وجاء في ص95 قال تحت عنوان (نبوة الهداية): (ختمت ايام هذه النبوءات جميعا في بني اسرائيل قبل البعثة الاسلامية بنحو تسعة قرون).
قلت لعله زاد قرنين ونيفا، فعيسى صلى الله عليه وسلم نبي من انبياء بني اسرائيل من اولى العزم جاء بالتوحيد الذي جاء به موسى صلى الله عليه وسلم رسولا الى بني اسرائيل يعلمهم الكتاب والحكمة وبينه وبين نبي الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم قرابة ستة قرون وزيادة.
ومن المعلوم ان بين نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم والنبي العبد الرسول عيسى صلى الله عليه وسلم ستمائة سنة وزيادة وهذا امر ثابت فلا يكون الامر كما ذهب اليه المؤلف.
وجاء في ص 98 قال: (ان الرسالة المحمدية قد علمت الناس ان يعجبوا للنبوءات اذا لم تكن نبوءة للهداية وللانذار والبشارة (أكان للناس عجبا ان اوحينا الى رجل منهم ان انذر الناس وبشر الذين آمنوا ان لهم قدم صدق عند ربهم).
فهنا ملاحظات ثلاث:
الاولى: ان الرسالة ليست محمدية انما هي الرسالة الاسلامية ولكن ذكر هذا جريا على عادة المثقفين وما يكتبه كتبة الأوربيين ومقلّدوهم من مثل (الرسالة العيسوية) - (الرسالة الموسوية).
الثانية: ان الرسالة غير الوحي وان كان بينهما العموم والخصوص من وجه، من اجل ذلك لا يقال ان الرسالة ذكرت او قالت، لأن الوحي اصلأ لا يوصف بكونه رسالة.
الثالثة: ان تفسير المؤلف تجاوز الله تعالى عني وعنه ليس صوابا فالقرآن الكريم لا يدعو للعجب او التعجب للنبوءات لكنه مراد لاصل حال حاصلة من مقتضى مثله في هذا السياق فالآية الكريمة مرقومة على سبيل الاستنكار.
ومشكلة الثقافة ومشكلة العلم المجرد من معرفة صحة النصوص ودلالات اللغة, ومشكلة التقليد كل هذا يدفع الى الانطلاقة الانشائية حتى في تفسير النص الشرعي سواء احكام الدين او احكام الدنيا.
وهذا محط خلل كبير ينبىء عن تقصير واضح في مسألة الفهم السليم ويجعلنا ننحي باللائمة على: الثقافة والادب وما هما عليه من انشائية وسرد يدعو هذا وذاك الى الرثاء العريض، وجاء في ص99 في فصل عن (نشأة الانبياء) قال: ان وجهة الدعوة النبوية تتبين من نشأة النبي التي اعده الله بها للقيام بتلك الدعوة فاذا عرفنا نشأة النبي بين قومه عرفنا رسالته فيهم وعمله في هدايتهم وعرفنا وجهة النبوة من وجهة النبي منذ هيأه الله حيث جعله اهلا لرسالته) الخ ص99.
وهذا كلام لاجرم صحيح في حملته فما ارسل الله تعالى رسولا الا بعد صناعته على عينه وما ارسل رسولا الا بلسان قومه وما ارسل رسولا الا وهو معروف حاله من قومه.
لكن هذا ليس اصلا في ان وجهة النبي تعرف وتعلم وتتبين من نشأة النبي وتعرف بها دعوته لان هذا كله تمهيد للرسالة وليس هو عنواناً عليها فالرسالة ووجهتها ومعرفة كل امة بها يكون ذلك من: خلال الدعوة نفسها وما فيها من معجزات وآيات بينات: كناقة صالح، وآيات موسى التسع وحكم وحكمة يوسف واحياء الموتى بإذن الله على يد عيسى ,, الخ,, ثم القرآن الكريم على يد عبد الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وما صاحب هذا من: معجزات مبثوثة في كتب الحديث الموثوقة، وكلام المؤلف جميل وصحيح في جملته لكنه ليس اصلا عاما في دائرة تفصيل الكلام في مثل هذا،
ذلك انه قد ينشأ رجل عظيم جليل يعرف منذ نشأته بالصدق والورع والعدل والقوة والثقة فلا تكون هذه وجهة لدعوته انه نبي لكنه يكون على خطاه: كصلاح الدين الايوبي مثلا او محمد الفاتح، فبين ما ذكره المؤلف وبين ما يعرف به امر الرسل عليهم السلام العموم والخصوص من وجه واحد فقط.
|
|
|