Tuesday 9th March, 1999جريدة الجزيرة 1419 ,الثلاثاء 21 ذو القعدة


نزف
قصة قصيرة

أسرعت تشد خطاها عبر بوابة القادمين، المفتوحة على مصراعيها تدفع دون توقف سيلاً من القادمين، وسط ابتهاج ذويهم وزغاريد مستقبليهم يندفعون تجاهها، عبثاً تحاول تخطيهم، لتطول قدماها الصالة، تتفادى عرباتهم المحملة بحقائبهم وذكرياتهم وهداياهم,, تنظر الى الشاشة العريضة، لقد وصلت طائرته ادركته بحسها قبل ان تراه قادماً اليها، قبل ان تلمح لمعة بذلته الزرقاء، بيديها طوتها في حقيبته كوت قميصه واختارت له ربطة العنق الفاخرة,, اهدتها اليه يوم العيد، قادم، تشم عن بعد رائحة عطره,, رائحة رجولته، طارت اليه شوقاً، لا ترى غيره يتقدم اليها حاملا حقيبتي السفر والعمل الصغيرتين، رأت اساريره تتهلل فجأة تنتشر على وجهه امارات الفرح علمت من زميله في العمل، موعد عودته لم يكن دأبه ان يحدثها عن العمل يأتي قائلاً انه سوف يسافر,, سيأتي,, متى سيأتي؟ هتفت ترجو زميله ان يخبرها ستصحبه هي لتفاجىء نفسها ام لتفاجئه هو؟!.
ها هي الآن ترى تهلل تلك الأسارير فرحا، لقد اشتاق اليها اندفعت العبارة على شفتيها: حمد الله على اس,,ل,.
اندفعت وبترت,, بترت في مهدها ماتت عبارتها وليدة,, فأساريره تهللت لرنين هاتفه الجوال، امتدت يده في زهو تستجيب لذاك النداء، يتحدث: الو,, اهلا,, نعم، انا في المطار,, وصلت لتوي! ينظر امامه لا يراها كأنما لم تأت لاستقباله، كأن لم تكن مقيدة بحبه وشوقه واقفاً بين حقيبتيه يقبل على الهاتف, خطت للخلف تتأمل بذهول ذلك المشهد امامها، يدها الراجفة امتدت لفمها,, هل غضب للاستقبال؟ هل غضب لشوقها؟ الم يكن دائماً هكذا معها؟ تحس نفسها خفيفة، ريش يغزو جسمها ريش كالزغب ابيض يملؤها يحول ذراعيها جناحين,,وجهها لفّه زغب خفيف يحوطه بدل الشعر، ريش ابيض ناعم,, طارت, حامت قليلاً حول الصالة، لتندفع بعدها عبر نافذة القاعة العليا,, تهشم الزجاج لم تأبه به يتداخل مع جلدها يجرحه لقد ادماها جرح لامبالاته حياديته، بروده، تجاهله، هو الوسيم الواقف بلباسه الأزرق يمنح حرارته لجهاز هاتفه المحمول, اشاروا اليها طائرة في فضاء المطار، ولم الطيران ليس حكراً ليس عيباً انها طائرة في سماء تفسح للجميع مكاناً, طارت,, فرحت,, سعدت لم تعد تراه او تسمع رنين هاتفه يفاجئها في لحظات حاجتها اليه، لم تعد تصطدم بحائط بروده طارت مندفعة حتى اصطادتها مروحة محرك طائرة تقلع، دار رأسها دارت بها الدنيا,, شاهدت اطياف قوس قزح، احلامها وهمساتها شاهدت الاعياد، الشرائط الملونة والالعاب، شاهدت والديها، شاهدت عرسها، هل شاهدت ايضا موتها؟! تناثر ريشها الابيض، مطراً,, ثلجاً الرجل البارد الواقف بلباسه الأزرق يحدث بحرارة هاتفه، الريش الابيض لم يأبه به، حمل حقيبتيه وظل هاتفه المفتوح جبهة امام المطر: هبطت الطائرة على ارض المطار هبوطاً اضطرارياً، أنزل الركاب في صالة الانتظار لحين توفير بديل، بينما قام عمال الصيانة باخراج طائر ابيض من مروحة المحرك غطى ريشه الدم.
مقاط مطر البناقي
عرعر
***
** يلتقط مقاط البناقي لحظة مفارقة لينسج بداخلها قصته,, كل الذين ينتظرون القادمين يمتلئون بالفرحة في ارتقاب قادم عزيز، سرعان ما يتوجها لقاء، الا صاحبتنا التي تحولت بكاملها الى تلك المشاعر للفرحة التي تتضاعف بانخداعها في ان القادم يحمل لها مشاعر مساوية او تزيد فاذا به يحملها لمجهول لا يبدو لنا منه الا صوت عبر هاتفه الجوال لا نتبين من يكون او بأي الكلمات يتحدث.
وبسبب قساوة هذا الموقف يرى الكاتب ان الوصف مهما استفاض لا يوفيه قدره من تعميق الحزن فيلجأ الى تحويل الموقف برمته الى رمز تصبح في ظله الزوجة المفجوعة حمامة تطير الى موت بنفس الآلة الطائرة التي كانت قد احضرت لها وهم الفرح الزوج حبيباً غالياً وقاتلاً يطعن بقسوة في ذات الوقت.
الرمز شديد الدلالة والقصة في مستواها التقريري دون الرمز شديدة الوضوح، ربما اضاف اليها الرمز بعداً تعميقياً جديداً لكنه يظل في النهاية للقارىء موقفه من اتساق العمل اي ذلك العمل الذي يعتمد لنفسه اسلوب التعامل مع الواقع بمفرداته من الشخوص والاحداث والمواقف والخطاب حرفياً مثلما يجري في الواقع ثم فجأة يتخلل العمل رمزاً يرفضه العقل.
أتلك هي الرقعة الأرجوانية التي تحدث عنها (هوراس) في كتابه (فن الشعر) والتي قال انها مهما بلغت من روعة فانها تشوب نصاعة الثوب الابيض ام انها مثل آخر مثل ذلك الكائن الخرافي الذي يحمل كرسياً ويمضي في شوارع القاهرة التي نعرفها جيداً في قصة يوسف ادريس حمال الكراسي .
اما ان يقدم لنا العمل نفسه واقعياً او يقدم نفسه لنا رمزياً خالصاً حتى يتسق العمل.
لكن استخدام مقاط البناقي للرمز في اثراء تجربة الواقع قد تعزل هذه القصة عن رصيده من القصص المميزة التي قدمناها له والتي تشهد بنضج تجربته القصصية الى حدٍ لافت.
رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
منوعــات
القوى العاملة
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
العالم اليوم
مئوية التأسيس
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved