وتعثر الزمان
(فايقة مران)

أحتاج إلى الهدوء، أحتاج إلى مدينة من الهدوء، ففي داخلي ازدحام ومدينة تعج بالسكان، وفي ذاكرتي أحزان، وفي قلبي رفات وبقايا إنسان، أحتاج إلى انكسار وانكفاء على نفسي، أحتاج إلى يقين وتصديق لواقع مرير.. أحتاج إلى زمان يعود بكل شيء مضى، وأحتاج إلى وقت ليلهمني ما بقي من العمر..
أحتاج إلى مدينة لا تعلوها الأصوات ولا هدير المحركات ولا عويل أمهات الثكالى.. أحتاج إلى أحلام بل أحتاج إلى شاطئ من الأحلام حتى يتسنى لي رسم الأماني التي تعثر بها الزمان.. رحيل آلمني وأوقظ أحزاني وفراقاً متسلطاً جلدني بسوطه، فأسال دمي وحطم قاربي، لم يكن الفراق فراقاً ولا الألم ألماً ولا الحزن حزناً بل كان كل ذلك مختلطاً في جملة واحدة معناها يقين بأن الموتى لا يعودون وأن الرحلة التي سجل اسم والدي عليها وقطعت له تذكرة سفر فيها رحلة طويلة وأيامها ليست كباقي الأيام، وأن خروجه من باب داره هو الخروج الأخير، وأن تلك النظرة الهادفة وتلك الابتسامة التي علت محياه كانت الابتسامة الأخيرة والوداع الأخير، وأن رحيله كان الرحيل المر الذي استيقظ في داخلي فهزَّ كياني.. وها هي البواخر والسفن تعود إلى مرافئها حزينة منكسرة تجر وراءها أذيال الخيبة وانكسار الأماني ورحيل الأحباب وانقطاع الاتصال بين الأحياء والأموات، فكل شيء اليوم وغداً وبعد الغد هو غائب بعد غيابك يا والدي يا حزني ووجعي يا ألمي ويا تهشم كياني وانشطار قلبي.. يا حزناً بقي ويا عزيزاً رحل، ولن تأتي به الأيام إلا في أحلامي.
وأخيراً وليس آخراً.. رحمك الله يا والدي رحمة واسعة وأسكنك فسيح جناته، ووسع لك في قبرك وأبدلك داراً خيراً من دارك وأهلاً خيراً من أهلك وزوجاً خيراً من زوجك وجمعني بك في دار البقاء.