Al Jazirah NewsPaper Tuesday  30/01/2007 G Issue 12542
مقـالات
الثلاثاء 11 محرم 1428   العدد  12542
لنتوقف عن تمجيد البحث العلمي
د. صالح بن ناصر الشويرخ

لا يخفى على أحد أهمية البحث العلمي، ودوره في تقدم الأمم والشعوب. ويبدو لي أنه لا يوجد أمة على وجه الأرض تتفوق علينا في القدرة على إفراد الخطب البليغة وتخصيص المقالات الطويلة للحديث عن أهمية البحث العلمي ودوره في نهضة الدول. إن من يسمع كلامنا ويقرأ لوائحنا ويطلع على خططنا يظن أننا أمة همها الأول البحث العلمي ودعم الباحثين وتشجيعهم وحفزهم بالمكافآت والجوائز المجزية وإنزالهم المنزلة التي يستحقونها، ولكن من يغوص بيننا قليلاً يدرك بسرعة أننا لا نؤمن بالبحث العلمي كقيمة ولا بوظيفته في النهوض بالأمم ولا نحترم الباحثين ولا ندعمهم ولا نأخذ بالنتائج التي يتوصلون إليها.. ورغم ما سمعنا عنه من توجه الدولة إلى دعم البحث العلمي، فليس هناك ما يؤكد هذا التوجه، فالباحثون وعلى رأسهم أساتذة الجامعات لم يلحظوا تغييراً كبيراً على أرض الواقع، فأنظمة البحث العلمي في الجامعات - على سبيل المثال - لم يطرأ عليها أي تغيير. لقد آن الأوان لنتوقف عن تمجيد البحث العلمي وأن نبدأ في التفكير جدياً في البحث عن الطرق والوسائل التي يمكن أن تساعدنا على النهوض بالبحث العلمي. ينبغي أن نفكر في الكيفية المناسبة التي يمكن أن تساعدنا في تأسيس وترسيخ الثقافة البحثية بين العاملين في القطاعات العلمية والأكاديمية، ومن ثم البحث عن الوسائل التي يمكننا من خلالها نشر تلك الثقافة وتعميمها على جميع شرائح المجتمع بما يتناسب من كل شريحة. وبعيداً عن التمجيد والتمديح، أعتقد أن هناك ثلاثة أهداف إستراتيجية ينبغي تحقيقها: الهدف الإستراتيجي الأول حصر الباحثين الوطنيين، ويمكن تحقيق ذلك من خلال إنشاء هيئة وطنية أو مؤسسة أو وزارة للبحث العلمي، تكون وظيفتها رصد الباحثين وتخصصاتهم واهتماماتهم البحثية، وتسجيلهم أعضاء لهم حقوق وعليهم واجبات. إن من الغريب ألا يوجد لدينا هيئة أو جمعية تضم الباحثين الوطنيين، فهناك جهات ترعى على سبيل المثال الفنانين والرياضيين، لكن لا يوجد حسب علمي جهة ترعى الباحثين. ولا يظن القارئ الكريم أن الجامعات ومراكز البحث العلمي الموجودة حالياً تقوم بهذه المهمة، ومن أراد أن يتأكد من هذه الحقيقة فليقم بتأليف كتاب علمي متخصص ثم ليبحث عن جهة تساعده في طباعة الكتاب ونشره وتقديم التسهيلات اللازمة، من يقوم بذلك فسوف يتأكد من هذه الحقيقة المرة.

ويجب في هذا الصدد أن نتوقف قليلاً عند قضية عدد الباحثين السعوديين، فالأمر يجب ألا يتوقف عند حصر الباحثين فقط، بل يجب أن يكون هناك خطة معينة لزيادة عدد الباحثين الوطنيين، فالعدد الحالي قد لا يكون كافياً، ومع أنني لم أطلع على إحصائيات خاصة بالباحثين الوطنيين، إلا أنني أظن أن عددهم يتناقص، وهذه النتيجة توصلت إليها من خلال الملاحظة الشخصية فقط، فهناك عدد لا يستهان به من أساتذة الجامعات وهم أكثر الفئات التي يفترض التزامها بالعمل البحثي، هجروا البحث العلمي، وهي مسألة خطيرة. ويظهر أن هناك عدة أسباب لهذا الهجر، منها الافتقار إلى البيئة البحثية المناسبة وعوامل التهميش والإهمال والتثبيط والتعقيد والتشكيك التي تتفنن الجامعات ومراكز البحث العلمي في ممارستها مع الباحثين، وهذا يقودني إلى الهدف الإستراتيجي الثاني.

فالهدف الثاني هو التأكد من التزام الباحثين بالنشاط البحثي وعدم التفريط به مهما كانت الأسباب. وتحقيق هذا الهدف مرتبط بمسائل مالية وجوانب تنظيمية؛ إذ يجب تخصيص ميزانيات كافية لتشجيع الباحثين على إجراء الدراسات في مختلف المجالات، ورصد مكافآت ثابتة ومقطوعة مجزية للباحثين مقابل البحوث التي يقومون بها. أما الجوانب التنظيمية فهناك حاجة إلى سن قوانين جديدة تتسم بالمرونة في التعامل مع الباحثين وتتخلص من التعقيد والروتين في قبول الأبحاث وسرعة إنهاء الإجراءات المتعلقة بالبحوث وسرعة صرف المكافآت؛ لأن الهدف جلب وتأهيل المزيد من الباحثين المتميزين لا (تطفيش) المتبقي منهم. إن عدم سن القوانين المناسبة التي تساعد في تحقيق هذا الهدف سينعكس سلباً على الهدف الأول، فعدم توفير البيئة البحثية المناسبة سيؤدي إلى هجر الباحثين للعمل البحثي. وبالمقابل فإن تحقيق هذا الهدف سيؤدي إلى تكاثر عدد الباحثين وهو المطلوب؛ لأن البحث العلمي في أي بلد مرتبط بعدد الباحثين، ولا شك أن بلداً مثل المملكة تحتاج إلى عشرات الآلاف من الباحثين في مختلف العلوم الإنسانية والتطبيقية والطبية.

أما الهدف الإستراتيجي الثالث فهو تحقيق الجودة النوعية في البحوث والدراسات، وذلك عن طريق سن قوانين وتشريعات للنهوض بهذا الجانب؛ إذ ينبغي وضع قواعد وأسس ومعايير بحثية وعلمية تحكم نشاطات وأبحاث الباحثين المسجلين رسمياً، منها تحديد مجموعة محدودة من المجالات الفرعية للتخصص الذي ينتمي إليه الباحث، فمشكلتنا أن كثيراً من الباحثين يكتبون ويبحثون في كل شيء، وهذا يتنافى مع أعراف البحث العلمي، فنحن في زمن التخصص الدقيق، كما أن الالتزام بالتخصص الدقيق يعطي الباحث فرصة للإبداع والابتكار والتجديد.

إضافة إلى ضرورة التزام الباحث بمدرسة بحثية معينة مثل المدرسة الكيفية أو الكمية، أو الالتزام بمنهجية بحثية معينة مثل المنهج المسحي أو المنهج التجريبي أو منهج دراسة الحالة، ويصنف الباحث على هذا الأساس، على أن يتم تحديث وتطوير قوانين ولوائح البحث العلمي بشكل مستمر استجابة للتطورات التي تحدث في منهجيات البحث العلمي وبناء على المستجدات على الساحة الوطنية وتفاعلاً مع المشكلات والصعوبات التي قد تواجه البحث العلمي في بلادنا. ولتحقيق مزيد من الجودة النوعية يمكن وضع خطة معينة لتدريب الباحثين وتأهيلهم عن طريق حضور الدورات التدريبية وورش العمل والندوات التي تقام في جميع أنحاء العالم والتي تهتم بقضايا البحث العلمي ومنهجياته.

وأود أن أشير في هذا الصدد إلى ضرورة عدم التركيز فقط على العلوم الطبيعية وإهمال العلوم الإنسانية، فمشكلاتنا الاجتماعية والتربوية والثقافية هي في نظري سبب المأزق العلمي والتعليمي والتقني الذي نعاني منه. وهذه المشكلات لا يمكن حلها عن طريق لجنة أو حملة توعوية أو بحث واحد أو عن طريق جلب حلول مستوردة، بل إن حل المشكلات التربوية والاجتماعية يتطلب إجراء عدد كبير من البحوث والدراسات في كل جزئية في البيئة المحلية حتى يتمكن المتخصصون من الاقتراب شيئاً فشيئاً من المشكلة ووصفها وتحليلها إلى عناصرها، ومن ثم اقتراح مجموعة من الاستراتيجيات التي يمكن تطبيقها بطرق مختلفة للتعامل مع المشكلة، مع تقويم تلك الإجراءات عن طريق بحوث أخرى، وهكذا تستمر حركة البحث العلمي دون توقف؛ فالبحث العلمي تراكمي.

إن ترسيخ ثقافة البحث العلمي في المجتمع ليس عملاً هيناً، بل يحتاج إلى خطط واستراتيجيات على المستوى الوطني، ويحتاج إلى دعم مالي ومعنوي ومؤسساتي للباحثين، بهدف زيادة عددهم، وربطهم بالنشاط البحثي، وتحقيق الجودة النوعية في البحث العلمي. إن الجامعات السعودية ومراكز البحث العلمي الموجودة الآن غير قادرة على ما يبدو على تحقيق هذا الهدف؛ ما يستدعي إعادة النظر في قوانين البحث العلمي وأنظمته في بلادنا بشكل يمكننا من النهوض بالبحث العلمي وتطويره.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد