Al Jazirah NewsPaper Tuesday  06/02/2007 G Issue 12549
مقـالات
الثلاثاء 18 محرم 1428   العدد  12549
الفوضى الخلاقة.. التدمير الإبداعي (2)
د. أنور عبدالمجيد الجبرتي

* لا يمكن أن تكون (نظرية الفوضى).. هي الأساس النظري، والفلسفي لسياسة (الفوضى الخلاقة).. التي تحدثت عنها، منذ زمن قصير، الدكتورة (كونداليزا رايس).. وزيرة الخارجية الأمريكية.

* لأن (نظرية الفوضى)، هي صياغة رياضية، تقول، بأن العالم الطبيعي يقوم على علاقات ديناميكية، غير خطية وهي علاقات، جدلية متفاعلة، متداخلة، وبالغة الحساسية، تجعل أي تدخل، تافها، صغيرا، يَجْلِبُ، نتائج هائلة، لا يمكن التنبؤ بها. (المدخلات) الطفيفة تنتج (مخرجات) ضخمة غير متوقعة والتراكمات الكمية تخلق تغيراً، نوعياً، في زمان، ومكان، واتجاه، لا يمكن معرفتها مسبقاً في العالم الطبيعي، وحتى في صياغاته الرياضية لا يمكن إدارته، أو التحكم فيه إلا في حدود ضيقة. وبالطبع هناك نظام، دقيق، وعجيب، ومدهش، في عمق الفوضى، ولكنه نظام، ينتظر، اكتشافنا له، واندهاشنا منه، وانغمارنا في عجائبه. والموضوع يصبح أكثر تعقيداً، وضبابية، عندما نحاول أن نتحدث عن إدارة (الفوضى) في مجتمع بشري، أفراداً، وجماعات واقتصاديات، وثقافات، وتاريخاً، ومشاعر. وفي السياسة الخارجية، خاصة في عالم اليوم، يبدو الأمر مستحيلاً، وإعجازياً، وسيريالياً، عندما، يتحدث مسؤول للسياسة الخارجية، عن تصدير (الفوضى)، أو بعث الفوضى وإثارتها وخلقها، لأنه يريد أن يجعلها فوضى خلاقة، وجميلة، ونبيلة، ومثيرة للإعجاب، وبأهداف طيبة طبعاً، والطريق إلى الجحيم، كما يقول، المثل الأمريكي، معبَّدٌ و(مُسَفْلَت).. بالنوايا الحسنة والأهداف الطيبة.

* ثم إن (نظرية الفوضى) تقوم على (الرَّبط) بين (الأجزاء) و(الأنظمة) و(المكونات) على نحو حركي، وفي جميع الاتجاهات.

* هذه (الأجزاء) تتفاعل مع بعضها، وهي دائماً في طور (الصَّيرُورَة) و(الإمكان)، وليس في حالة (الاستكانة) و(الانتهاء). ونحن نعلم أن السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة ترفض مبدأ (الرَّبط)، على الأقل ليس في كل الاتجاهات.

فالمحافظون الجدد المنظِّرون، والساسة العملاء المنفذون كانوا ولا يزالون، يقولون إن الطريق إلى حل القضية الفلسطينية يبدأ، أو يمر، ببغداد، وطهران، وسوريا، ولكنهم يرفضون الربط في الاتجاه الآخر، ولا يقبلون تقرير (هاملتون- بيكر) الذي يوصي بأن حل المعضل العراقي يرتبط إلى حد ما بتحريك القضية الفلسطينية، والقضايا الأخرى، في المنطقة.. فالسياسة الأمريكية لا تؤمن بأن رفيف جناحي فراشة في فلسطين قد يسبب إعصاراً في بغداد، أو تكساس.

* السيدة (كونداليزا رايس) لا تعتمد في تصريحها عن الفوضى الخلاقة، على (نظرية الفوضى)، لأنها تعلم وهي الأكاديمية المحترمة، بأن الفوضى نظرياً، وعملياً، لا يمكن إدارتها والتحكم في مسارها، ونتائجها ولأن (نظرية الفوضى) تفرض (الربط) بين الأوضاع، والأجزاء، ومعاملتها ك(نظام) متفاعل، والساسة الأمريكيون الحاليون، قوم لا يربطون، أو يربطون، انتقائياً وعندما يحلو لهم، أو، تسمح لهم الأيديولوجية المحافظة الجديدة، في نظرتها (العوراء) إلى العالم، والحياة، والتاريخ، والشرق الأوسط اليتيم.

* السيَّدة (رايس)، لم تكن، تقصد (الفوضى الخلاقة) عندما تحدثت عن (الفوضى الخلاقة) كإطار، للسياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة. أعتقد أنها كانت، تقصد (التدمير الإبداعي) أو (التدمير الخلاق).

* مُفردةُ (التدمير) مفردة سيئة السمعة، ثقيلة الوطء ولكن (الفوضى)، نيدو، مفردة، هلامية، سائبة غير مسؤولة، تستطيع أن تجد لها تفسيرات، متهاونة، متسامحة.

* التدمير، عمل إرادي، حاسم، هادف، قاصف. والفوضى، حالة وصفية، سائلة، تستطيع أن تلقي بمسؤوليتها، على كل أحد ومن ثمة على لا أحد، أما، التدمير، فيستلزم، أن يكون هناك مدمِّرون، ومدمَّرون، وخطة للتدمير، ونتائج، وأهداف.

* كيف أصف لكم (التدمير الخلاق)؟ هل رأيتم، فيلماً، عن بناء شاهق قديم، يتم تدميره بإبداع، وإتقان. علم، وفن، تدمير المباني الشاهقة، هو علم تم اختراعه، وتطويره، وإتقانه. أمريكيا يقومون بدراسة المبنى، إنشائياً وتحليله فيزيائياً، وصياغة علاقاته، رياضياً. ثم يزرعون المتفجرات، بنظام دقيق وطاقة انفجارية مقننة، وتتابع منظم للغاية، وفي النهاية، وبضغطة، واحدة، على أزرار التفجير، يسقط المبنى الشاهق سقوطاً مستقيماً نظيفاً كأنه فطيرة (بانكيك) ويصفق المشاهدون بكل الإعجاب والانبهار. هذا، حقاً، تدمير، إبداعي، وخلاق ومثير.

* يتم، تدمير، الخلايا القديمة، في جسد الإنسان، وتموت تلك الخلايا، لتنبعث خلايا جديدة نشطة، لتستمر الحياة ويقوم عالم الحيوان، في البحار، والبر والأجواء، على نظام تدمير، مبدع، وحركة خلق جديد مستمر مدهشة تكفل، استمراره، وحيويته.

* كتب الاقتصادي الكلاسيكي (جوزيف شمبيتر) كتابه الشهير (الرأسمالية- الاشتراكية، الديموقراطية) في عام 1942، واستخدم عبارة (التدمير الخلاق) يتحدث عن الحركة الداخلية، الذاتية، للنظام الاقتصادي الرأسمالي، حيث التنافس الإبداعي ل(الفاعلين) الرأسماليين يشكل القوة والطاقة التي تكفل النمو الاقتصادي في الأمد الطويل، وهذه القوة وتلك الطاقة الإبداعية المتجددة، ستدمران في طريقهما كيانات وتنظيمات، اقتصادية قديمة، ومهيمنة، ويخلقان مكانها، كيانات جديدة، أكثر قدرة على البقاء، وهذه حركة مستمرة تكفل ازدهار النظام الرأسمالي، وتطوره، وإبداعه، والشواهد الحقيقية، في عصرنا هذا، دليل واضح على ذلك.

* في عام 1995م كتب (ريتشارد نولان) و(ديفيد كروس)، من كلية إدارة الأعمال في (هارفارد) كتابهما الشهير (التدمير الخلاق: المراحل الست لتغيير المؤسسة) ليصف، كيف تدمر (المنظمة) نفسها، إبداعياً، وإرادياً، ثم تعيد، البعث من جديد، حتى تتمكن من البقاء، والمنافسة والنجاح.

* وكالعادة، في الولايات المتحدة الأمريكية، تتسلل، النظريات والمفاهيم من حقل إلى آخر. كيف، تسللت مفاهيم (التدمير الخلاق) من (الاقتصاد) و(الإدارة) و(البيولوجي) إلى (علم) السياسة الخارجية، وممارساتها؟ يكمن في عمق الإجابة على هذا السؤال مُنَظرون، وفلاسفة من المحافظين الجدد.

* يقول (مايكل- لادين) الكاهن الأكبر، للمحافظين الجدد في كتابه (الحرب ضد، سادة، الإرهاب): التدمير الخلاق، هو اسمنا، الوسيط، أو الأخير، داخل مجتمعنا، أو في الخارج. إننا، نمزق إرباً، النظام القديم، كل يوم في مجال الأعمال والعلم والأدب، والفن، والمعمار، والسينما، والسياسة والقانون. أعداؤنا، كانوا دائماً يكرهون هذه الطاقة الإعصارية الإبداعية التي تتحدى تقاليدهم (بصرف النظر عمن يكونون)، وتجعلهم يشعرون بالخجل لأنهم لا يستطيعون مجاراتنا يتحتم عليهم أن يهاجموننا حتى يستطيعوا البقاء، ويجب علينا، أن ندمرهم، لتحقيق رسالتنا التاريخية).

* أشك، أن تكون، الدكتورة (رايس) من المحافظين الجدد وآمل ألا تكون الفوضى الخلاقة، أو التدمير الإبداعي، أساساً لسياسة خارجية لدولة عظمى.

* ما أضيق العيش، لولا، فسحة الأمل.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد