Al Jazirah NewsPaper Sunday  18/02/2007 G Issue 12561
مقـالات
الأحد 30 محرم 1428   العدد  12561
معركة ما بعد اتفاق مكة
د. صالح بن سبعان

دعوني أقاطع هذا المهرجان الاحتفالي باتفاق مكة المكرمة بين الفصائل المتقاتلة في فلسطين (المحتلة) بأكملها، ولتكن بقسوة الطبيب وهو يصارح المريض بحقيقة مرضه ويضع بين يديه الاشتراطات العلاجية الواجبة عليه كمريض ليشفى من مرضه.

فقد أتاحت القيادة السعودية للمتحاورين طاولة الحوار تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين، وهيأت المناخ الملائم ليكون الحوار صادقا ومسؤولا لتكون نتيجته على المستوى نفسه من الجدية والالتزام، لأن سوابق (الهدنات) المخترقة بين الفصيلين لا تدعو إلى التفاؤل كثيراً.

وعلى كل دعنا نتجاوز هذه التحفظات، ونفترض أنهما أخيراً أخلصا النية لوضع حد نهائي لهذا التشاحن اللا منطقي بينهما، سواء كان تحت تأثير رغبة خادم الحرمين الملك عبد الله الذي ألقى بثقله السياسي العربي والإسلامي والدولي في مبادرته، وأفرد على الحوار ظله الوريف، برعايته له في هذه البقاع، أو سواء كان لوعي الفصيلين بأن الاقتتال - وقد وصل إلى طريق مسدود - لن يحقق أهدافهما، بقدر ما سيحقق رغبة الكيان الصهيوني، ويخدم أجندة ساسته الاستئصالية، أو - ببساطة - لإحساسهما بعبثية هذه الحرب ولا أخلاقياتها، التي تشكل عاراً يلحق بكل عربي ومسلم وصاحب ضمير أخلاقي وقف مع الشعب الفلسطيني داعما ومؤيداً لحقه في أرضه، وفي أن ينعم بالسلام.

أياً كان السبب من بين هذه الأسباب كان هو الدافع لتوصل الفريقين - هداهما الله - إلى اتفاق مكة، فإننا نستطيع أن نتفهم مظاهر الفرحة والاحتفالات التي انطلقت في شوارع المدن الفلسطينية، لأن أولئك المساكين هم الذين يعانون من وطء جمر الاقتتال بين الإخوة المتقاتلين، لأن الاقتتال يحصد بينهم الأبرياء من الأطفال والعامة المغمورين والنساء، بينما لا يضغط على أعصابنا سوى العجز عن التبرير السياسي والأخلاقي لمقاتلين فقدت بنادقهم بوصلتها فاتجهت إلى صدور آبائهم وأمهاتهم وزوجاتهم وأطفالهم وأخواتهم.

ولكن يجب أن تؤجل احتفالاتنا قليلاً ريثما نرى نتائج ما سيعقب توقيع الاتفاق من خطوات تالية، على أرض الواقع وهذه مسؤولية الفلسطينيين وليس غيرهم.

والآن ما الذي ينتظر الجميع من مهمات صعبة؟

دعنا نبدأ بالسعودية صاحبة المبادرة وراعيتها.. من الواضح، والبديهي، والمؤكد أن هذا الاتفاق سيجد مقاومة شرسة من إسرائيل بأكثر من حجة، ومبرر، وبأكثر من وسيلة، والأسباب أكثر وضوحاً من أن تحتاج إلى توضيح، انطلاقا من قاعدة: إن كل اتفاق عربي يتعارض مع الأهداف الإسرائيلية هو مرفوض جملة وتفصيلا، بغض النظر عن الدولة أو القوة السياسية التي تقف وراء المبادرة وعن مكانتها في خريطة التحالفات الدولية.

وبالتالي فإن إسرائيل تنتظرها معركة شرسة للتصدي للخطط المتوقعة لإجهاض الاتفاق، وذلك بقوة تسويقه دولياً، عبر الاتصالات الثنائية المباشرة من العواصم ذات التأثير، وخاصة في واشنطن التي يتمتع اللوبي الصهيوني فيها بنفوذ كبير، سواء في الإدارة الأمريكية أو في مجلس الكونجرس والشيوخ أو الإعلام والعلاقات العامة، لدفع القضية الفلسطينية إلى الواجهة، خاصة في هذا الوقت الذي تباشر فيه إسرائيل عملية تهويد القدس والبدء في الهدم الحتمي للمسجد الأقصى بالحفريات وتغيير الملامح التاريخية للمدينة.

ولا شك أن الدبلوماسية السعودية تعرف أن سقف التنازلات من حماس في تشكيل حكومة الوحدة الوطنية؛ بخضوعه للاعتبارات العاطفية الحزبية لا البرجماتية، لن يسهل عملية ترويج الاتفاقية وتسويقها في عواصم لها مواقف مبدئية مسبقة من حماس، حتى ولو كانت تتذرع بمواقف حماس لتبرير مواقفها العدوانية من الشعب الفلسطيني، وانحيازها الاستراتيجي لإسرائيل.

وهذا يفرض على الدبلوماسية السعودية فتح كل النوافذ واستخدام كل أوراق القضية الفلسطينية - وهي عديدة - بدءاً من مسألة الاحتلال، إلى الحدود، وعودة اللاجئين، والأسرى، واغتصاب الأراضي، والمذابح اليومية، والقرارات الدولية العديدة السابقة، وربط كل ذلك بمبادرة خادم الحرمين العربية، لحل النزاع العربي - الإسرائيلي كإطار شامل ومرجعية تفاوضية.

ولا شك، فإن تحركا مثل هذا سيحدث اختراقا في الموقف الدولي الذي تحاول القوى المناهضة للحل السلمي العادل لهذه المشكلة، أن تقوده إلى تجاهل هذه المبادرة وعدم تفعيلها عن طريق ما يمكنك أن تسميها (مؤامرة الصمت).

وهنا يأتي الحديث عن اللاعب الأساسي في هذه الاتفاقية، إذ إن ما هو مطلوب من كل القوى السياسية والاجتماعية الفلسطينية، هو الذي سيحدد مآلات هذه الاتفاقية، بل وسيحدد مستقبل القضية الفلسطينية برمتها، وعليهم وحدهم مسؤولية تقرير مصير هذا الوطن الغالي وشعبه العظيم.

وعليه فإن تحقيق الأهداف الوطنية الحقيقية للشعب يتطلب من قادته تجنب التعامل مع الاتفاقية باعتبارها (هدنة) لوقف الاقتتال الدائر بين مسلحيها في الشوارع. والانطلاق منها لأفق سياسي بديل للذي كانت تتعاطى وفق منظوره. وهذا بالطبع يتطلب أن تحدث هذه القوى (انقلاباً) في مجمل رؤيتها السياسية والتنظيمية، وإعادة ترتيب أولوياتها، بموجبه تحتل فلسطين وتحريرها وأمن شعبها الأولوية المطلقة التي لا تعلوها أولوية، ثم الانطلاق من هذا لتنسيق العمل السياسي والمقاوم المسلح والدبلوماسي بينها في إطار كبير موحد.

وهذا يعني إعادة هيكلة (منظمة التحرير)، إذا ما تراضوا على أن تكون هي المؤسسة التنظيمية الجامعة والمرجعية الوحيدة، بشكل يستوعب المستجدات التي أفرزها عمل التنظيمات المنفردة خلال العقود الماضية.

وهذا، ليس كما يظن البعض سهلاً، لأنه يتطلب أولا التنازل عن الأحادية التنظيمية الضيقة، التي أفرزت كل هذه التناقضات في الرؤى، وهذا الكم من الأسلحة والمليشيات في الشارع الفلسطيني، وفي النهاية هذا الاقتتال الدامي بين المحتلين.

إن توحيد الرؤية الفلسطينية، وبالتالي توحيد الإرادة حول برنامج عمل استراتيجي، يكون من المرونة بحيث يحقق مطلبي الوحدة والتنوع يظل هو العامل الحاسم للانطلاق باتفاق مكة المكرمة نحو تحقيق غاياته الأبعد.

أما النظر إلى الاتفاق كهدنة وتجميد الأهداف التنظيمية أو إخفائها تحت طاولة الحوار الفلسطيني - الفلسطيني وتجاهلها، وكأنها غير موجودة، فسيؤدي إلى إغلاق أبواب الأمل في حل القضية الكبرى وهي تحرير الأرض والإنسان من ذل الاحتلال الإسرائيلي ليفتح المجال أمامه واسعاً لتنفيذ أجندته الاستئصالية التي تُبقي على فصيل دون فصيل، لأن الجميع في مرمى النار الإسرائيلية والهدف واحد اغتصاب ما تبقى من (أرض ميعادهم).

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS

تبدأ برقم الكاتب«7692» ثم أرسلها إلى الكود 82244


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد