Al Jazirah NewsPaper Tuesday  27/02/2007 G Issue 12570
مقـالات
الثلاثاء 9 صفر 1428   العدد  12570
مواسم (القصيبي).. الحزينة
أنور عبد المجيد الجبرتي

* هذه ليست مراجعة لكتاب غازي القصيبي (المواسم)، أو تلخيصاً أو مناقشة له..

* كيف تفعل ذلك، وأنت تقرأ نحو مئة صفحة من البَوْح الحميمي المتدفق، والحزن المنهمر، والأنين المدوِّي في خطاب مباشر لاهث يتحدث فيه الكاتب إلى نفسه، أو تتحدث نفْسُه إليه.

* هذا كتاب للدكتور غازي القصيبي، يختلف عن كتبه كلها، ليس ديوان شعر يستعمل فيه الشاعر كلَّ مواهبه لإغراقك في دفْق الكلمة وهلامية المعنى واحتمالاته وإيقاع الوزن وطبل القافية، وليس هو رواية يوزع فيها الروائي نفسه وأفكاره وظنَّه ويقينه وعواطفه على أشخاص الرواية وأحداثها وليس هو مجموعة مقالات عن الحياة والعمل والسياسة، وكتابات الآخرين. وليس هو مختارات شعرية أو حكماً مختصرة.

* هذا كتاب يتحدث فيه غازي على نحو غير مألوف عن مواسمه الذهبية ومواسمه الحزينة، ولكنه كتاب المواسم الحزينة حقاً.

* والذين يعرفون غازي القصيبي عن كثب، يعرفون أنه لا يتحدث عن خصوصياته كثيراً، لا يتحدث عن عائلته وأحوالها إلا حديثاً عابراً يجعلك تشعر أنه لا يريد أن يخوض في مثل هذه الشؤون، لا يعرف الكثير عن أفراد عائلته إلا ما يقرؤون في قصائده عن (يارا) ابنته وبعض الأحفاد (مثل غازي وسلمان) ولا يبوح (غازي) بأحزانه الحميمية ولا يبث شجونه الخاصة، حتى ولو كنت تلمح شيئاً من آثارها على وجهه الذي يخلع عليه دائماً تلك الابتسامة المرحة الطازجة، ويضفي عليه بريق عينيه الطفولي البريء رغم تلك الإشاعة المؤكدة عن المحارب الشرس والفارس المقدام والمشاغب الإداري العتيد، وصاحب (المذابح) الإدارية الدامية.

* عندما قرأت الكتاب الحزين حزنت مع غازي ا لقصيبي كثيراً وحزنت له أكثر وفوجئت به وظننت أنها أوراق اعترافات خاصة يتحدث فيها الإنسان إلى نفسه ويودعها أدراج مكتبه السرية، إلا أنها ضلَّت طريقها إلى الناشر والقارئ في غفلة من كاتبها ولكنها بالطبع ليست كذلك، فقد قرر غازي القصيبي كما يبدو أن ينفث زفراته العميقة ويشرك القارئ الحبيب إلى نفسه في خواطره وخطراته ويعترف له اعترافاً صريحاً بآلامه الدفينة التي عاشت معه منذ طفولته الأولى ثم جاءت الخامسة والستون لتحمل معها موجات حزن وفُقْدان متتابعة جعلت ذلك البوْح المؤلم ضرورة ملحة لمراجعة في سجل الأحزان ورصد تتابع المواسم وتداخلها واستعادة التوازن الداخلي في مواجهة عواصف الحياة الداخلية وفيما حولها.

* فقد غازي القصيبي أخته حياة وإخوانه فهد، وعادل، ومصطفى خلال شهور قليلة ورحلت شقيقته (حياة) وشقيقه (عادل) خلال خمسة أيام رحمهم الله جميعاً. كان تدفق الموت مؤلماً وكنا نسمع بالأخبار المؤلمة ونشفق عليه من كلمات العزاء التي قد تبدو ركيكة وباهتة ومكررة وكنا نتساءل ماذا يدور في أعماق تلك النفس الرهيفة المفعمة بالعاطفة والشعر والتفاؤل، وكنا نمارس الإشفاق والخوف ونحن نراه يحاول التصرُّف على نحو عادي ويبدي التجلّد والتماسُك على نحو يثير القلق والتوجُّس.

* لكن ذلك الموت المتتابع الجديد بعث من الأعماق والذاكرة ذكريات كل موت قديم وكرَّس الخامسة والستين عاماً لفراق الأحباب ومراجعة الأماكن القديمة والأزمنة الراحلة والموتى القدماء.

* يسرد غازي القصيبي أسماء الموتى القدامى جميعهم الإخوان والأخوات وزوجات الإخوان وأزواج الأخوات وأبناء الإخوان وأبناء الأخوات، أولئك الذين رحلوا فجأة دون موعد مسبق أو تمهيد معلن، وأولئك الذين رحلوا بعد معاناة ومرض متألمين منهكين، الصغار والكبار، الأقران وغير الأقران.

وخلال هذا الاستطراد الكئيب القائم تتفتَّق آلام وصرخات يُتْم جديد لتبعث آلام وأحزان يُتْم كامن هائل قديم. (بدأ الأسبوع ولك شقيق وشقيقة وانتهى الأسبوع وأنت بلا شقيقة ولا شقيق وأنت في الخامسة والستين تحمل ألف جُرْح بعضها ينزف وبعضها جفَّ وبعضها يتكوَّن، وتشعر بإرهاق يملأ جسدك وروحك)... (تتظاهر أن الذي رحل عنك لم يكن لصيقاً بقلبك رفيق عمرك كله. تتظاهر أنك لا تكاد تعرفه، وتحس في القرار بيُتْم لاذع، وتحمد الله الذي لا يُحمد على مكروه سواه. وأنت في الخامسة والستين تشعر أنك غُصْنٌ بقي بمفرده على الشجرة، طائر رحلت الأطيار وتركته عاجزاً عن اللحاق بها، بلا شقيقة ولا شقيق.

* يُتْمٌ لاذع كامن في القرار وغُصْنٌ منفردٌ عارٍ حزينٌ وطائرٌ وحيدٌ رحلت عنه الأطيار يتيمٌ في الخامسة والستين ولكن هذا الشيخ اليتيم لم يكن يوماً إلا يتيماً، رحلت أمه وتركته وهو ابن تسعة شهور. تسعة شهور من العشرة في جوفها، وتسعة شهور أخرى حوْلها ثم الرحيل، ومنذ أن كان الرحيل كان اليتم الحقيقي الكامن حياةً ورحلةً وشوقاً.

* يتيم الأم هو اليتيم حقاً لم تكن هناك لتحضر الفِطام ولم تكن هناك لتشهد الوقوف الأول على قدمين متعثرتين، ولم يُسْمعها مناداة (أمِّي) عند انطلاقة اللسان، لم يكن هناك حضن يعدو إليه، وكتف يرتمي عليه، ويغرقه دموع حزن أو انتفاضة خوف وفزع، أو تمرُّغ دلال واحتماء.

* لنحمل هذا اليُتْم في أعماقنا ونمشي به مشاوير أيَّامنا ونتشاغل عنه بهموم حياتنا وأفراحها وأحزانها ومعاركها وهزائمها وانتصاراتها وبالأصدقاء والأعداء، والأزواج والأبناء ونحاول التعالي عليه باندفاع الشباب وحكمة الكهولة ووقار الشيوخ وهيبة المنصب وعلو المكانة لكنَّه يُدركنا ويحْضرنا ويفْجئنا حتى في الخامسة والستين فنعود مرة أخرى أطفالاً صغاراً يتامى حزانى، نبحث عن تلك الأحضان الدافئة التي لم نركن إليها واللمسات الحانية التي نستمتع بها ونداءات الأمومة الخالدة التي لم نمارسها ويصرخ في عمق أعماقنا وكينونتنا ذلك الفُقدان العظيم.

* يقول غازي: (وماذا تذكر عن أمِّك؟ لا شيء كنت في شهرك التاسع عندما رحلت كيف يمكنك ان تتذكر شيئاً؟ وماذا تعرف عن أمك؟ أقل من القليل، في طفولتك كان الحديث عنها يثير المواجع ولم تكن تريد أن تثير المواجع... وماتت في عامها الثامن والعشرين ذهبت دون أن تعرف كيف كانت تتعامل مع الوجود ومع الناس، ولا كيف كانت تضحك وكيف كانت تبكي، ولا تعرف شيئاً عن طباعها أو مزاجها أو عاداتها أو هواياتها، والصُّوَر الفوتوغرافية البكماء تقول شيئاً وتعجز عن قول أشياء، ما تعرفه أن موتها ترك غمامة صغيرة من الحزن لا تزول عن أفق العائلة الصغيرة... وكنت أنت بين الحين والحين تلجأ إلى الابتزاز، لو كانت أمِّي حية لما حصل هذا).

* حديث كأنه يبدو عابراً عن الأم لكنه كالعادة يخفي الحزن الكامن النازف المستديم المتجمد القديم نحاول أن نتحاشاه أو نتجنبه.

* فقد غازي الصغير أمَّه، ومنذ أن فقدها وهو يحاول بكل إبداعاته على التظاهر أن يجدها ويحتضنها ويبكي بكاءه المستحق منذ الزمن الأول على كتفيها.

* ووجد غازي شيئاً من الأم في جدته (سعاد) التي رحلت منذ زمن بعيد، وفي أشقائه وشقيقة زوجه (حياة) واطمأن ردحاً من الزمان إلى هذا البديل الدافئ واستقر في رحابه ليعوض عن اليتم القديم المكين.

* لكنهما - رحلا معاً وفي أسبوع واحد كأنهما كانا على اتفاق ليتركا غازي طفلاً يتيماً شيخاً في الخامسة والستين فيصرخ ب(المواسم) صرخته المؤلمة الحزينة.

* هذا موسم يُتْم جديد قديم لكن المواسم تأتي وتذهب ويبقى رجلُ (المواسم) ذو الخامسة والستين مرتدياً عباءة الحزن الوقور، لكنه قادرٌ على إعطاء هذه الحياة وهذا الوطن وكل الأصدقاء والمحبين القصيدة الجميلة والضحكة الصافية و(مواسم) زرع وحصاد وحب ومطر.

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5853» ثم أرسلها إلى الكود 82244


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد