Al Jazirah NewsPaper Wednesday  13/03/2007 G Issue 12584
مقـالات
الاربعاء 23 صفر 1428   العدد  12584
الأحزان يا سادتي الفُرسَانْ
أنور عبدالمجيد الجبرتي

-1-

* كان، (دُكّانه) عبر السوق الضيق، وكان الوقت ضحى. رأيته يُسدل الستارة، ويضع الكرسي، منكوساً على مُقدمة الدكان ليثبت طرف الستارة السفلي، ثم يتجه نحوي، وعرفت الحكاية، كيف ستكون، ألقى التحية، ثم قال: سلامٌ عليك باقي اليوم، لن أغْشى مجلسكم هذا المساء، فأخبر الجماعة، رددت تحيته، وعقّبت، على سلامه بالسلام.

* تأتيه فجأة، ودون مقدمات وغالبا ما تأتيه ضُحى، وعلى فترات متباعدة وغير منتظمة. إذا، جاءته، أقفل (الدكّان)، ووضع عباءته البنية على كتفه الأيسر، وأمال عقاله، وأقبل، مطرقاً، ينكث بعصاه التراب ويبعثر الحصى، حتى إذ وصل دكّاني، ألقى التحية، واعتذر عن لقاء المساء، كنت أنظر إلى وجهه فأرى ظلاً داكناً يجتاح ملامحه، ويغشى تجاعيد الوجه حتى أخاديد الجبين، تضيق عيناه وتُزمُّ شفتاه، ويمشي متثاقلاً، بكتفيه منحنياً برأسه وظهره، يلقي تحيات لا يسمعها أحد من رفاق السوق؛ يهمهم بها لنفسه.

* عندما يحضر لقاء المساء عادة يكون بهجة المجلس وأنسه، يلف سجائره ويسعل سعلاته الملغومة، بلغماً، ويلقي ضحكاته، وينثر طرائفه ويحكي ذكرياته عن الشام، والبصرة ومغامرات الطريق، نعرف أن له ولداً تركه عند أخواله، بعد أن طلّق أمّه، فتزوجت رجلاً آخر، ربما كان ولده في الثامنة أو التاسعة من عمره، ونعرف أن له إخواناً، وأبناء عم، وعشيرة، في بلدته البعيدة، وعلمنا أن له صحباً، وعلاقات كثيرة، تساقطوا منه، أو تناءوا عنه أثناء مشاويره البعيدة، ومغامراته العديدة وهو في جماعتنا، شخص مقبول مأنوس موثوق أحواله ميسورة وتجارته رابحة وصحته على ما يُرام. ولكننا لا نعرف لماذا تنتابه فجأة موجات الحزن العاتية، ينقطع عنا إلى بيته في أقصى المدينة، فيغلق عليه الباب، يكرع شاياً، وينفث سجائر ولا يجيب طارقاً أو منادياً.

* كثيراً ما تساءلت عن حزن (أبوعوّاد) المباغت الغريب. حزن جارف، لكنه هادئ، وصامت، وحنون، وتخيلت وحدثت نفسي، بأنه حزن على الذي مضى، وعلى ما سيكون وعلى ما لا نعرف إن كان قد مضى حقاً، أو أنه، يوماً سيكون.

* قال عنه شاعر الحزن العظيم:

لقد بَلوْتُ الحزن حين يزحم الهواء كالدخان

فيوقظ الحنين، هل نرى صِحَابنا المسافرين

أحْبَابنا المهاجرين

وهل يعود يومُنا الذي مضى من رحلة الزمان؟

ثم بَلوْتُ الحزن حين يلتوى كأفعوان

فيعصر الفؤاد ثم يخنقه

وبعد لحظة من الإسار يُعتقه

ثُم بلوتُ الحزن حينما يفيض جدولاً من اللهيب

نملأ منه كأسنا، ونحن نمضي في حدائق التذكرات

ثم يمرُّ ليلنا الكئب

ويشرق النهار باعثا من الممات

جذور، فرْحِنا الجديب

- 2 -

كان صاحبي دائماً في السفر وكان ذلك منذ زمن

وكان طيب الصحبة، خفيف الظل، كريم الظعن، والمقام

وكان مستبشراً, متفائلاً، يشغل أوقاتنا، بالبرامج، والمشاهدات، والمشي السريع، المستمر في الأسواق القديمة، و(المولاتْ) والضفاف، والغابات. كان يقرأ خرائط المدن قبل النزول فيها، وينتقي برامج المساء والسهرة ويحصل على أفضل التخفيضات في الفنادق، والمتاجر، وله أصدقاء، ومعارف في كل قرية ومدينة. وعندما كنا شباباً كان يقول إنه قد وضع خطة لحياته، ومشاريعه بالتمام، والكمال، كان يعرف ماذا يريد وكيف يصل إلى ما يريد. كانت بعض آماله وطموحاته عظيمة وكبيرة كمعظم آمال وطموحات أزمنة الصبا والشباب، وكنا نعرف ما يعلنه لنا من تلك الأحلام، ولعل عند كل منا أحلاماً وطموحات ورغبات، يحتفظ بها لنفسه ولكنني أعتقد أنه حقق نجاحاً معقولاً في حياته.

أذكر تلك الأيام فيحضرني منها، اكتئاب مفاجئ وحزن طارئ يطغى عليه دون مقدمات، فينزعه من بيننا، ويأخذه بعيداً عنا، لفترة من الوقت لينفرد فيها بنفسه على مائدة بعيدة، أو مشوارٍ خلوي سهِم، أو مساء وحيد، يغلق عليه فيه باب غرفته، ويرفع (سماعة) تليفونه.

لا يُفصح عن نفسه، ولا يشرح حاله، فيُباغتنا بهذه المفارقة بين وقت مشرق مبتهج، وسحابة داكنة، أو ظلال قاتمة وأتساءل لماذا يحزن فجأةً ويرحل بغتةً؟ هل تخنق الأحلام الوردية والآمال المشرقة أحداً؟ وماذا يفعل المتشائمون إذاً؟ وخطرت لي مقولة شاعر الحزن العظيم:

حين تصير الرغبات أمنياتْ

لأنها بعيدة المطال في السما

ثم تصير الأمنيات وهماً

لأنها تقنّعت بالغيم والضباب

وهاجرت مع السحاب

واستوطنت أعالي الهضابْ

ثم يصير الوهم أحلاماً

لأنه مات، فلا يطرقُ سورَ النفس إلا حين يظلم المساء

كأنه أشباحُ ميّتين من أحبابنا

ثم يصير الحلم يأساً قاتماً وعارضاً ثقيلاً

أهدابُنا...

أثقل من أن تَرى

وإن، رأت فما يرى العُميان

أقدامُنا...

أثقل من أن تنقل الخُطى

وإن خطَت تشابكت، ثم سقطنا هُزأةً، كبهلوان

-3 -

* هل رأيتم طفلاً حزيناً؟ أو هل رأيتم الحزن طفلاً؟

* رأيت، يوماً طفلاً حزيناً في فناء مدرستي الابتدائية، كان الوقت فسحةً، وكان يأوي وحيداً إلى ركن بعيد ويرنو ساهماً نائياً كأنه لا يشعر بالضوضاء المبعثرة في عبث الأطفال، أو صياحهم المتعالي عند (طابور) المقصف.

* الأطفال عندما يحزنون مثل الكبار يُطرقون ويسرحون ويصمتون، لكن وجوه الأطفال ناعمة محايدة خالية من التضاريس المتمايزة، والتاريخ المتراكم الذي يسمح بالتأويل والتفسير.

إنه حزن طازج، بدائي، حائرٌ، غامض، متأمل، متسائل. لماذا كان الطفل حزيناً؟ كان يبدو من ملابسه وهيأته أنه ميسور الحال، فليس حزنه على هللاتٍ، يفتقدها ليشتري بها خبزاً وجُبناً، وحلوى، لم تكن سنّه قد تقدمت به فيُفجع بالآمال المحبطة، والناس الخائبين، والهزائم المؤلمة. حزن الطفل كان حزناً يتيماً لقيطاً، عديم التاريخ والجغرافيا، كأنه الحزن الذي تحدث عنه شاعر الحزن العظيم حينما قال:

حُزني غريب الأبوين

لأنه تكوّن ابن لحظةٍ مفاجئة

ما مَخضته بطنْ

أراه فجأة إذا يمتد وسط ضحكتي

مكتمل الخلقة مَوْفورَ البَدنْ

كأنه استيقظ من تحت الرّكامْ

بعد سُباتٍ في الدهورْ

ذهبت إلى شيخي القديم، أزوره في (بستانه) في أقصى (العوالي) من (المدينة)، أحتسي معه (الشاهي) بالنعناع (الحساوي) يمزجه ببعض (الدُّوشى) و(العِطرة) مباهج مدينية معتقة تستنشقها ذاكرة الطفولة والصبا، فتنسى الإجابات وتعاود الأسئلة.

سألته عن ذلك الشيء الحزين (الذي قد يختفي.. ولا يبين، لكنّه مكنون شيء غريب غامض.. حنون).

قال: الأسئلة جاهلة مغرورة والإجابات عليها ظنون ولكن كيف؟ وماذا، لا تجيب عليها حقيقةً إلا (لو) التي قال عنها شاعرك الحزين:

لو كان للإنسان أن يعيش لحظة العذاب

... مرّتين.. بكل عُمقها الكئيب الساذج المقرور

أن يلدَ الآهة مرتين

خالصةً بلا سرور

وأن يجسّ ذلك الشيء الحزين جسّتين

لكي يرى فُجاءتَه

ويستبين وجهَه ومشيتَه

لو اتكأتَ أيها الشيء الحزينُ مرةً على مرافئ العيون

لو ركبك المسافرون... ... ينزلون

ولكنني أقول، مع الشاعر الحزين صلاح عبدالصبور، عندما أدلى بأقواله في (اعتراف تأخّر عن أوانه):

كُنت أُحسّ سادتي الفُرسان

أنكمُو أكفانْ

وكان هذا سرُّ حُزني...

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMSتبدأ برقم الكاتب«5853» ثم أرسلها إلى الكود 82244


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد