Al Jazirah NewsPaper Monday  19/03/2007 G Issue 12590
محاضرة
الأثنين 29 صفر 1428   العدد  12590
التجربة الشورية في المملكة العربية السعودية بين الإطار والتطوير
عبدالرحمن الشبيلي

فيما يلي تنشر الجزيرة نص المحاضرة للدكتور عبدالرحمن الشبيلي عضو مجلس الشورى سابقاً التي ألقاها في مؤسسة عبدالرحمن السديري الخيرية بالجوف (ضمن موسمها الثقافي) مساء الأربعاء 24-2-1428هـ (14- 3-2007م)

لا تبحث هذه الورقة في التأصيل الشرعي للمصطلح، فهو أصل إسلامي بقوة النص القرآني لا يحتاج إلى إثبات أو تثبيت، كما لا تبحث في مقارنة الشورى مع أنظمة الحكم الدستورية الأخرى، فهو بحث يطول لم تحسمه مداولات أزلية، بين من يفتش عن أوجه للتكامل بينها وبين من يصر على التعارض والاختلاف.

فهذا ابن خلدون مثلاً يصف الجمهورية الرومانية في القرن الثالث الميلادي بأنها نظام شوري، بمعنى أنها دولة مؤسسات ومجالس وهيئات، وليست حكماً فردياً، بينما نجد أبا الأعلى المودودي في العصر الحديث يتحدث عن الديمقراطية بأنها لا تلتقي مع الإسلام في شيء، وأنها نتاج غربي، في حين أن الحكومة في الإسلام -في نظره-حكومة إلهيّة دينية، ولكن ليس بالمعنى الكنسي (للثيوقراطية).

وهناك بين أولئك (المنادين بالديمقراطية) وهؤلاء (الملتزمين بالشورى) من يظن أن الديمقراطية آلية من آليات الحكم ووسائله، وليست أساساً من أساساته كالشورى، وبالتالي فإنه يرى شيئاً من إمكانية الجمع بينهما، لأن الديمقراطية بتعبير آخر -كما يراه الشيخ محمد الغزالي- ليست ديناً يوضع في مواجهة الإسلام (الشورى)، وإنما هي تنظيم للعلاقة بين الحاكم والمحكوم(1).

لكن المؤكد أن أحد أسباب هذه المداولات الأزلية التي لم تحسم، هو أن المجتمعات الإسلامية قد بَعُدَتْ بها المسافة عن عصر الشورى الإسلامية الحقة، بعد أن آلت فيها السلطة إلى أنظمة ونماذج متباينة من الملكيات والجمهوريات، ودخلت دولها في أشكال من الحكم الفردي، العادل أحياناً والمستبدّ أحياناً أخرى، كما أن المجامع العلمية الإسلامية منذ انتهاء عصر الخلافة، لم تتوصل إلى تنظير نهج للشورى تنظيراً متقدماً يوضح معالم الطريق السياسي، بما يغني عن البحث في البدائل الأخرى عبر العصور.

وانطلاقاً من هذه المقدمة، ودون الغوص في دراسة الأدلة الشرعية، تقف هذه الورقة -التي كتبت برؤية شخصية- بين جانبين من جوانب تطبيق العملية الشورية في بلادنا، وهما الإطار، وأعني به: التجارب والنماذج التي ظهرت بها الشورى عبر التاريخ، والتطوير، الذي يسعى إلى تقريب منهج الشورى من النماذج (الدستورية) الأخرى المأخوذ بها عالمياً في العصر الحديث، بالاستفادة من مزاياها وترك ما يتعارض منها مع مقاصد الشريعة.

لكنني قبل الدخول في مفهوم هذا العنوان، أبدأ بسرد تاريخي موجز، يتناول مدلول الشورى في الفكر الإسلامي، وبتتبع تطبيقاتها المبكرة وصولاً إلى بدايات الأخذ بها في الدولة السعودية المعاصرة.

إن ورود الوصف بالشورى (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) في السورة المكيّة المعروفة باسمها يفيد الأصالة والإطلاق، ويرفع الشورى إلى مصاف الفرائض الكبرى، بوضعها بين شعيرتي الصلاة والزكاة، وأن الشورى معلم من معالم الإيمان، وخصيصة من خصائص الأمة، وركيزة من ركائزها بالمعنى الأخلاقي الكبير، أما ورود الأمر القرآني (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) في سورة آل عمران المدنية -أي بعد أن تحوَّل المجتمع الإسلامي إلى مجتمع سياسي ديني- فإنه يدعو رسول البشرية - صلى الله عليه وسلم- إلى التشاور في الأمور كلها، وهو لفظ عام للأقوال والأفعال والأحوال(2).

وقد فسر الفقهاء المعنى الإسلامي لمصطلح (الشورى) بأنه: (معرفة رأي الأمة في القضايا التي تخصها، شريطة عدم تعارضها مع النصوص الشرعية القطعية)(3)، ويرى أكثر الفقهاء أن الشورى أمر ملزم للحاكم، ولا يمثل منحة منه أو منَّة، وأن الشورى حقيقة مجملة، وتفصيلاتها متروكة لظروف المجتمعات.

لقد بدأ التطبيق العملي للشورى في عهد النبوة من خلال الممارسات الموروثة عن الرسول في الشؤون الدنيوية، وفي الحرب والسلم، وفي الأمور المعيشية والتخصصية، ثم استمر في عهد الخلافة الراشدة من خلال هذه الصور بالإضافة إلى نموذج (أهل الحل والعقد) الذين كان يقع عليهم اختيار خليفة المسلمين بعد استطلاع رأي الممكن من جمهور الناس. لكن الظروف المفاجئة لانتقال الخلافة من خليفة إلى آخر، وصعوبة الاتصال مع الأمصار الأخرى، جعلت تشكيل أهل الحل والعقد، يقتصر على مجتمع المدينة المنورة من السابقين في الإسلام، ومن الأفقه في دين الله، ومن ثم عرْض اسم من يتوصلون إلى اختياره (خليفة للمسلمين) على بقية الأمصار لعقد البيعة له. وذلك يعني أن تحديد من يُسَمّون أهل الحل والعقد كان يتم من قِبَل الخليفة وممن حوله من كبار الصحابة والتابعين، اختياراً لا انتخاباً وتعييناً لا تمثيلاً. لكن هذا النمط (المسمى أهل الحل والعقد) يظل عُرفاً موروثاً، ونموذجاً من الاجتهاد يتناسب وعصره، ولا يستند -في تقديري- إلى نصوص الدين.

وعندما بدأ توارث الحكم في العهدين الأموي والعباسي والعصور اللاحقة التي ساد فيها الانفراد بالحكم، بدأت مفاهيم الشورى تتغير، وصار مدلولها الأصيل يتلاشى، وانحسر ذكرها في بطون الكتب التراثية والتاريخية، وتراوحت أبعادها بين الإعلام والنصح والمشورة لولي الأمر أو الإلزام، وبين الندب أو الفريضة، ثم صرنا نردِّد ما يقال حديثاً : هل ما تصدره المجالس الشورية قرارات نافذة أم توصيات لولي الأمر؟ ثم انبعث النقاش سجالاً في العصر الحديث بين علماء المسلمين، من أمثال محمد الغزالي ومحمد رشيد رضا وحسن البنّا والكواكبي ومحمد أسد وعباس العقاد وأبو الأعلى المودودي ود. محمد سليم العوّا و د. محمد عمارة وغيرهم، فبحثوا في المقارنة بين النظام الإسلامي للحكم وبين الأنظمة الدستورية الأخرى، وأصدروا مئات الكتب والدراسات فيها.

وفي هذه البلاد، بدأت الدولة السعودية -بفكر سلفي- عام 1157هـ (1744م)، لتشمل تدريجياً معظم أنحاء شبه الجزيرة العربية، إلا أنها في فترتيها الأولى والثانية لم تتمكن من إقامة مؤسسات دستورية حديثة(4)، ولهذا أخذت تطبيقاتها الشورية، شكل البيعة ومشاورة العلماء وعقد المجالس المفتوحة المتعارف عليها في المجتمعات القبلية والعشائرية المتوارثة على مر العصور، حتى إذا ما انتصر الملك عبدالعزيز في الحجاز عام 1343هـ (1924م) بعد ربع قرن من الانشغال في أمر توحيد هذه البلاد، وجد نفسه في مكة المكرمة وارثاً لكيان سياسي تتوافر فيه بعض مقومات الحكم الحديث وتنظيماته، مقارنة مع ما هو قائم في أغلب إمارات شبه الجزيرة العربية وولاياتها، إذ وجد بدايات لوسائل النقل والاتصال والإعلام، كما تذكر بعض كتب التاريخ(5) وجود أساس لمجلس الشيوخ في العهد الهاشمي برئاسة محمد صالح الشيبي، ومجلس للوكلاء (الوزارة) برئاسة عبدالله سراج والأمير علي بن الحسين، هذا بالإضافة إلى مجلس منتخب للشورى يشارك فيه الأهالي والجاليات المقيمة، لكنها -أي المراجع- لا تقدم تفاصيل كثيرة عن هذه المجالس الثلاثة واختصاصاتها وإنجازاتها، وقد كُوِّن مجلسا الشيوخ والوكلاء في ذي الحجة من عام 1334هـ بُعيد استقلال حكومة الحجاز الهاشمية عن الدولة العثمانية (1916م). أما مجلس الشورى فيبدو أنه تشكَّل قبل انهيار الحكم الهاشمي في الحجاز (1924م) بمدة قصيرة.

ولابد أن وجود نواة هذه المرافق والتنظيمات الإدارية المبكرة في مكة المكرمة قد لاقى قبولاً وارتياحاً في نفس الحاكم الجديد للحجاز (الملك عبدالعزيز)، فلقد اختصرت كثيراً من الوقت والجهد والمال والتفكير، خاصة وأنه رغب -في حينه- في إبقاء الحجاز على ما كان عليه، حتى تتحسن أوضاعه إلى ما هو أفضل.

كان واضحاً منذ البداية أن فكرة مجلس الشورى -تحديداً- تتفق ونهجه الإصلاحي، بل لقد كان فهمه للشورى ولوظيفة المجلس ولمبدأ الانتخابات فهماً متقدماً جداً كما تدل على ذلك قراءة خطاباته وتعليماته في حينه، فهو ما إن دخل مكة المكرمة حتى اتخذ خطوات متتالية نحو إنشاء المجلس وإصدار نظامه، بدءاً بتكوين المجلس الأهلي، فالمجلس الاستشاري فالمجلس الشوريِّ، وأخيراً مجلس الشورى. وقد استغرقت تلك التحوّلات المتسارعة أقل من ثلاث سنوات، بين عامي 1343هـ (1924م) و1346هـ (1926م).

بدأ مجلس الشورى القديم - الذي صدر نظامه الأول في مطلع عام 1346ه (1926م)، وكانت الانتخابات إحدى وسائل اختيار أعضائه، من شرائح المجتمع في الحجاز مع تعيين عضوين يمثلان نجداً - بدأ سلطة تنظيمية تنفيذية في آن واحد، فكان يقر مشروعات القوانين واللوائح ويتدخّل في الوقت نفسه في الإدارة التنفيذية بأدق تفاصيلها.

وبين عامي 1344هـ و1351هـ (1932م)، وهو العام الذي أعلن فيه عن توحيد المملكة، اتضحت معالم الفصل بين السلطات الدستورية الثلاث، فظهرت السلطة القضائية (ممثلة برئاسة القضاة)، والسلطة التنظيمية (ممثلة بمجلس الشورى)، والسلطة التنفيذية (ممثلة بمجلس الوكلاء) الذي تحوَّل بعد عشرين عاماً إلى مجلس الوزراء (1373هـ-1953م).

تسبَّب تشكيل مجلس الوزراء - واستحواذه تدريجياً على الوظيفتين، التنظيمية والتنفيذية، وكونه يُرأس من قِبَل الملك سعود أو ولي عهده (فيصل) الذي كانت له من قبل رئاسة مجلسي الشورى والوكلاء معاً- وانتقال الحكومة إلى العاصمة (الرياض)، وربما عوامل أخرى، تسببت في خفوت وظيفة مجلس الشورى القديم، فتحوَّل كثير من سلطاته مع الزمن إلى مجلس الوزراء، ودخل في استراحة دامت أربعة عقود مع بقائه حياً في الهيكل التنظيمي للدولة، بميزانيته وأعضائه وتشكيلاته.

ثم تسببت ظروف عدة، داخلية وخارجية، في تأخير الإصلاح، وكان من أبرز وعود الحكومة بالالتزام به خلال تلك المرحلة، منهج الإصلاح الداخلي الشهير الذي وعد به ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء الأمير فيصل عند إعادة تشكيل الحكومة عام 1382هـ (1962م) في عهد الملك سعود، والذي نصَّ بين بنوده على وعد بإصدار النظام الأساسي الدائم للحكم، وعلى ضمان حرية التعبير، واستقلال القضاء، وإصلاح حال هيئة الأمر بالمعروف.

وجرت محاولات عديدة لبعث مجلس الشورى من جديد، لكن الأحداث السياسية المحيطة تتعاقب وتتسبب في التأخير مع أن صيغة التطوير كانت جاهزة بعد أن شكلت اللجان لإعدادها في عهدي الملك فيصل والملك خالد، حتى أذن الله لنظامه المطوَّر أن يخرج عام 1412هـ (1992م) في عهد الملك فهد بن عبدالعزيز، بعد أن تعافت المنطقة نسبياً من آلام احتلال الكويت، فصدر ضمن سلَّة من التنظيمات (الدستورية) الرفيعة، التي شملت مجلس الوزراء ومجالس المناطق تحت مظلة نظام أساسي جديد للحكم، جاء هو الآخر تطويراً للتعليمات الأساسية (التي كانت تُعَدُّ بمثابة أول دستور مؤقت للدولة صدرت عام 1345هـ، وأوضحت سلطات الملك ونظام الحكم). جدير بالذكر أن مرسوم توحيد المملكة (الصادر عام 1351هـ -1932م)، كان قد طلب من مجلس الوكلاء في حينه وضع نظام أساسي دائم للحكم، ونظام لتوارث العرش، ونظام لتشكيلات الحكومة.

كانت المنطقة بشكل عام، والمملكة بشكل خاص، لم تمسح بعدُ كل آثار الأحداث وذيولها، ولذا فقد جاءت صيغة تطوير مجلس الشورى متحفظة من حيث الصلاحيات، ومتقدمة من حيث الإجراءات التي سنّها النظام أو وضعها المجلس لنفسه، وحفيَّة بالتجهيزات المكتبية والمادية والبشرية.

ومن (8) أعضاء بدأ بهم المجلس القديم عام 1346ه (1926م) إلى (25) عضواً في ذروة تشكيلاته في عهد الملك سعود، وانتهاءً ب (6) أعضاء في آخر تشكيل تبقَّى من أعضائه القدامى، جاء تشكيل المجلس الجديد (عام 1414ه)، أي بعد صدور نظامه المطوَّر بعامين، بتعيين ستين عضواً من المتخصصين وذوي التجارب (التكنوقراط) روعي في اختيارهم احتياج اللجان المتوقع تشكيلها في المجلس، لدرجة أنه يمكن أن يطلق عليه (مجلس خبرات).

أعطى النظام للمجلس صلاحيات أفقية عريضة في دراسة الأنظمة (وتفسيرها) والنظر في اللوائح والاتفاقيات وخطط التنمية، وحق استدعاء المسؤولين بإذن رئيس مجلس الوزراء، وحق اقتراح نظام جديد أو تعديل نظام قائم بعد استئذان الملك في ذلك، في حين سكت النظام عن إمكانية مناقشة ميزانية الدولة، وعن مشاركة المرأة، وعن أي أسلوب آخر لاختيار الأعضاء غير التعيين. أما بالنسبة للهيكل التنظيمي وإجراءات العمل، فإنها تشبه إلى حدٍ ما مثيلاتها في المجالس الشورية والنيابية الأخرى.

ولقد كان رئيسه الأول، الشيخ محمد بن جبير، أميناً في الالتزام بروح النظام، مستفيداً من خبرته في المجالس واللجان العليا، ومن مشاركته المبكرة في وضع النظام ومعرفته بمقاصد راسميه، محافظاً -في الوقت نفسه- على خط إعلامي خفيض البروز والأضواء والتصريحات، وكان لا يخفي -من وراء هذه السياسة- حرصه على حماية بداية المجلس من العثرات، وعلى التدرج في المطالبة بزيادة الصلاحيات، فاحتاج المجلس إلى دورتين كاملتين (ثمانية أعوام) من السير على هذا النهج الهادئ البعيد عن الإثارة، كي يكسب مزيداً من اطمئنان القيادة، ولكي يثبت وجوده من جديد رقماً وركناً أساسياً في البناء الدستوري للدولة، ثم بدأ شيئاً فشيئاً، يقترب من ثقة المجتمع، ويحوز الأكثر من استجابة القيادة لاقتراحاته ومطالباته، فتلقَّى (عام 1421هـ) الضوء الأخضر نحو الانفتاح الإعلامي ورفْع الستارة عن مداولاته التي أوحى النظام -ضمناً- بسريتها، ثم نال في شوال (1424هـ) دعماً دستورياً قوياً تمثَّل في تعديل يعطيه منزلة أرفع عند الاختلاف مع مجلس الوزراء (المادة 17)، ويخوِّله المبادرة إلى سنِّ الأنظمة وتعديلها دون استئذان مسبق (المادة 23)، لكن ما سكت عنه أساس النظام تجاه مشاركة المرأة، ومراقبة الميزانية، وأسلوب اختيار الأعضاء، ظلَّ مسكوتاً عنه إلى حد كبير حتى الآن.

لا ينص نظام المجلس على أن يؤدي دوراً مناطقياً وفئوياً تمثيلياً، لكنه في الواقع حقق هذا المقصد دون الالتزام العلني به، ظهر ذلك جليَّاً من خلال الزيادات المضطردة في أعداد أعضائه في دوراته اللاحقة لتشكيله الأول من (60) إلى (90) ثم (120) وأخيراً إلى (150) عضواً، مع المحافظة قدر الإمكان على إبقائه ملتقىً ومجمعاً للخبرات والتخصصات الرئيسة، ثم منتِجاً لنخبة من القيادات بعد أن تمرَّ به.

بقيت رغبات تطوير المجلس وزيادة صلاحياته جذوة تشتعل في أذهان أعضاء المجلس ورئاسته، وفي فكر المستنيرين والمطالبين بالإصلاح من أفراد المجتمع، تلمع أحياناً وتخفت أخرى، وصار التأخير في تحقيق ذلك يحرج المجلس في علاقاته مع الاتحادات البرلمانية، التي استطاع أن ينضم إليها بعد أن قطع على نفسه وعوداً بالسعي نحو تطوير نفسه وإقناع المسؤولين بالضرورات الثلاث الملحّة لتأهيله كي يحتل مرتبة المجالس البرلمانية المعتبرة عالمياً، وأعني بها إشراك المرأة، وتطوير آليات اختيار العضوية، والرقابة المالية، مدركاً -أي المجلس- أنه لا سبيل للاستمرار في استخدام أدوات التجميل أمام الداخل والخارج ما لم تكن هذه الإصلاحات قد تحققت فعلاً، لكن المجلس كان يترفق في المطالبة الصريحة بها، نظراً لأن نظامه صدر بأمر ملكي، يحصر حق التعديل بالأداة النظامية التي صدر بموجبها.

وفي عهد رئيس المجلس الحالي الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد جاءت الفرصة المواتية لإبداء رغبة المجلس في تطوير نفسه على طبق من ذهب، في أثناء اللقاء الملكي السنوي بأعضاء مجلس الشورى (16 ربيع الأول 1424هـ - 17-5-2003م)، فلقد ركز ذلك الخطاب التاريخي السامي البالغ الأهمية، على الإصلاح السياسي والإداري، وعلى توسيع المشاركة السياسية، وأننا (لا يمكن أن نسكن والعالم يتغير)، كما أكَّد على عدم التشكيك في صدق دعاة الإصلاح ونزاهتهم، فاغتنم المجلس تلك المناسبة ليرفع مشروعاً مفصلاً برؤيته للإصلاح الدستوري، تضمنت مقترحات محددة تجاه القضايا الثلاث المذكورة وغيرها، وكان من أبرز ما تضمنته مذكرته: المطالبة بتعزيز السلطة التنظيمية والرقابية للمجلس بتعديل المادة (15) من نظامه، مع صلاحية بحث مقترحات المواطنين -الواردة إليه- مع المسؤولين مباشرة، وتعديل المادة (22) من نظامه حول مساءلتهم دون استئذان مسبق، وتعديل المادة (17) من نظامه بشأن تنظيم العلاقة مع مجلس الوزراء، والمطالبة بإزالة أشكال الازدواجية في صلاحيات مجلس الشورى، ومناقشة برامج الميزانية قبل صدورها، ومنح المرأة دوراً طبيعياً في المجلس يتناسب وموقعها الإنساني والأسري والمجتمعي، ودراسة الجمع بين مزايا التعيين والانتخابات، وتعيين وزير دولة لشؤون مجلس الشورى في مجلس الوزراء، مع تأسيس فكرة عرض برنامج الحكومة الجديدة عند كل تغيير وزاري، وإقامة علائق تنسيقية وتعاونية ما تزال مفقودة مع مجالس المناطق منذ إنشائها.

وعلى صعيد مساندة الإصلاح الشامل في البلاد بشكل عام، دعا المجلس إلى تقنين الأحكام الشرعية، واحترام التعددية المذهبية، ورسم سياسة تحقق مزيداً من العدالة الاجتماعية، مع مقترحات تتناول التربية الوطنية، وحرية التعبير، وتجديد الخطاب الإعلامي، والتصريح بإقامة مؤسسات المجتمع المدني، ومحاربة ظاهرة الغلو والتطرف والفساد الإداري، وتشجيع الحوار الوطني. ويتضح من استعراض هذه الاقتراحات أن بعضاً منها -كما أشرت- قد استجابت له القيادة وأُخذ به منذ عام 1424هـ وحتى الآن.

استمرت تلك المطالبات وأمثالها تظهر في الكتابات الصحفية والحوارات وعلى الفضائيات، وأصبح ما يقال همساً في أروقة المجلس يطلق علناً في المحافل العامة والمنتديات، وتحول الجدل والنقاش من خلاف على المصطلح (الشورى أو الديمقراطية) إلى توافق على الأهداف.

لقد كان من الصعب عبر التاريخ، كما رأينا، أن يتم الاتفاق على مصطلح الديمقراطية بدلاً للشورى، أو جعله مرادفاً له أو مكملاً، لكننا بدأنا نلحظ أن الفرقاء أصبحوا أكثر تقارباً نحو المقاصد من الإصلاح، بل لقد خفَّت حدَّة الرفض لبعض الآراء التي كان هؤلاء وأولئك يتمسكون بها، وأصبحنا نستعيد مفهوم العقد (التراضي) الاجتماعي، ونسمع في العالم الإسلامي مصطلحات للتوافق والتقريب بين الأنظمة مثل تعبيري (الحكم الرشيد والحكم الصالح). ولعل هذا التقارب كان أحد ثمار الحوارات والطروحات العلنية لمشروعات التطوير والإصلاح.

الشيء اللافت للنظر أن الاختلاف في وجهات الرأي، وحتى في حدوده القصوى، كان يدور في إطار الشرعية المكتسبة للبلاد، وأقصد بها شرعية النظام السياسي الذي تمتد جذوره وثوابته في هذه الجزيرة منذ نحو ثلاثة قرون، وهو ما يدلل على أننا نعيش مخاضاً وطنياً راشداً صحياً لم يتجاوز -في معظمه- الحدود والآداب.

بل لقد بلغ من مظاهر هذا المناخ التوافق على أن الإصلاح شأن داخلي، وأنه مهما أبطأ الأخذ به، وأياً كانت الجهة الضاغطة، فإنه ينبغي أن ينبع من اقتناع وطني، وأن يلبس حلة محلية، وأن الضغط الغربي -تحديداً- من حقوق الإنسان والإصلاح والديمقراطية، بما رافقه من نفاق وازدواجية في المعايير ظهر واضحاً في التعامل مع فلسطين والعراق هو أمر مرفوض لا يحظى بأي مصداقية أو جاذبية، سواء أتى عبر القنوات الدبلوماسية أو البرلمانية أو الإعلامية، أو من خلال وسطاء أو معارضة، أو ورش عمل، وسواء تضمن محفزات أو تهديدات أو نحوها، إلا أن هذا لا يعني أن نصم آذاننا عما يجري حولنا، أو عن الأخذ بالنماذج المتطورة في العالم، عملاً بما ورد في الخطاب السامي من أن (الإصلاح يظل ضالة المؤمن)، يقتبسه من حيث ما وجده.

لقد كشفت تجربتنا في اختيار أعضاء المجالس البلدية قبل عامين شوائب الانتخابات وما يعترضها ويرافقها في كل المجتمعات من ممارسات، تتنافى ومقاصدها في اختيار الأكفأ. لكن المجتمع السعودي الذي مارس هذه التجربة بعد طول غياب، يثبت أنه الأوعى والأقدر على التمييز وحسن الاختيار، ومن ثم عُدَّت التجربة ناجحة، وأتت بأفضل مما تسفر عنه الانتخابات في بعض المجتمعات.

وتتفهم الغالبية من دعاة الإصلاح الرزين، بأنه ليس ثورة على الثوابت، لكنه ضد الجمود، وأن التدرج فيه متطلب من متطلباته، وأنه سمة من سمات هذا المجتمع، وأنه الطريق الأفضل نحو تجنب النكسات، وأنه لا شيء أضر بقضايا الإصلاح والتطور من أن تؤتى الأمور قسراً أو بتعجل، وبخاصة عندما تكون المطالب ذات صبغة مجتمعية، لا يحسن -ما أمكن- أن تفرض بقرار إداري أو سياسي، فالاقتناع المجتمعي خطوة حافزة في مثل هذه الأمور.

إن المخاض الذي يمر به المجتمع السعودي بالذات، والمجتمعات العربية المماثلة بشكل عام، هو مخاض صعب ودقيق الحساسية، ومن الأنسب لمصلحة أي قضية تطويرية مطروحة، أن تتم بالتدرج، وأن تترك للتطور الطبيعي وفق تراضي شرائح المجتمع، ودون أن تفرض شريحة رأيها على أخرى، طالما أنها -أي القضية- لا تتعارض مع الثوابت الإسلامية.

يأتي في مقدمة الإصلاحات التنظيمية المنشودة تحديد العلاقة بين السلطات الثلاث (أو ما يسمى قانونياً الفصل بين السلطات) وهو مبدأ دستوري قديم يهدف إلى عدم تغلُّب أي سلطة أو انفرادها أو تداخلها مع الأخرى، وهو أمر تراقبه وتفصل فيه عادة المحكمة الدستورية في حال وجودها، وهناك من القانونيين من يرى ضرورة بقاء نسبة من رقابة إحداها على الأخرى، وبخاصة من قبل السلطة التشريعية (البرلمان).

يلاحظ في هذا الصدد، أن النظام الأساسي للحكم قد حدد في مادته (44) السلطات الثلاث (القضائية والتنظيمية والتنفيذية) دون أن يسمي جهاتها، وذكر أن الملك هو مرجعها، ودعاها إلى التعاون فيما بينها لأداء وظائفها (في إطار النظام العام)، ثم تضمَّن نظام مجلس الوزراء ما ينص صراحة على أنه السلطة التنفيذية (المادتان 19 و24)، لكننا لا نجد تأكيداً واضحاً -في النظام الأساسي للحكم أو حتى في نظام مجلس الشورى- على أن مجلس الشورى هو السلطة التنظيمية.

جدير بالذكر أن مجلس الشورى ظل يلتزم بوصف نفسه سلطة تنظيمية، وعندما يستخدم تعبير (التشريعية) فهو إنما يستعمله مجازاً، وذلك من منطلق أن التشريع قد حسم في مصدريه الشريفين (القرآن والسنة).

لقد عُرفت حالات معينة منذ أعيد تنظيم مجلس الشورى، حصل فيها التفاف على اختصاصه، وهو تجاوز عادة ما تردّه المحاكم الدستورية في الدول الأخرى إلى جهته المختصة، من هنا، فإن من المؤمل أن يكون الفصل الأوضح بين هذه القنوات مما ينتظر من أي تطوير قادم للأنظمة الرئيسة ذات العلاقة، من خلال النص صراحة على أن وظيفة مجلس الشورى هي الوظيفة التنظيمية (التشريعية)، على ألاّ تتعارض قراراته (وقوانينه) مع القرآن الكريم والسنة المحمدية.

يستتبع قضية فصل السلطات هذه مسألة تُعَدُّ في دول العالم من اختصاص السلطة التشريعية (التنظيمية)، وهي الرقابة المالية التي هي في العرف البرلماني أهم أسباب القوة في سلطة البرلمان على اختلاف مسمياته، وهو ما سوف يمنح مجلس الشورى السعودي هيبة في الداخل، وسيكسبه وضعاً مريحاً في الخارج بعد أن حاز على عضوية الاتحادات البرلمانية الرئيسة.

إن التجربة الأحدث التي مرت بها المملكة لاختيار أعضاء المجالس البلدية عن طريق الانتخاب المباشر، قد أعطت الثقة بإمكانية الاستمرار فيها على مستوى مجلس الشورى ومجالس المناطق لاختيار نصفهم مرحلياً، بعد وضع المواصفات التي ينبغي أن تتوافر في المرشحين، بما يتناسب واحتياجات تلك المجالس، ومن ثم يختار الملك النصف الثاني من الكفايات والتخصصات التي تحتاج إليها تلك المجالس.

وتقود دعوة إعادة النظر في آلية اختيار أعضاء مجلس الشورى إلى مسألة أخرى أهم، وهي مستقبل المجلس في ضوء العرض التاريخي الذي بدأت به هذه الورقة، وإلى طبيعة التطورات التي وصلت إليها المشاركة الشعبية الناجحة في المجتمع السعودي، إذ يعتقد البعض أن مضاعفة أعداد المجلس في دوراته الأخيرة ربما تسهم في إضعاف نوعية الاختيار الذي انطلقت به بداياته المبكرة، وبالتالي فإنه صار -كما أشرت من قبل- أقرب إلى تلبية التشكيل التمثيلي للمجتمع، فأصبح البعض يكرر اعتقاده بأن الوقت قد حان للتفكير جدياً في إنشاء مجلسين يكون أحدهما بالتعيين والآخر بالانتخاب، وذلك على غرار ما هو معمول به في كثير من دول العالم. وقد يكون من المناسب هنا النظر في إحياء عرف (أهل الحل والعقد) وتطوير اختصاصاته في المجلس الثاني بحيث يتكوَّن -مثلاً- من أربعين عضواً بواقع ثلاثة أعضاء تختارهم كل منطقة من مناطق المملكة الإدارية الثلاثة عشرة بالتساوي، كما هو حاصل في بعض مجالس الشيوخ والأعيان، وأن تكون هذه البلاد رائدة في تأطير هذا النموذج الموروث في تاريخ الحكومة الإسلامية، تأطيراً حديثاً يتناسب والعصر، مع التفكير بإيجاد صلة بينه وبين هيئة البيعة التي أعلن نظامها في العام الماضي.

ولقد كانت مسألة مشاركة المرأة في أعمال المجلس أحد الموضوعات الشائكة التي كثيراً ما أثارها المنادون بالإصلاح الداخلي، وكانت -كما سلف- أحد معايير العضوية في الاتحادات البرلمانية، تنبع مقاومتها لدينا من عوائق اجتماعية أو من حجج شرعية تستند إلى مسألة أهلية الولاية، لكن المجلس خطا منذ عام 1421هـ (2001م) الخطوات الأولى نحو الإفادة من رأي المرأة باستضافة مجموعات تناقش قضايا أسرية ونسوِّيه، وأوفد مجموعات تشارك مع وفوده الخارجية. لكن ذلك لم يرض دعاة المشاركة الحقيقية، خاصة أن الوسائل المكانية والتقنية تساعد على مشاركة المرأة بالطريقة التي تشارك فيها في المجالات الأخرى، بما يجعلها عضواً فاعلاً في بحث القضايا الوطنية بعامة، والموضوعات الأسرية بخاصة.

ثم إن من الأمور التي واجهت تجربة مجلس الشورى في مسيرته الماضية، مسألة استدعاء المسؤولين، والوسيلة التي تتم بها، ومستواهم، وهل يمثُلون أمام المجلس نفسه أم أمام اللجنة المختصة وهل يشترط لمثولهم وجود معاملة قيد الدرس وما طبيعة المساءلة التي تتم للمسؤول ومتى تكون سرية وما معيار بثِّ المساءلات على الهواء؟ والمفترض، إذا ما أريد للمجلس أن تكون له المهابة والتأثير الرقابي أن تعاد صياغة نظامه إلى نصوص تستجيب لهذه التطلعات، وتعزز من قوته وسلطته التشريعية.

وبعد.. لقد انتظر المواطنون أربعة عقود يرقبون إيقاظ المجلس من سبات دام من عام 1373هـ إلى عام 1413هـ، وما يزالون منذ بَعثه قبل خمسة عشر عاماً يأملون منه أن يتطور أكثر في هذا العهد المشرق، ليكون صوتهم الناطق، المتلمس لاحتياجاتهم، المواكب لهمومهم، وأن يعمل يداً بيد مع مجالس مناطقهم، وأن يكون ممثلاً حقيقياً لتطلعاتهم.

***

هوامش:

(1) محمد عبدالفتاح فتوح: الديمقراطية والشورى في الفكر الإسلامي المعاصر: دراسة في فكر الشيخ محمد الغزالي، مكتبة الشروق، القاهرة 1427هـ (2006م).

(2) د.رضوان السيد: الشورى بين النص والتجربة التاريخية: أبو ظبي، 1997م.

(3) د.رضوان السيد، المصدر السابق.

(4) الدستور -وفق موسوعة السياسة- يعني تلك القواعد المنظّمة للحكم، سواء كان مكتوباً أو غير مكتوب، وسواء صدر عن استفتاء شعبي أو بواسطة البرلمان، ولهذا فإن استخدام المصطلح هنا هو تعبير مجازي.

(5) منها كتاب ماضي الحجاز وحاضره : حسين نصيف، القاهرة 1349هـ (1930م).


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد