Al Jazirah NewsPaper Tuesday  03/04/2007 G Issue 12605
مقـالات
الثلاثاء 15 ربيع الأول 1428   العدد  12605
المسألة اليابانية
أنور عبد المجيد الجبرتي

* نهضة اليابان بعد هزيمتها وتدميرها في الحرب العالمية الثانية قصة عجيبة ومثيرة وجديرة بالدراسة.

* قصة اليابان قصة حديثة ومعاصرة، فالحكاية المثيرة لليابان بدأت قبل خمسين عاماً أو تزيد قليلاً، ولكن قراءة التاريخ الحديث والمعاصر أمر عسير، وغالباً ما يكون جزئياً وانتقائياً ويعتمد على هوى القارئ وانحيازاته.

* هناك (فلتر) ساحر عجيب من الأهواء والأيديولوجيا والديموغجيا. ونحن نرى أحياناً الوقائع نفسها، ولكن كلّ منا يبصر شيئاً مختلفاً، ونسمع نفس الحقائق، ولكننا ننصت إلى ما نحب، وهذا يحدث في المكان الملاصق والزمان المعاصر، فكيف يكون الأمر عندما نقرأ التاريخ القريب أو البعيد؟!

* البعض يردِّد حكمة شهيرة تقول: إن الذين لا يقرؤون التاريخ حريّ بهم أن يعيدوه ويكرّروه ويقعوا في هاوياته ويرتكبوا أخطاءه. وأنا لا أعتقد أن أحداً لا يقرأ التاريخ. كلنا يقرأ التاريخ على النحو الذي يريده، وكلنا يستخلص التجارب والمواعظ والعبر من ذلك التاريخ على النحو الذي يحلو له. وبعض الذين يرتكبون الأخطاء التاريخية الكبرى متهمون بقراءة التاريخ قراءة علمية دقيقة؛ حيث تعينهم على ذلك مراكز متخصصة، ومستشارون ماهرون، ومحللون سياسيون، وخبراء استراتيجيون.

* قبل الحرب على العراق كانت هناك أطروحة أمريكية تقول: إن التجربة العراقية ستكون نسخة من التجربة الأمريكية الناجحة في ألمانيا الهتلرية واليابان الإمبراطورية بعد هزيمتهما وتدميرهما تدميراً شبه كامل. أصحاب تلك الأطروحات كانوا قوماً مطلعين على تاريخ وأوضاع ألمانيا واليابان قبل وأثناء وبعد الحرب، ولا مجال هنا للتفكير. إن التجربة اليابانية مثلاً تجربة مجهولة للأمريكيين، وقد خاضوا حرباً هائلة مع الإمبراطورية اليابانية وهزموها واحتلوا أراضيها سبع سنين، وقاموا بإدارة شؤونها، فوضعوا لها دستورها، وساهموا في إقامة مؤسساتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

* فلنقلْ إذنْ: إن أولئك الأمريكيين المتعطشين إلى الحرب المتلهفين عليها كانوا يتمنون أن تكون العراق يابانية الهوى والنتائج والمسرات.

* والتجربة اليابانية تجربة هائلة ومبهرة تستطيع أن تغشى العيون، وتهزّ البصيرة، وتلحق الأذى بفهم الدارسين واستنتاجاتهم، فيغرقون في آمالهم وتمنياتهم.

* دمّر سلاح الجو الأمريكي البنية الأساسية لليابان تدميراً هائلاً ومستمراً ومنتظماً، وكان يستهدف المصانع والمجمعات الهندسية والموانئ والجسور ومحطات توليد الكهرباء. ثم قامت طائرات (ب- 29) باستبدال القنابل الحارقة بالقنابل المتفجرة التي أمطرت بها (طوكيو) أولاً، ثم أمطرت ستين مدينة يابانية أخرى، واشتعلت منازل اليابان الخشبية وحوائطها الورقية وتحولت الشوارع اليابانية إلى أكوام من الرماد مختلطة بأكوام من الآدميين المتفحمين.

* في مساء العاشر من مارس 1945م تلقّت (طوكيو) نحو 1600 طن من القنابل الحارقة، وفقد نحو (100.000) مواطن ياباني حياتهم، وتكررت الغارات على مدى الجزر اليابانية، ثم جاءت بعد ذلك القنبلتان النوويتان على (ناجازاكي) و(هيروشيما)؛ لأن الأمريكيين وفقاً للتبريرات والتقديرات الرسمية كانوا سيفقدون أكثر من ستمائة ألف جندي لو حاولوا اكتساح اليابان بجيوشهم البرية، وكان ذلك سيسمح لليابانيين بالتفاوض على شروط أفضل لوقف القتال، بينما كان الهدف الأمريكي استسلاماً كاملاً وشاملاً دون شروط، وقد تحقق ذلك لهم.

* هذه تفاصيل دامية وحزينة، والحروب دائماً بشعة وغادرة وقاسية، ولكن كيف استطاعت اليابان ذات الحكم الإمبراطوري المقدس، والنزعة العسكرية المتطرفة، والاستعلائية الثقافية، والعنصرية الطاغية، والفخر والاعتداد بالشرف الشخصي والوطن؛ أن تبتلع الهزيمة الكاملة والاستسلام المذلّ ثم تنطلق لتعيد بناء قدراتها وتتفوق على تاريخها وتصبح اليوم ثاني أكبر اقتصاد في العالم.

* في ذلك الوقت كان أكثر الخبراء الاقتصاديين والسياسيين يتوقعون مستقبلاً مظلماً لليابان، ويشككون في قدرة اليابان على إطعام نفسها فضلاً عن تحقيق رخاء اقتصادي وتفوق تكنولوجي.

* كتب البروفيسور (إدوين - رايشور)، وهو أفضل خبراء زمانه في الشأن الياباني: (هناك مشكلة في أن تتمكن اليابان بصرف النظر عن النظام الاقتصادي أو السياسي الذي ستختار في أن تحصل على مستوى معيشة مقبول في المستقبل؛ فاليابان لا تستطيع إنتاج غذاء يكفي لإطعام شعبها، ولن تتمكن من إنتاج أنسجة تكفي لكساء مواطنيها. ليس لديها إلا القليل من النفط والحديد والمعادن الأخرى والمواد الخام لدعم اقتصاد صناعي حديث. وحتى لو تمكنت اليابان من استخدام طاقة الإنسان والماء والفحم لتصنيع بعض المنتجات لتصديرها فلن يترك لها ذلك ربحاً معقولاً لإعالة شعبها. وتحتاج اليابان صادرات هائلة إلى أسواق كبيرة، فكيف يتأتى لها ذلك في عالم متهالك منقسم على نفسه، وفي شرق موبوء بالثورات ويصرّ على عدم المتاجرة مع اليابان؟!).

* كانت تلك هي اليابان، وكان ذلك هو مستقبلها كما يراه أفضل الناس معرفةً بها، ولكن المعجزة اليابانية خيَّبت آمال الخبراء وتنبؤات الاقتصاديين، واستطاعت اليابان أن تحقق نمواً سنوياً حقيقياً يتجاوز العشرة في المائة خلال الفترة من 1954 إلى 1971م على نحوٍ لم يُسبق في التاريخ الاقتصادي للأمم، ووصل متوسط الدخل للفرد عام 1989م إلى مستوى الولايات المتحدة الأمريكية، وبقية القصة معروفة. ولعل من اللائق أن نذكِّر بأن شركة (تويوتا) هي ثاني أكبر شركة لإنتاج السيارات في العالم، وهي مؤهلة لتجاوز (جنرال موتور) الأمريكية، وهي الشركة التي قالوا عنها يوماً: الأمر الصالح ل(جنرال موتور) هو أمر صالح للولايات المتحدة الأمريكية.

* يقول (جون - داور) في كتابه (معانقة الهزيمة): إن اليابانيين اكتشفوا أكاذيب طغمتهم العسكرية، وشاهدوا هزيمتهم المذلة والدمار الذي أنزلوه باليابان. واكتشف اليابانيون أن أمريكا هزمتهم لأنها دولة ثرية، وأن نظامها الديمقراطي هو السبب في ثرائها، فاعتنق اليابانيون المبادئ الديمقراطية، ليس لأنها مبدأ فلسفي رائع فقط، ولكن لأنها تنظيم اجتماعي يحقق الثراء والقوة والاستمتاع المادي. وهكذا حلَّت المادية مكان الأيديولوجية الوطنية الشوفينية المدمرة، واختفى العسكر وحلّ محلهم الإداريون التنفيذيون في القطاع الخاص والبيروقراطيون الحكوميون في تحالف فعّال مع بصيرة نافذة.

* عمل اليابانيون عملاً مرهقاً وشاقاً بانضباط مثير وتحت مظلة توافقية، في إطار عقد اجتماعي فعال بين (الشركة) والإدارة والعمال، وقام اليابانيون بالادخار والاستثمار في البنية الأساسية والتعليم واستيراد التكنولوجيا وتوطينها.

* ولكن قرارات الجنرال (دوجلاس ماكارثر) الحاكم العسكري الأمريكي لليابان كان لها دور كبير في علاج السيكولوجية اليابانية بعد الهزيمة. قرَّر (ماكارثر) ألا يوجِّه اتهاماً إلى (الإمبراطور)، وأن يبقيه في منصبه أباً مقدساً لليابانيين، فعالج بذلك عقدة الذنب ومهانة الهزيمة عند اليابانيين؛ إذ أصبحت مسؤولية الحرب ونتائجها المحزنة من نصيب القادة العسكريين وأذنابهم، واحتفظ اليابانيون بالإمبراطور، وهو يمثل رمزاً دينياً وسياسياً مهماً في الحياة اليابانية على المستوى الفردي والوطني، وانصرفوا إلى بناء (اليابان) أفضل من أجل أبنائهم و(إمبراطورهم).

* أين وجه الشبه بين (اليابان) و(العراق)، إلا إذا كانت الأماني والتمنيات هي النظارة التي نقرأ بها التاريخ والمشورة التي نستعين بها على اتخاذ القرار؟!

* ولكن القصة اليابانية ليست موضوعاً للمجادلة حول قرارات الولايات المتحدة الأمريكية ونظرتها إلى العالم والتاريخ.

* إنها قصة شعب استطاع بطريقته اليابانية الفريدة أن ينهض من بين الأنقاض ويبني (أبراج) العزة والتقدم والرخاء.

* حسبنا نحن العرب أن نبارك لليابانيين نهضتهم ونهنئهم على نجاحاتهم اليابانية ونستفيد من خبراتهم وتجاربهم.

* الحق والواجب أن نبحث عن الطريق الموصل إلى النهضة العربية.

* ولن يكون ذلك طريقاً يابانياً أو سنغافورياً أو كورياً، حتى ولو تمنيناه يأساً وإحباطاً وضيقاً.

* الشعوب لا تؤجّر ولا تبيع نفسها لبعضها البعض، وعلى المتضرِّر اللجوء إلى التاريخ.

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5853» ثم أرسلها إلى الكود 82244


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد