Al Jazirah NewsPaper Friday  17/08/2007 G Issue 12741
مقـالات
الجمعة 04 شعبان 1428   العدد  12741
الأديب الراوية: عبدالله العجيري ( 1285 - 1352)
د. محمد بن سعد الشويعر

الرواة في تاريخ الأدب العربي هم الذين استقى منهم المهتمون بتاريخ العرب ونقل تراثهم في أيامهم وحروبهم وموروث شعرائهم النثريّ والشعريّ، وغير هذا من أخبارهم التي لم ترصد، لانتشار الأمية عندهم. فلما جاءت النهضة العلمية، مع اتساع دولة الإسلام، وازدهار العلم في العصرين: الأموي والعباسي، صار هؤلاء الحفّاظ هم المهتمون بتجميع الموروثات، وإليهم ينتهي المرجع في تجميع تلك الأخبار، وتراث الوقائع التي لم ترصد.

فاهتموا بذلك، يقول جرجي زيدان في كتابه تاريخ آداب اللغة العربية: بأن عمدة الرواة وأئمة الناس في تلك العلوم، وعنهم روى الرواة، وأخذ الآخذون، ثلاثة هم: أبو زيد الأنصاري، وأبو عبيدة، والأصمعيّ، وكلهم أخذوا عن ابن عمرو بن العلاء، أحد القراء السبعة، اللغة والنحو، ورووا عنه القراءة، واشتهر بصدق الرواية قبل هؤلاء: قتادة السَّدوسيّ، وجاء بعدهم القاسم بن سلام.. ثم ذكر رواة الشعر. أ.هـ

لكن عبدالله العجيري، المولود في حوطة بني تميم عام 1285هـ، يعتبر امتداداً للرواة عند العرب، من حيث الاهتمام بالحفظ، مع أمانة النقل، ولمكانته فقد كاد ينسى، كما نُسي غيره من الرواة الذين لا يخلو منهم مكان عند العرب ولا زمان، ولم يهتم به حديثاً وإعجاباً إلا يوسف ياسين، في مقالات بجريدة أم القرى، عندما كان العجيري ضمن الركب الملكي، في مسيرة الملك عبدالعزيز -يرحمه الله- إلى مكة عام 1343هـ، فقد جمع صداها في كتيّب (الرحلة الملكية). وكل ما رأيت من المصادر الموجزة في الحديث عن العجيري، فإنها تكرر في النقل عن يوسف ياسين في جريدة أم القرى، وعن هذا الكتيّب أخذوا.

يقول ابن بسام عنه في كتابه ( علماء نجد ): ولما علم الملك عبدالعزيز عن هذه الموهبة اختصه لنفسه، وقربه من مجلسه، فصار من حاشيته المقربين، ومن خواصه الأدنين، ذلك أن من صاحبه وسمعه، يظنّه يحمل مكتبة فيها نفائس العلوم والأدب، وهنا أسُوق -والكلام للبسام-: نبذة من كلام معاصره، ومرافقه في أسفار الملك عبدالعزيز، يوسف ياسين يقول عنه:

كان آية في الرواية، فإنه يتلو على جلالته كل ليلة، ونحن على ظهر المطايا، من كلام الله، وحديث رسول الله وكلام العرب الأولين، وبعض المتأخرين، بين الساعة والساعتين، وداوم على ذلك طوال الرحلة، (23 ليلة) لم يُعدْه في ليلة ما ذكره في سابقتها، وكان يتخذ لمحاضرته كل ليلة عنواناً، بموضوع من الموضوعات الخاصة، يبدأها مثلاً بقوله: (فصل في مكارم الأخلاق).

فيتلو ما ورد في ذلك، قرآناً وسنة، وما ذكرته العرب في أشعارها، أو تناقلته في مجالسها: نثراً ونظماً.. وما جاء منهم من الأمثال والوقائع.

وكان حاضر البديهة، قوي الذاكرة، ففي المجلس يسأل عن: أحسن ما قالته العرب في أي موضوع، فيجيب في غير تلعثم: بأن أحسن ما قالته العرب في هذا كذا، وأحسن منه قول فلان، وأحسن من هذا ما ورد في الحديث، إن كان في الموضوع حديث أو آية أوردها.

فقد كان راوية حافظاً، حسن الصوت، جيد الإلقاء، فاهماً لما يحفظ، عالماً بأسرار الحِكَم، خبيراً بدقائق فنون البلاغة، وبدقائق النكت والنّوادر النحويّة، مما لا يفطن له إلا الأعلام الخبيرون.

وقد سلَّط يوسف ياسين- لما سمع ورأى، ولإعجابه الشديد به- الضوء على شخصيته النادرة، ونبوغه في الرواية والحفظ، تلك الخصال، التي يكاد ينسى معها العجيريّ، ولا يعرف شباب الجامعات عنه اليوم شيئاً، ولولا أن قيّض من رصد عنه إعجابه في جريدة أم القرى، بمرات عديدة، لأصبح نسياً منسياً، كغيره من فلتات الجزيرة الذين طواهم التاريخ.

وفي يوميات الرحلة الملكية، يقول يوسف ياسين: ثم يركب السلطان، حتى إذا استووا على رواحلهم ينادي: (العجيريّ)، فيحث راحلته، وتقترب من وسط المجمع، ثم يحمد الله، ويثني عليه بما هو أهله، بصوت يبدد الظلام، ويختار موضوعاً من فنون الأدب، في مكارم الأخلاق أو في التقوى، أو مخافة الله، أو في السير والتاريخ أو في الكرم وحسن الدخول لقلوب الناس.

وكل ليلة في موضوع، يبدؤه بالقرآن الكريم، ثم المروي من السنة، أو الصحابة والتابعين، وعن العرب الجاهليين والإسلاميين، والمخضرمين والمولدين والمحدثين فكأن المثل العربي ينطبق عليه في قولهم عن الجمل: (يرعى من كل شجرة).

فيبدأ كالسيل المنحدر، يغرف من بحر، لا يتلعثم ولا يتلكأ، يصل القول بالقول، ويعزوه لقائله، ويغرّب ويشرّق، ويجوب حدائق الأدب العربي، ولم تخنه ذاكرته ليلة، ولا عزب عنه شيء، طول الإدلاج.

ولقد ظننت لأول ليلة أن الشيخ قد حفظ ما رواه لنا من كتاب, جمع ما قال فهو يروى، ولكن لمَّا تكررت الليالي، وجدت أن الشيخ يغرف من بحر العلوم المخزونة في ذاكرته، ونضّد وصفها بما لا يمله السامع ولا يسأمه المتابع، ويتمنى أن يطول السُّرى حتى لا يسكت.

فمرة واعظاً، ومرة مخوّفاً، وكلامه يؤثر في الصمّ الجلاد، وحيناً مبهجاً مسروراً، وقلما تفوت الشيخ النكتة الأدبية، إذا جاء وقتها، ويرويها بأسلوب يجعل لها تأثيراً، ولولا ظلمة الليل، وأن راكب الراحلة لا يستطيع الكتابة لحملت من هذه الرحلة للأمة العربية كتاباً شائعاً في الأدب العربي، من مرويات الشيخ ولست مبالغاً إذا قلت: إنني قرأت البيان والتَّبيين للجاحظ، لكن (العجيريّ)، فاقه فيما يأتي به من تناسق، لحضور بديهيته، وسرعة الخاطر، يجيب على السؤال في أي موضوع، كأنه استعد على الجواب من زمن، واستحضر كل ما يتعلق به بسرعة من ذاكرته، مع إيراد الشواهد.

وهكذا نجد يوسف ياسين رئيس تحرير(أم القرى) مع إعجابه الشديد بالشيخ عبدالله بن أحمد العجيريّ، قد اهتم به، وكتب عنه كثيراً، في جريدته، وأضاء معالمه، إذ كلامه هو المرجع بما رصد، ويقال في المثل: من كتب عن عالم، وذكر أفعاله ومحاسنه، فكأنما أحياه. ولذا فقد كتبت عنه ترجمة وافية، في موسوعة خرج بعضها عن المنظمة العربية للتربية بتونس ومع الجهود القليلة والمصادر النادرة عنه، فقد نساه الطبقة المتعلمة، فضلاً عن العامة. وهو في حاجة إلى أن يعرفه الشباب، لينشروا عنه دراسات تهم الأجيال بعدهم، وهذا جزء من حقه، وحق البلاد ونهضتها بقياداتها الموفقة، وواجب الجامعات الحث على أن يتصدى الباحثون والمهتمون، لهذا الراوية النادر وجود مثيل له، بدراسة تبرز مكانته ودوره الأدبي، الممتد من جذور التراث، لتفتح هذه الدراسة باباً يدخل معه غيره، لأن بعض الأطروحات العلمية في هذا الميدان، ابتعدت عن محيطنا المحلي، ليعلموا الآخرين أن الواجب وصل الحاضر بالماضي، والإشادة بمن يستحق، وحتى لا يلقى اللوم عليّ قارئ، فإنني قد قدمت دراسة كاملة عنه ستخرج بإذن الله من موسوعة في تونس عن أدباء وشعراء العرب والمسلمين، فرحم الله الشيخ عبدالله العجيري المتوفى بالحوطة عام 1352هـ وهذا من جهد المقل، كما قلت.

من لا يكذب في نوم ولا يقظة

جاء في كتاب العقد الفريد، لابن عبدربه الأندلسيّ: بأنه حكي عن امرأة ابن رافع -مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم- ويقال عن آل رافع من فضلاء المدينة المنورة وخيارهم مع بَلَهٍ فيهم، وعيّ شديدين، فقد رأته في نومها، بعد موته: فقال لها: أتعرفين فلاناً الصيرفيّ؟. قالت له: نعم. قال: فإن لي عليه مائتي دينار.

فلما انتبهت غدت إلى الصيرفي، وأخبرته.. ثم سألته عن المائتي دينار. فقال: رحم الله أبا رافع، والله ما جرت بيني وبينه معاملة قط.

فأقبلت على مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فوجدت مشايخ من آل ابن رافع، كلهم مقبول القول، جائز الشهادة، فقصت عليهم الرؤيا، وأخبرتهم خبرها مع الصيرفي.. وإنكاره لما ادعاه أبو رافع.

قالوا: ما كان أبو رافع ليكذب، لا في نوم ولا في يقظة.. قرّبي صاحبك إلى السلطان، ونحن نشهد لك عليه، فلما علم الصيرفي، من العزم على الشهادة، وعلم أنهم إن شهدوا عليه، لم يبرح مكانه حتى يؤديها، قال لهم: إن رأيتم أن تصلحوا بيني وبين هذه المرأة، على ما ترونه، فافعلوا. قالوا: نعم والصلح خير.. ونِعم الصلح الشطر.. فأد إليها مائة دينار من المائتين. فقال لهم: أفعل.. ولكن اكتبوا بيني وبينها كتاباً، يكون وثيقة لي.

قالوا: وكيف تكون هذه الوثيقة؟ قال: تكتبون لي عليها، بأنها قبضت مائة دينار، صلحاً عن المائتي دينار، التي ادعاها أبو رافع في نومها، وأنها قد أبرأتني منها، وشرطت على نفسها ألا ترى أبا رافع في نومها، مرة أخرى، فيدعي عليّ، بغير هذه المائتي دينار، فتجيئ بفلان وفلان، يشهدان عليّ لها.

فلما سمعوا الوثيقة انتبه القوم لأنفسهم، وقالوا: قبّحك الله، وقبّح ما جئت به.

(العقد الفريد: 4-204)

لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5068 ثم إلى الكود 82244

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد