Al Jazirah NewsPaper Sunday  06/01/2008 G Issue 12883
مقـالات
الأحد 28 ذو الحجة 1428   العدد  12883
تأصيل فقه الموازنة «1-2»
د. سلمان بن فهد العودة

عند استحضار لفظ (الموازنة) نجد أن الكلمات الكلية لهذا الجذر في القرآن الكريم تبلغ ثلاثاً وعشرين كلمة، يمكن تصنيفها كما يلي: أ - الوزن والميزان يوم القيامة، والذي توزن به الأعمال والأشخاص، وترجح معه كفة الحسنات، أو كفة السيئات، فهذا إلى الجنة، وهذا إلى النار..

وهذا المعنى هو موازنة أخروية ربانية، شأن الإنسان فيها أن يحاسب نفسه قبل أن يحاسب، وأن يزنها قبل أن توزن، كما قال عمر رضي الله عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتهيؤوا للعرض الأكبر، { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفي مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} (الحاقة:18).

وقد جاء المعنى في خمسة مواضع:

- قال الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفي بِنَا حَاسِبِينَ} (الأنبياء:47)، فذكر الموازين، جمع ميزان باعتبار أن لكل فرد ميزاناً، كما جاء في مواضع أخرى، ووصفها بالقسط، يعني العدل التام المطلق، ولذا أكد بقوله سبحانه: {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً}، يعني لا تحمّل ما لم تعمل، ولكن لا يغادر الميزان من عملها شيئاً أيضاً، ولذا عقب بقوله سبحانه: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفي بِنَا حَاسِبِينَ}.

- وقال تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ} (الأعراف:8-9).

- وقال تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} (المؤمنون:102-103).

- وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} (القارعة:6- 9). وفي هذه المواضع ذكر الموازين الخاصة لكل شخص، وأنها تثقل أو تطيش، وترتيب النجاة أو الهلاك على ثقل الموازين أو خفتها.وفي موضع آخر يشبهها قال سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أعمالهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} (الكهف:105)، وليس المعنى أنهم لا توزن أعمالهم، بل الأقرب جمعاً بين الآيات أن المراد أن الله لا يعبأ بهم، كما يقال في جاري اللغة، فلان له وزن، وفلان ليس له وزن، يعني: لا قيمة له ولا أهمية، والله أعلم، فأعمالهم توزن ولكنها لا وزن لها يذكر كما جاء في الصحيحين من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ مرفوعاً: إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ اقْرَءُوا فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا.

ب?- قصة قوم شعيب وما وقعوا فيه من بخس الميزان والمكيال، وما حل بهم من العقوبة، وهذا جاء في ثلاثة مواضع:

- قال الله تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ أن كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}(الأعراف:85).

- وقال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}(هود:84-85).ويختلف الموضعان بأنه أمر بإيفاء الكيل والميزان في الموضع الأول، بينما في الموضع الثاني أمر بإيفاء المكيال والميزان بالقسط، ونهي عن ضده، وهو نقص المكيال والميزان.

- وفي الموضع الثالث قال: {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ}(الشعراء:182) .

ج - الإشارة إلى الوزن والتوازن في الصنعة الإلهية في قوله سبحانه:

{وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ}(الحجر:19)، الإشارة إلى الموازنة في الخلق يستتبع استدعاء الموازنة في الأمر، كما قال سبحانه وتعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} (الأعراف:54).

د - أمر الناس كافة بالعدل في الكيل والوزن والنهي عن البخس والتطفيف والإخسار وهذا جاء في ثلاثة مواضع:

* قال الله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إلا وُسْعَهَا وإذاقُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(الأنعام:152).

* وقال تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (الإسراء:35).

* وقال تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إذا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وإذاكَالُوهُمْ أو وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} (المطففين:1-3).

هـ - ذكر الميزان بمعنى العدل في سائر الأشياء الحسية والمعنوية، الفردية والجماعية وهذا جاء في ثلاثة مواضع:

- قال الله تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * إلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} (الرحمن:7-8)، أي: أنزله من السماء. فذكر الميزان هنا ثلاث مرات، وذكر الوزن، وذكر القسط. فعن مجاهد، في قوله:{وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} قال: العدل.

وعن قتادة في قوله: {أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ}، قال: اعدل يا ابن آدم كما تحب أن يعدل عليك، وأوف كما تحبّ أن يُوَفي لك، فإن بالعدل صلاح الناس.

وكان ابن عباس يقول: يا معشر المَوالِي، إنكم قد وليتم أمرين، بهما هلك من كان قبلكم، هذا المكيال والميزان.

فهو سبحانه وضع الميزان، أي: شرع العدل وبيّنه للناس، وحببه إليهم، وركزه في فطرهم، وجعل الشريعة قائمة عليه، وأمر الناس به، ثم نهى عن الإفراط أو التفريط، وهما الطرفان، وأمر بالوسط وهو العدل فقال: {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} أي: لا تزيدوا وتتجاوزوا، وهذا حد الإفراط، وقال: {وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}، أي: تنقصوا، وهذا حد التفريط، وأمر بالعدل الوسط فقال: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ}.

- وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} (الشورى:17)، فذكر هنا إنزال الكتاب والميزان، وهو بمعنى وضعه، وهذا يبين سر ارتباط الميزان في سورة الرحمن بالسماء: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} (الرحمن:7).

- ومثله في سورة الحديد: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ أن اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحديد:25)، والسر والله أعلم في جمع الكتاب والميزان أن المدار في التكليف على أمرين:أحدهما: النقل الصحيح وهو الكتاب، قال تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}(الأنعام:19).

والثاني: العقل الصريح وهو الميزان ولا تكليف لغير العقلاء؛ فإن المرء يدرك الصواب والحجة والعدل بسداد عقله، وهكذا درك المصلحة فإنه بالعقل، كما يقول العز بن عبد السلام في القواعد: {معظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروفة بالعقل، وذلك معظم الشرائع}. ويقول أيضاً: {ومن أراد أن يعرف المتناسبات والمصالح والمفاسد فليعرض ذلك على عقله، بتقدير أن الشرع لم يرد به، ثم يبني عليه الأحكام، فلا يكاد حكم منها يخرج عن ذلك، إلا ما تعبد الله به عباده ولم يقفهم على مصلحته ومفسدته، وبذلك تَعرِفُ حسن الأعمال وقبحها}.وهذا يقود إلى شيء من الموازنة بين النص والعقل، وهي معضلة تاريخية ممتدة الجذور، ولكن المراد تقريره أن الشرع لم يأت بالمحالات، ولا بما يخالف النظر السليم، بل هو جاء وفق الميزان، وقد قال الإمام ابن تيمية: {النصوص لا تأتي بمحالات العقول، ولكنها تأتي بمحارات العقول}.ولا تضاد أصلاً بين العقل والنقل، فلكل ميدانه، ولكن المعركة التاريخية ألقت بظلالها على ميدان البحث الإسلامي، وكادت أن تفرز الناس إلى من يقدمون العقل مطلقاً ويؤخرون النص، أو من يتعاملون مع حرفية النص ويستخفون بالعقل، والأمر بحاجة إلى روية وهدؤ، وأعمال لكلا الحجتين، فإن الله استشهد بالعقل في كتابه، فقال: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} (البقرة:44)، فالعقل الصادق لا يخطئ بدلالة هذه الآية، ولكن الخطأ يأتي من تلبس الهوى والشبهة والله أعلم.



salman@islamtoday.net
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6847 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد