Al Jazirah NewsPaper Sunday  13/01/2008 G Issue 12890
مقـالات
الأحد 05 محرم 1429   العدد  12890
تأصيل فقه الموازنة 2-2
د. سلمان بن فهد العودة

في هذا المقال نقف مع الآيات التي ذكرناها في المقال السابق.

إن المجموعة الأولى من الآيات الكريمة تشير إلى الوزن الأخروي، وهذا مؤداه أن الإنسان لا يخلو غالباً من عيب أو نقص، ولكن العبرة بما غلب عليه، ولذا تثقل موازين أقوام، وتطيش موازين آخرين.

*، فالكون قائم على القسط والاعتدال والوزن، وهذا تجده في الأفلاك والهواء والماء والطعام والنبات وكل شيء.

- وفي القسم الثالث من الآيات الكريمة الإشارة إلى أن هذا المعنى هو شريعة الله التي بُعثَ بها أنبياؤه، فقد جاء شعيب يحذر قومه بخس الكيل والوزن وظلم الناس،{لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءهُمْ} هود:85، وينذرهم عاقبة ذلك من الفساد الذي يضرب المجتمع، ويعمه بالظلم وإخسار الموازين.

- وفي القسم الرابع تأكيد الشريعة الخاتمة على ما جاء به المرسلون جميعاً من إقامة القسط والميزان والمكيال وتهديد المطففين بالعذاب.

- وفي القسم الخامس تقرير قاعدة العدل العامة في كل شيء، وأنها قرينة الكتاب المنزل، والتمييز بين الناس فيه.

وكأن هذه النصوص قسمت الناس بحسب الميزان إلى:

- فريق يعدل ويقسط، وهم المقسطون، الذين أقاموا الوزن بالقسط وفي السنة قول النبي - صلى الله عليه وسلم(إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وجَلَّ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ في حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا)، أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

- وفريق يطغون في الميزان، فيقع لهم الإفراط، فيبغون على الناس بغير الحق، وأولئك لهم عذاب شديد.

- وفريق يخسرون الميزان فيقع لهم التفريط، ولا يركنون إلى حق ولا ينتصرون من باطل.

*، ثم مقاومتهم ودفعهم كما يشير إليه قوله تعالى{وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} الحديد:25..

إن مجمل هذه النصوص يؤكد أن العدل قيمة عظمى قامت بها السماوات والأرض، والدنيا والآخرة، وبعث بها الرسل، وأُنزلت بها الكتب، ولذا يجب تربية المؤمنين عليها في خاص أمورهم وعامها، حتى العدل مع النفس فلا يظلمها، ومع الأهل والولد، ومع الأعداء المنابذين، وفي الماديات المكيلة أو الموزونة، وفي المسائل العلمية والمعنوية.

وليس المرء بقادر على تحقيق كمال العدل في ذلك إلا بعون من الله، ولكن عليه ألا يركن إلى الحال التي هو عليها، وألا يعتبرها تمام العدل ونهايته، بل يراجع أحكامه وقناعاته وآراءه ومواقفه واجتهاداته وفق مستجدات العلم والمعرفة لديه، ويصححها وفق مقتضيات الإيمان الحق، ويعدلها وفق متطلبات الواقع ومتغيراته.

وما كان عدلاً في حال فقد لا يكون كذلك في كل حال، وما كان ملائماً بالأمس قد لا يكون كذلك اليوم.

ومن الموازنة التوسط بين المسارعة لكل جديد، وتشرب النقد، وضعف الثقة بما عليه المرء ومن حوله، وبين الجمود والتحجر والتصلب على المألوف، والامتناع من التجديد والتصحيح والمراجعة خشية انكسار الجاه، أو تفرق الأتباع.

*، وقد أخذ غير واحد من علماء الأصول من هذه الآية حكم القياس؛ لأنه لون من الاعتبار، أي: أخذ العبرة، فكما أن العلة فيما وقع لهم من العقوبة هي في سوء أعمالهم ومقاصدهم، فكذلك إذا وجدت في غيرهم نزل بهم ما نزل بسابقيهم.

والقياس في حقيقته نوع من الموازنة، وإذا تحقق فيه العدل والوسط بلا طغيان ولا إخسار، بل بالوزن القسط، كان صواباً جاءت به الشريعة؛ لأن العدل لا يفرق بين المتماثلات، ولا يجمع بين المختلفات، بل يعطي كل ذي حق حقه.

3 - وفي مواضع عديدة ذكر الله تعالى الموازنة بمعناها، وكأن المقصود تعارض أمرين في نظر المكلف فيختار أحسنهما، كما في قوله سبحانه:

*، وقوله سبحانه:{وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا}الأعراف:145*، وقوله جل وعلا: {اتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} *الزمر:55*، فإن من دلالة النص أن يكون المكلف بين خيارات عدة، فيختار أمثلها، مثل الكفارات التخييرية أو المباحات المتعددة، كالانتصار ممن ظلمه، أو الصبر عليه، كما في قوله سبحانه لنبيه - صلى الله عليه وسلم -:{استغْفِرْ لَهُمْ أو لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}التوبة:80*، وقد جاء في الحديث الذي رواه البخاري عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لَوْ أَعْلَمُ أَنِّى إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ فَغُفِرَ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا). وما ورد فيه من اتباع الأحسن، فالأحسنية قد تكون مطلقة ودائمة، مثل الأعمال المتفاضلة، كالإيمان والإحسان والإسلام، فهي درجات أحسنها الإحسان ثم الإيمان ثم الإسلام، ومثله قوله سبحانه:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}*فاطر:32*، وقد تكون الأحسنية نسبية مقيدة تختلف بحسب الظرف والزمان والمكان والملابسات المختلفة، كما يكون الأحسن لقوم الاشتغال بالعلم، ولآخرين بالتجارة، ولسواهم بالدعوة، وكما تتفاوت العلوم بحسب حاجة الناس إليها، وقدرة الفرد على اكتسابها ومعرفتها وتطويرها وتوظيفها.



salman@islamtoday.net
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6847 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد