Al Jazirah NewsPaper Wednesday  30/01/2008 G Issue 12907
الاربعاء 22 محرم 1429   العدد  12907
الأم الأمة.. والجدة الجمّة
وليد بن صالح الحمّاد

ما بين موسمين عظيمين من مواسم المسلمين هاتفني أخي وشقيقي عبد المجيد يسألني عن رؤيا رآها فقلت له أرجو أن تكون خيراً، فعقب أليست هذه الرؤيا عادة تعني وفاة أحد المقربين لصاحبها، وكان هذا لا يخفى علي وقد يكون غير ذلك فدعوت الله أن تكون خيرا.

وقبيل الفجر يهاتفني أخي بأن الجدة الغالية (نورة بنت محمد المطلق رحمها الله وأسكنها فسيح جناته) قد توقف قلبها بعض الوقت وهي في العناية المركزة وبعد ذلك بأسبوع وفي الوقت نفسه يخبرني بانتقالها إلى الرفيق الأعلى.

فإنّا لله وإنا إليه راجعون ولكل أجل كتاب فقد حزن القلب وسال الدمع ولا نقول إلا ما يرضي ربنا (اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيراً منها) اللهم اجعلها في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر آمين.

وعزائي في مصابي هذا ذكر شيء مما يسعفني به الوقت وتحضر به الذاكرة من صفاتها الجميلة وأخلاقها الحسنة حيث جمع الله لها بين الحسنيين (ولا نزكي على الله أحداً) فهي عابدة ذاكرة، لله ساجدة، وقد ختم الله لها بنطق الشهادة ولله الحمد والمنة، كما أنها امرأة واصلة لرحمها مكثرة للصدقة تسعى في حوائج المسلمين وهمتها عالية في ذلك وهذه أعمال خير لها ومتعدية لغيرها.

فمن صفاتها الحميدة:

* إخلاصها لله في عملها فكانت لا ترغب الحديث عن نفسها وأعمالها ولكني كنت أستجلب ذلك منها إذ دخلت عليها في رمضان وهي تقرأ من كتاب الله وسألتها ما شاء الله ختمة... ختمتين حتى الآن، فأجابت (الله يتقبل).

وسيأتي ما يدل على ذلك من خلال بعض المواقف التي سأذكرها وأضيف لفتة هنا أنها حرصت رحمها الله على إجراء عمليتين بعينيها وتقول أريد أن أقرأ القرآن بوضوح فأين نحن يا من منَّ الله علينا بنعمة البصر ونطلق النظر بما لا يرضي ربنا.

* كانت رحمها الله سليمة القلب تحسن الظن بالجميع ولا تحمل غلاً أو حسدًا على أحد راجية ما عند الله لمعرفتها بذلك الصحابي الذي بشر بالجنة لسلامة قلبه، مجتنبة الإثم الذي ذكره الله (إن بعض الظن إثم) إذ كانت تلتمس الأعذار للغائب أو المقصر.

* صلتها لرحمها وإعانتها على ذلك - فتسعى لذلك مع صعوبة التنقل عليها وقد ختمت عمرها بزيارات في آخر ثلاثة أيام إذ كانت في كل يوم تزور بيتاً من أقاربها ولا أحصر الصلة بذلك فقد كانت تتفقد البعيد والقريب من ذوي الصلة فتساعد المحتاج والمتزوج وتقدم الهدايا المتتالية.

وأما إعانتها على الصلة فمن ذلك كنت كلما اتصل بها للسلام عليها وهي عند أحد من الأقارب تبادر بطلبي أن أسلم عليهم وأهاتفهم.

* سعيها في حاجة الفقراء والمساكين كان بيتها - رحمها الله - (مؤسسة خيرية مصغرة) ولكنها عند الله كبيرة، فقد وفّرت رحمها الله سيارة نقل لتوصيل حوائج الفقراء والمساكين وتخرج مالها كاملاً لهم وإذا نفد ما عندها سعت بجمع ما تحتاجه لهم وقد ربّت ولله الحمد ذريتها على ذلك وعلى رأسهم ابنتاها الغاليتين والدتي وخالتي حفظهما الله ووفقنا لبرهما.

ولك أن تتصور امرأة في الخامسة والسبعين من عمرها تذهب بنفسها لتشرف على إيصال الصدقات من الغذاء والملابس للمساكين وإذا قلنا هناك من يكفيك الذهاب قالت: إني أستمتع بذلك! فلله درها ما أحسن صنيعها.

كان بيتها مستودعاً خيرياً فيه ثلاجة لتبريد الأطعمة الرجيعة للفقراء، صنعت مظلة رأيت فيها مئات البطانيات والمدافئ في الشتاء كما رأينا مئات الأكياس من الرز ونحوه وكانت تسعد بالتخفيضات من أسواق الجملة لتشتري للفقراء ولقد قابلت مرة سائقها وخادمتها في أحد الأسواق وهم يحمّلون من أنواع الأغذية للفقراء والمساكين.

اتصلت عليها امرأة ثاني يوم من إجراء عملية في عينها وكانت في المستشفى وقالت المرأة أنا لا أعرفك ولكن ذكر لي أنك تساعدين المحتاج وإني بحاجة ماسة للمال، فهل تتصور أنها أنضرتها لحين خروجها من المستشفى؟ كلا بل مباشرة أرسلت لها مبلغا من المال.

لا ترضى أن يرمى شيء مما يتبقى من الولائم وتتولى توصيله في منتصف الليل للفقراء فلها علاقة بكثير من البيوت المحتاجة وكذلك بالمبرات الخيرية ولك أن تعجب من أنها تأكل من طعام الفقراء المتبقي بعد الوليمة وتقول أخشى أن يسألني ربي أن أوزع شيئا لم آكل منه تواضعا منها رحمها الله.

ولقد أبكاني الخال صالح الرميان في أول يوم بعد دفنها حيث بقي شيء من عشاء الضيوف فنظر إلي وبكى وقال ذهبت أمنا التي كانت توصله للفقراء.

وأعجب مما سبق أنها كانت تحمّل ذمتها من الديون إذا رأت فقيراً محتاجاً وليس عندها شيء فأذكر مثلاً أنها طلبت من أحد الأقارب أن يقرضها مبلغاً لتسد به حاجة المسكين ثم قامت بسداده بعد ذلك.

* تتصدق صدقة من لا يخشى الفقر ولها في رسول الله أسوة حسنة. وتردد: اللهم أعط منفقا خلفا.

وإني لأعتبر ذلك من صدق توكلها على الله. وكانت تحرص أولاً على أقاربها لفقهها أن تجمع بين الصدقة والصلة.

تحدثت معها يوماً لاستفيد منها عن فضل الصدقة ومضاعفة الأجر وأن الله يخلف الصدقة (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) (وما نقصت صدقة من مال) فقالت إني ولله الحمد أرى هذا الخلف باستمرار فلا أكاد أنفق إلا ويأتي الله بالعوض فمرة حضر إلي أحد الأقارب وقدم لي هدية ألف ريال وبعد دقائق جاءني من يحتاجها فقدمتها له ثم في نفس اليوم جاءني آخر وقدم لي ألفاً أخرى، ثم ذكرت لي أن الخلف أحياناً يكون بعشر أضعاف وحصل لها عدة مرات.

وعودا على صدق توكلها أعرف عنها جيدا رغبتها بأن تكون من السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب فهي متوكلة على ربها في كل أمورها ولم تطلب الرقية من أحد وإنما ترقي نفسها ولم تكتوي فأسأل الله أن يبلغنا وإياها هذه المنزلة.

* قلّ في هذا الزمان من يتغلب على نفسه ويطيع ربه ممتثلاً قوله تعالى {وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} أمّا هي رحمها الله فقد كانت مثالاً يحتذى به في تجنب الغيبة ولا ترضى بذلك وكانت تنكر ذلك بأدب وحكمة فإذا ذكر عندها قالت: الله يهدينا ويعيننا على أنفسنا (فيفهم منها عدم رغبتها في ذكر الغائب إلا بالخير).

* كانت رحمها الله ذات فراسة في تلمس حوائج من حولها وعرفت ذلك من خلال إيداعها شيئاً من مالها عندي فكانت تطلب مني المال بين الوقت والآخر لأحد القريبين أو القريبات ثم أعلم فيما بعد أن فراستها صائبة.

أما الهدايا والمشاركة في المناسبات فحدث ولا حرج وقد أغرقتنا بذلك فلا يكاد أحد ممن تعرف إلا وقدمت له الهدية في زواجه أو لزوجته أو لطفله الجديد أما أنا فقد وصل بي الأمر خجلاً منها ألا أذكر شيئاً أُعجب فيه عندها لأني أعلم أنها في اليوم التالي ستحضره وليس هذا خلقاً معي فقط بل مع كل أحبابها.

* عندما علم ابني عبد الله - أصلحه الله وإخوانه - وهو الآن في الثامنة من عمره قال ببراءة الأطفال (ليتها ما ماتت)، قلت له لماذا؟ قال لأنها تعطينا دائماً حلاو وقروش... كانت رحمها الله صابرة فلا يسمع منها شكوى في مرض أو وفاة أحد أحبابها.

كانت رحمها الله بشوشة يظن كل من قابلها أنه أحب الناس إليها. كانت رحمها الله ذات إيمان قوي ويقين إذا ألم بأحد الأقارب مصيبة استنجد بها لتواسيه.

ومن إيمانها ويقينها رغبتها بلقاء ربها مؤمنة بذلك ولا تخشى ذكر الموت كما هو حالنا بل وأحيانا نسمع منها إذا ذكر الموت (أتصور أني أتجول في الجنة) إحسان ظن منها بربها وهكذا يجب أن يكون حال المؤمن, ولمّا قالت لها ابنتها (خالتي) تداعبها: أخوك يسلم عليك تقصد الشيخ علي المطلق رحمه الله - شقيقها - بعدما رأته بالمنام والذي توفي عام 1403هـ رحمه الله فأجابت رحمها الله: ما قال تجي، وما ذاك إلا رغبة بالآخرة وزهدا بالدنيا الفانية (ولا يخفى أنها استقت من أخيها العلم النافع والأخلاق الحميدة).

كانت رحمها الله تفقه في دينها الكثير مما لا يفقهه كثير من جنسها من النساء فتحفظ من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وقد سمعت منها أبياتا في المتون العلمية وتعمل بعلمها ومن ذلك عدم رغبتها مزاحمة الرجال في مكة وحرصها على الصلاة في بيتها ورغبتها أن تحضر تذكية أضحيتها وتنظر لها وكان ذلك آخر أيامها - أقصد الأضحية - وكذلك سلمت لخدمها أجرتهم الشهرية استغلالا لفضيلة عشر ذي الحجة ومراعاة لظروفهم أثناء العيد.

كانت رحمها الله تعامل خدمها كما تعامل بناتها يأكلون مما تأكل ويلبسون مما تلبس وتساهم في مساعدة فقرائهم في بلدهم وترسل الأضحية إليهم ولك أن تتصور أنها قد تأمر إحدى بناتها بتحضير الطعام لخدمها.

كانت رحمها الله كريمة لم تدع أحدا من صلة رحمها أو جيرانها أو المساكين إلا ودعتهم لبيتها وأقامت لهم الولائم وتسببت في جمع العوائل الكبيرة إما في بيتها أو في بعض الاستراحات.

كانت رحمها الله شاكرة لربها وشكورة لأفعال الناس معها مع سبقها بالفضل علينا متبعة (من لم يشكر الناس لا يشكر الله) أما أنا فقد غمرتني بفضلها وجودها وكرمها وحسن خلقها ولم أرد شيئاً من فضلها ومع ذلك إذا قدمت لها هدية متواضعة أخجل من تقديمها لمثلها إلا أنها تغمرني بالثناء والشكر وبدعوتها المشهورة: أسأل الله أن يعطيك من خزائنه الملأى، الله يخلف عليك).

كانت رحمها الله تشفع لكل من يستشفع به، ومن يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها، وقال: (اشفعوا تؤجروا) وقد شفعت لامرأة غريبة مسكينة عند حفيدها (محمد، ابن خالتي) قبل نطقها بالشهادة بأربع ساعات ولله الحمد وقدمت شفاعتها بقولها: لا تنهرنّ غريبا حال غربته..... وذلك من شفقتها رحمها الله على تلك المسكينة فهي من ابن السبيل.

وأخيراً ومن فضل الله أني أرى ما بذرته جدتي الغالية رحمها الله في ابنتيها حفظهما الله من حب المساكين والسعي في حوائجهم والمبادرة في صلة الرحم وغير ذلك من الأخلاق الحميدة فأسأل الله أن يجعل في جميع ذريتها خلفاً صالحاً ساعياً للخير ودالاً عليه مجتنباً للشر وناهياً عنه.

ثم ليعلم القارئ أن ما سبق ذكره غيض من فيض رغبة في عدم الإطالة كما - أضيف لهدف (اذكروا محاسن موتاكم) العبرة والفائدة وليس مجرد الثناء ولا ضير أن نفخر بمن أطاع ربه واقتدى أثر نبيه - وقبل ذلك، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ}، كما أن في موته عزاء لمصابنا, فهنيئاً لذريتها وأخص أمي الغالية وخالتي الحبيبة، وأنوّه بأن ذكر ما سبق لا يعني أن نكل العبد إلى أعماله الصالحة حاشى وكلا وإنما نسأل الله أن يتغمدنا وإياها في واسع رحمته..

إنه جواد كريم فنحسن الظن بربنا الجواد الكريم الغفور الرحيم الذي تفضل علينا بجوده وكرمه أن كتب على نفسه الرحمة ووسعت رحمته كل شيء، وكتبها للمؤمنين الذين يعملون الصالحات. {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} فإلى أمي الغالية وخالتي الحبيبة وذرياتهما وذوي رحمها إن من طاعة ربنا وبرنا بوالدتنا أن نشتغل بالعبادة ولا يشغلنا الشيطان بالأحزان والوساوس وإن من برها الدعاء لها بالرحمة والمغفرة وصلة رحمها والصدقة عنها... إنها أم البنتين الطاهرتين، وأعمالها كالجبلين العظيمين.. أحسبها كذلك ولا أزكي على الله أحدا, فأسأله أن يجمعنا جميعا بها وبوالدي (صالح الحمّاد الذي بذل ما استطاع بتربيتنا الحسنة) بالفردوس الأعلى إنه سميع مجيب والحمد لله رب العالمين.




 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد