Al Jazirah NewsPaper Thursday  13/02/2008 G Issue 12921
الاربعاء 06 صفر 1429   العدد  12921

رحم الله المربية الفاضلة
د. سعد بن عبدالعزيز الراشد

 

ولدت ونشأت في بلدتها حريملاء، في وقت لم تكن هناك كهرباء ولا وسائل عصرية حديثة كالتي ننعم بها اليوم، وكانت مع صويحباتها من أهلها وأقاربها، تلهو وتلعب بين أفنية البيوت الطينية المتلاصقة وتحت ظلال النخيل الوارفة في حي موافق من الديرة القديمة. وتدربت منذ صغرها على كل ما يوكل إليها من أعمال منزلية، وتعلمت من والديها واجباتها الدينية، وتلقت النصائح التي ينبغي أن تعيها لتكون زوجة لمن يتقدم لها من عباد الله الصالحين، الذي لا يمكن في تلك الأيام البعيدة التكهن بمَن سيكون سعيد الحظ أو مَن ستسعد به زوجاً لها، لكن في الغالب لن يكون أجنبياً بل من الأقارب أو من أبناء الديرة. ومع قرب وداعها للطفولة جاءها شاب من بني جلدتها ومن أبناء عمومتها المقربين بعد أن قضى سنوات عديدة بعيدا عن الديرة يتلقى العلوم الشرعية في حلقات العلماء في الحرم المكي الشريف، فقد درس القرآن والسنة وعلم الحديث والفقه واللغة العربية والسيرة النبوية وغيرها من العلوم. كان ذلك الشاب العالم الوقور قد كلفه ولي الأمر (الملك عبدالعزيز رحمه الله) بتولي القضاء في منطقة بعيدة فتزوج الفتاة التي أشار بها عليه أبناء عمومته المقربين وغادرت الفتاة راضية بما قسم الله لها لمرافقة زوجها حيث مقر عمله الذي يبعد عن ديرتها أياماً وليالي، والوصول إليه بالغ الصعوبة؛ حيث لا طرق إسفلتية ولا وسائل مواصلات مريحة. فبدأت تتحمل ما أوكله إليها زوجها الشاب في تدبير شؤون منزله المتواضع في موقع نائي في وسط البادية، وأصبح الحمل عليها مضاعفاً؛ فزوجها يقضي بين الناس ويؤمهم للصلاة ويطلبون منه النظر في كثير من قضاياهم ويرشدهم في أمور دينهم، وبالتالي يأتي واجب الضيافة لكل مَن يقصده حسب المتيسر من مأكل ومشرب، فكانت زوجته هي التي تتحمل كل متطلبات الزائرين؛ فهي التي تحلب الشياه، وهي التي تحضر الطعام في كل الأوقات، فكانت تعمل بجد ونشاط ليل نهار بينما كان زوجها العالم الشاب يتفرغ لمسؤولياته في القضاء والسفر إلى القرى وبين البادية للنظر في القضايا، ومع الزمن تضاعفت مسؤوليات الزوج وتدرج في مراتب أعلى ومسؤوليات أكبر وكلف بمهمات أصعب، في القضاء وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتقلد مناصب قيادية متعددة في الدولة، وحتمت عليه مسؤولياته في خدمة وطنه أن يتنقل إلى مناطق عدة من المملكة، وأصبح في شغل شاغل مع مسؤولياته الرسمية واللجان والمجالس المتعددة التي يرأسها أو في عضويتها وما يستغرقه من ساعات طويلة في القراءة المتعمقة في البحث والاطلاع على مسائل فقهية أو معرفية تعينه على اتخاذ رأي أو تقديم مشورة.. وإزاء ذلك كانت مسؤولية منزله بكل احتياجاته تقع على كاهل زوجته رفيقة دربه التي تحملت تلك المسؤولية بكل كفاءة واقتدار، وزيادة على ذلك تربيتها لأبنائها وبناتها، ولم يكن يتوافر لها مَن يعينها على تدبير شؤون منزلها كما هي خاصية هذا العصر، وتقبلت هذه المسؤولية الجسيمة بعين الرضا، وقد لا يتصور أحد براعتها في الطبخ وإعداد الولائم الكبيرة في المناسبات والأعياد، فطعامها كان له مذاق مميز، وكان يكفي لكل الضيوف والأهل والأقارب، وكانت في حالة استنفار دائم تحسباً أن يتصل بها زوجها في أي وقت للتحضير لوجبة غداء أو عشاء أو تجهيز وليمة كبيرة في رحلة برية.

وبالرغم من أنها لم تتعلم أو تدخل الكتاتيب لكنها كانت مستوعبة لأمور دينها وتحفظ ما تيسر من القرآن الكريم، وتعلمت من زوجها الكثير من الأصول الشرعية، ومتابعتها معه النوافل وصلوات التراويح والقيام في شهر رمضان من كل عام، وتستمع إلى زوجها وهو يتلو كتاب الله عن ظهر قلب ويختمه مرات عديدة في كل شهر، وبذلك منحها الله خبرة علمية لم تتيسر لغيرها من النساء من جيلها بسبب البيئة التي عاشتها مع صعوبتها وحجم المسؤولية. فكان مَن يستمع إليها يظن أنها خريجة أحد المعاهد الشرعية، وإذا خاض الناس في مواضيع اجتماعية وإنسانية كان منهم مَن يعتقد أنها من أهل الاختصاص. كانت مستمعة جيدة للمذياع والنشرات الإخبارية وما يبث من برامج متنوعة وحوارات ثقافية وسياسية ومحاضرات دينية، فكانت مصدراً للمعلومات والأخبار لزوجها والمحيطين بها.

لقد أعطاها الله موهبة ومقدرة في الإشراف على تعليم الأبناء والبنات والسهر على راحتهم ومتابعة تحصيلهم العلمي، وكانت ماهرة في اكتشاف أي تلاعب من أي واحد منهم، وذلك من طريقة استخدام الكتب أو حل الواجبات، وأصبح لديها إلمام بالدرجات التي يحصلون عليها، ولا بد لكل واحد من الأبناء والبنات أن يعطيها عرضاً موجزاً بشكل يومي عن يومه الدراسي، وإذا استعصى عليها شيء في متابعتهم فعند الضرورة تستعين بزوجها الذي يعرف الجميع هيبته وتأثيره. لقد سعدت كل السعادة عندما تحقق أملها في أبنائها أن يقتطفوا من مناهل العلم والمعرفة، فالبنات: سارة وفاطمة والجوهرة وعزة ولطيفة وفلوة، جميعهن تحصلن على درجة الدكتوراه، أما الأبناء عبداللطيف وراشد ومنذر وحارث فقد أخذ كل واحد منهم نصيبه من التعليم الجامعي، فمنهم المهندس والتربوي وعالم في الشريعة. لقد مَنّ الله على تلك الزوجة الطائعة المطيعة والمربية الفاضلة بأن لمست ثمرة جهدها في أبنائها، فعاشت أفراحهم في التحصيل العلمي وفي العمل الوظيفي وفي تزويجهم، وسعدت بالأحفاد وأبناء الأحفاد الذين ملؤوا عليها حياتها، يتحلقون حولها في كل وقت، وكوّنت عن كل واحد منهم قصة وذكريات ما انفكت طوال حياتها تقصها لهم، وفي خضم مشاعر سعادتها بالجمعة الأسرية حولها نسيت متاعب الماضي ومنغصاته والحياة الحلوة والمرة التي عاشتها سنوات طويلة مع زوجها العالم الجليل، الذي سبقها إلى الرفيق الأعلى قبل بضع سنوات. وبعد هذا الكفاح الطويل والمعاناة مع المرض أسلمت روحها إلى خالقها مساء الأحد 3 صفر 1429هـ ودفنت في العاصمة الرياض. إنها نورة بنت ناصر بن عبدالعزيز الراشد حرم معالي فضيلة الشيخ ناصر بن حمد الراشد (رحمه الله)، وأحسب أن أبناءها وأحفادها سيذكرونها دوماً، بأمومتها الحانية وتربيتها الصالحة وبفعالها الطيبة وإحسانها إليهم وحبها لهم.

ولعلهم يرددون معي قول الشاعر:

فلي أم حنون أرضعتني

لبان الحب من صدر أحن

على بسماتها فتحت عيني

ومن لثماتها رويت سني

كما كانت تناغيني أناغي

وما كانت تغنيني أغني

سقاني حبها فوق احتياجي

ففاض على الورى ما فاض عني

رحمك الله يا أم عبداللطيف رحمة واسعة، وجعل الجنة مثواك، وجعل ما قدمت من خير وإحسان في موازين حسناتك و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.

salrashid@yahoo.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد