Al Jazirah NewsPaper Tuesday  19/02/2008 G Issue 12927
الثلاثاء 12 صفر 1429   العدد  12927
انتحار شاب سعودي
د. عبدالله بن سعد العبيد

تنهدات كثيرة خرجت وأنا أخط هذا المقال، عجزتُ عن إيقافها وإبعادها علّي أحظى بفرصة الكتابة بعيداً عن الرهبة والقشعريرة والرعب التي طالما ارتبطت بي وارتبطت بها وأنا أحمل ذلك الهم المؤرق والمزعج.

فرحت العائلة فرحاً شديداً بولادته وراحت .....

.... ترسم صوراً لمستقبله المشرق وراعت طفولته بكل الحب والحنان حتى احتضنته المدرسة بكل أنواع الثقافات المختلفة، فراح ينحرف قليلاً عن المسار المرسوم له ويعتدل تارةً حتى جاء وقت الامتحان الذي تجاوزه بتكريم، فأخذت الفرحة والده ووالدته حتى كادت أن تقتلهما، ولكن ما هي إلا أيام حتى شهدت باحات الجامعات فشل مساعيهم في إلحاق ابنهم بها. وتذلل الأب من هنا وتوسلت الأم من هناك علَّهم يجدون واسطة لدخوله، وجاءهم الفرح من جديد بقبوله في الجامعة، وراحت السنون حتى تخرج.

لم يكن لفخر الأب حدود حتى أنه تقاعد عن العمل بحكم ولادة عائل جديد للأسرة، وذهب الابن يجول طرقات الدوائر والشركات بحثاً عن عمل دون جدوى، حتى أتى الفرج حينما سمع عن مكتب العمل، وذهب إليهم وتم توظيفه رجل أمن بإحدى الشركات الكبرى بدريهمات قليلة لا تكفي لو تم حسابها لفطيرة بيض واحدة لمدة شهر.

أصابه اليأس والملل والشعور بالدونية وعدم الانتماء والغربة، فكيف لغيري من أبناء الجاليات الأخرى أن يتمتعوا برغد العيش على أرضي ويقتنوا أفضل الأنواع من كل الحاجيات ويزهون ويمرحون ويستاحون في أوربا وأنا لا؟! فانتحر.

تلك قصة لم تحدث على الأقل كما أعلم، إنما سطرها خيالي، ولكنني على يقين من وجود كثيرين من أمثال ذلك الابن وأنا لا أدعو أحداً أن يفعل كما فعل خيالي بذلك الشاب، ولكن أود أن يتم بحث القضية من جميع جوانبها لتلافي ما يمكن أن يحدث مع مرور الأيام؛ حتى لا نضطر يوماً الى أن نبحث عن ما يمكن أن يقوضها كظاهرة.

ما يحدث اليوم لا يمكن أن نعده ظاهرة، ولكن هذا لا يمنع أن ترك الأمر قد يصبح كذلك، ولذا يجب علينا البحث عن سبل معالجة الأسباب عبر تشخيصها باعتماد أسس أسلوب التحليل العلمي الدقيق، ومعرفة أسباب ظهورها، والعناصر التي تمدها بالقوة، والمناخ الذي يسهم في ديمومتها، ومن ثم تحديد الأسس العلمية والقواعد والمناخ الملائم لمعالجتها.

عندما نقول أسس أسلوب التحليل العلمي نقصد أن نتجرد عن الهوى، ونتحرر من الخوف، ونتسم بالموضوعية، والشك، والنقد، والحيادية العلمية، والجرأة، ونسمي الأسماء بأسمائها، فهل هذه الأسس متوافرة بين أيدينا، وإن لم تكن متوافرة فما السبب؟

لقد كان في وجود الخبراء الأجانب ضرورة ملحة وأهمية قصوى حينما كانت المملكة في بداية عهد النهضة، وإذ نحفظ حق كل من أسهم في ذلك العصر ومع إيماني بضرورة استمرار عنصر الخبرة بل واستقدام العناصر التي تحافظ على ديمومة النهضة والرقي بها، إلا أنني ضد الوجود العشوائي للأيدي العاملة التي لا يحتاج إليها الوطن، ولم يتشكل ذلك اليقين لدي من منطلق عنصري، بل لأنني أنظر لضرورة إيجاد فرص عمل للشباب السعودي المؤهل وضرورة مشاركتهم في بناء النهضة واستمرارها، أنظر لذلك من منظور وطني وليس عاطفياً.

لقد تداخلت وتشابكت القضايا التي تحتاج إلى معالجة وإصلاح في بلادنا. ولا يمكن حل أية قضية بمعزل عن الأخرى. أي لا يمكن أخذ مشكلة البطالة والوجود الأعوج للعنصر غير السعودي بشكل منعزل عن البنية التي ترعرع فيها.

إن التمعن العميق في القضايا والأزمات الكثيرة المتشابكة التي يعاني منها مجتمعنا، التي لا تعيق حل مشكلة البطالة والمساعدة في مكافحة الوجود غير الضروري للعنصر الأجنبي فحسب، بل وتسهم في تفاقمه، يقودنا إلى الاستنتاجات التالية:

* ان آلية الأجور والرواتب المعتمدة في قطاع الدولة تؤثر على أداء العاملين فيه، وقد تدفع بعضهم إلى الفساد. كل ذلك فضلاً عن تفاقم مشكلة البطالة والبطالة المقنعة، التي أصبحت تعيق العمل والإنتاج، كيف يستطيع العامل المنتج أن ينجز عمله، وحوله العشرات من العاطلين، وأجره الزهيد لا يزيد على أجورهم. إن مكافحة الفساد تقتضي اعتماد سياسة ضمان اجتماعي سليمة، تعالج مشكلة البطالة بخلق فرص عمل جديدة، وتضع عناصر البطالة المقنعة في مكانهم الصحيح بعيداً عن دائرة إعاقة العمل والإنتاج، مع تحفيز المنتجين بزيادة أجورهم واعتماد سلم صحيح لتعديل الأجور بشكل مستمر لتنسجم مع زيادات الأسعار ومتطلبات الإنتاج.

* تحتاج العملية العلاجية، كما أكدنا سابقاً، إلى تنمية اقتصادية اجتماعية، التي تحتاج بدورها إلى آلية اقتصادية سليمة، وإلى استثمارات متنامية تعمل بشكل أساس في القطاعات الصناعية والإنتاجية، لا في قطاع الخدمات فقط، إلا أن كثيراً من الاستثمارات لا يقبل العمل في ظروف بيروقراطية معيقة، ولا يقبل العمل إلا إذا لمس وجود بنية قانونية، وإجراءاتية متطورة تنسجم مع القوانين الدولية، هكذا نجد أنفسنا ندور في حلقة مفرغة، لأننا لا نعالج جوهر القضية.

إن الحالة التي تعيشها البلاد، تتطلب معالجة متكاملة لمجمل القضايا التي تجابهنا في الاقتصاد، والمجتمع، والسياسة. إذا كنا جادين في الإصلاح الاقتصادي والإداري، فمن الضروري أن تقدم خطة شاملة متكاملة للقيام بهذه الإصلاحات بشكل متكامل وليس جزئياً. إن الأسلوب الحالي الذي يعتمد معالجة المشكلات الملحة وتأجيل غير الملحة - فتارة يجري الحديث عن استرتيجية توظيف، وتارة عن قصر مهن، وأحيانا ترتفع الأصوات المنادية بإيقاف الاستقدام، هذا الأسلوب إن دل على شيء فهو يدل على نهج المماطلة والتسويف، ومحاولة اللعب على الزمن - إلا أن مثل هذه الأساليب لن تؤدي إلا إلى تفاقم الأزمات، ومزيد من الصعوبات، فللاقتصاد قوانينه التي لا تحتمل اللعب، والتاريخ أقوى من أن تجري مغافلته واللعب عليه، ومحاولة نهج أسلوب الحل الوقتي المؤقت لن يضيف سوى مزيد من التعقيد.

ملخص القول: إن لم تتم معالجة متكاملة لمجمل هذه القضايا، سنبقى ندور في حلقة مفرغة، ولن يحقق أي مشروع مبتغاه أو جدواه، بما ينسجم مع متطلبات تقدم وتنمية وتطور البلاد لمواجهتها التحديات المنتصبة أمامها، ولنستفد من إنجازات التقدم والتطور الذي يشهده العالم المتشابك والمتداخل المصالح - الذي لا يقبل الانعزال والتقوقع - ولنواكب تطوره بشكل سليم، وأن نكون جزءاً منه، منسجماً ومقبولاً مع رتم ووقع تطوره، لا أن نعيش على هامشه.



dr.aobaid@gmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد