Al Jazirah NewsPaper Tuesday  19/02/2008 G Issue 12927
الثلاثاء 12 صفر 1429   العدد  12927
العبادة: ضرورة إنسانية
عبد الله بن محمد السعوي

يمثل النشاط التعبدي إحدى علّيات الوجود؛ وهو بالتالي يفسر غائية المنهج الإلهي في عملية الخلق، ومن المتعذر فصل قانون الإيجاد عن قانون العلّية.

النظام العبادي في التصور الإسلامي يحظى بأهمية كبيرة على مستوى حياة الإنسان اليومية؛ بحسبه يشكل التجلي الأبرز لأعلى رابطة يتوخى الفرد المتدين تجسيدها. الآلية العبادية في المنظور الشرعي ثابتة، لا تفنى بعامل الزمن، ولا تخضع للتقادم، ولا تتأثر بقالب الحياة العامة، وظروف التطور المدني، خلافاً لأبعاد تشريعية أخرى بطبيعتها متحركة، وتتأثر آلية تجسيدها بظروف التطور المدني في حياة الإنسان، كنظام المعاملات والعقود؛ فالسلوك العبادي لدى إنسان عصر التقنية والفضاء هو ذات السلوك لدى إنسان عصر التقنية، وقوافل الإبل، والمحاريث اليدوية؛ فالاثنان يباشران عبادة الصلاة والزكاة والصوم والحج، وبصيغة موحدة. إن العبادة ليست مجرد حالة عاطفية يلوذ بها الإنسان هروباً من هموم إشكاليات الحياة فحسب، بل هي انطلاقة إيمانية تمتد إبان التوفر على بعدها الشرائطي لتطال كل مناحي الحياة بما فيها النوم والأكل والشرب.

كلما تعمّق وعي الإنسان بعبوديته أدرك أنها ذات صبغة شمولية، وأن كل ما يباشره في إطار حركته الالتزامية بالإسلام إذا استدعى فيه شرط النية القلبية فإنه يعتبر أحد ضروب العبادات. العبادة كغذاء روحي حاجة ثابتة وضرورية للإنسان ملازمة له لا تنفك عنه، وهي متعذرة على التغير أو التحول رغم الصيرورة المتغيرة التي يشهدها الإنسان في حياته عبر العصور. ثمة حاجات ثابتة في حياة الإنسان يجري عبر العبادة تلبيتها وإغناؤها بدرجة عالية من الإشباع، من أبرزها أولاً: الحاجة الماسة إلى الارتباط بالخالق - جل في علاه - ارتباطاً له طابع الديمومة والاستمرار. الحاجة إلى الرب - بطبيعة الحال - حاجة مطلقة لا حدود لها، والسير نحو الإله والكدح إليه يفرضان التحرك باستمرار. ارتباط النسبي بالمطلق في مسيرته الشاقة الطويلة يوفر له عوناً ومدداً ورؤية جلية يتحرك في إطارها. عندما تنفصم عرى العلاقة بين المحدود واللا محدود يستحيل الوجود النوعي إلى وجود عشوائي، يبيت الفرد بموجبه كريشة في مهب الريح. الارتباط الحقيقي بالله يعني فيما يعنيه الرفض لكل الارتباطات الوهمية؛ يعني خوض حرب دائمة ضد كل ضروب العبوديات والتأليه المصطنع. على هذا النحو يصار إلى انعتاق العبد من سراب الربوبيات الكاذبة التي يتعاطى معها الإنسان المسكون بالوهم بحسبها بديلاً عن رب العالمين - تقدس في سماه -. إن حسن علاقة المربوب بالرب هي أبرز مقومات نجاحه وتغلبه على ما يواجهه من معوقات في مسيرته الحضارية. نزوع العبد إلى معبوده وانشداده إليه وحاجته الماسة إلى رعايته اتجاه أصيل في الإنسان، وحقيقة متجسدة في حياة المخاليق. الترجمة العملية المثلى للارتباط الحقيقي تكمن في العبادات بحسبها التعبير التطبيقي الصادق لغريزة الإيمان الفطرية لدى الإنسان.

ثانياً: تنمية الشعور الذاتي بالمسؤولية؛ فثمة منظومة متكاملة من المسؤوليات التي يطالب المرء بالتحرك من أجل الاضطلاع بها والالتزام بمقتضياتها. وعلى الرغم من أن الضمانات الخارجية مثل القانون والعرف ومتطلبات المجتمع تلعب دوراً بارز الأثر في دفع الفرد نحو الشعور بالمسؤولية، وتحفزه على النهوض بواجباته إلا أنها لا تكفي وحدها؛ فأثرها ينحسر، إن لم يتساوق معها درجة عالية من الشعور بالرقابة الذاتية النابعة من داخل إطار الأنا. هذه الرقابة الداخلية يجب أن تستحيل إلى واقع حي في حياة الإنسان؛ ليستشعر عندئذ أن ثمة رقابة عليا لا يعزب عن علمها مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. عندما يستحضر المرء في ذهنه - على نحو مستمر - تلك الرقابة الشمولية النافذة؛ فلا ريب أنه سيحاط بجوّ مكثف من الروحانية الباعثة على المزيد من النشوة والصفاء. تنطوي العبادة - بمفهومها العام بحكم طبيعتها - على عنصر الشمول للأبعاد الحياتية المتنوعة؛ فهي لا تنحصر في قالب معين من الشعائر، ولا تقتصر على الأعمال التي تجسّد تمظهرات الإجلال للرب، بل تمتد حتى تطال كل قطاعات النشاط الإنساني قاطبة؛ إذ الزكاة مظهر تعبدي، وهي نشاط اجتماعي مالي، والصيام عبادة وهو نظام غذائي، والجهاد ومقاومة الأعداء عبادة، وهو نشاط اجتماعي، والوضوء والغسل عبادتان، وهم ضربان من تطهير البدن، بل حتى الابتسامة النقية الصافية؛ فبالإضافة إلى أنها تضيف إلى الوجه الكثير من الجاذبية؛ فهي أيضاً عبادة، وحتى النكتة والمداعبة عندما تزيل الجو الكئيب، وتلطف جفاف العلاقات الشخصية؛ فهي تندرج في إطار العبادة، بل كل فعل سلوكي يقوم به المرء بهدف التقرب إلى خالقه فهو عبادة إذا استكمل شرطي الحسن والصوابية، وهكذا تستحيل كل حياة المرء إلى ساحة عمل يحسّن من خلالها مستقبله الأخروي اللاحق.



abdalla_2015@hotmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد