Al Jazirah NewsPaper Saturday  23/02/2008 G Issue 12931
السبت 16 صفر 1429   العدد  12931
علمتني الحياة
مالك ناصر درار

قضت سنة الحياة بأن أقذف بنفسي في خضم الحياة المتلاطم لأسبح فيه حتى أبلغ الساحل، ويأتيني اليقين إذ ليس لي عش إلا بين أمواجها. وهذا الخضم واسع فسيح، فيه من المخلوقات ما لا يعلمه إلا الله من إنسان وحيوان ونبات. وهذا الإنسان وحدة تختلف طباع أفراده وتتباين مشاربه وأهواؤه، ولا بد لمن أراد أن يعيش معه من أن يتسلح بأسلحة الحياة حتى يستطيع أن يتخذ له سبيلاً يسلكه في هدوء ودعة.

وبعد أن أخذت ما أُتيح لي أخذه من العلوم، وإنْ كنتُ لما أفرغ من الدرس والتحصيل أنشأت أتلقى عن الحياة دروسها وتجاربها. فماذا علمتني الحياة من دروس، وماذا أعطتني من عبر؟

لقد كان أول درس تعلمته من الحياة هو أن أستقوي بالله على مجابهة ما تطالعنا به من محن، وأن ألتمس بالإيمان سبيلاً إلى راحة الضمير وسكينة النفس ودعة الحياة، فالذي لا ريب فيه أن الناس جميعاً ابتلوا في سانحة من سوانح العمر أوصاباً تفوق طاقة البشر على احتمالها، ويستعصي على المرء دفعها، فلا بد إذن من الاعتصام بحبل الله ويقينه لمدافعة هذه الأرزاء ومغالبة هذه المصائب. والحمد لله أنني بعد كل ما نلته في عمري الذاهب، ما زلت كبير الثقة بالله عز وجل، أشكر له محامده، وأحمد له صنائعه، وأستعين به في جميع أموري أما الناس فقد عرفت منهم صنوفاً وألواناً عزيزاً تنضيدها في تصانيف وتقاسيم، لأن كلاً منهم متميز بخلاله، مستقل بصفاته، لا يتكرر مطابقة مع غيره. فقد عرفت من غلبت عليه شمائل الخير حتى شابه صورة الإنسان المثالي، وعرفت من غلبته مخايل الشر حتى تعوذت من ذميم صفاته. وعرفت بين هذا وذاك أمشاجاً من أخلاق الناس، رضيت عن بعضها وسخطت على بعضها الآخر، ولكن الحياة علمتني أن أتخذ في معاملتي مع الناس ما يتلاءم مع كل حالة، فأُلاينُ أهلَ الخير، وأُخاشِنُ أهل الشر، وأتوسط الأمر مع أهل الوسط.وعلمتني الحياة أن الناس أذواق ومشارب وعقول، وأن هذه الأذواق والمشارب والعقول لا تطابق إلا في القلة النادرة. فمن الناس جامع مال، ومنهم طالب شهرة، ومنهم آخذ علم، ومنهم الزاهد، ومنهم المفتون بمباهج الحياة، ومنهم المفطور على العمل الإنساني، ومنهم الساعي إلى الهزل، وهلم جرا. وتلقاء هذا الخليط من المشارب والأذواق والعقول، لا بد للمرء من أن يدرب نفسه على شكل من أشكال التكيف المقبول ما دام التعامل مع الناس أمراً لا مفر منه. أما إذا كان ثمة سبيل إلى اجتناب التعامل مع من لا مهادنة بين أهوائه وأهوائي، فإنني أسلك تلك السبيل لأن البعد عن الأحمق من آيات الفطنة.

وعلمتني الحياة أن خير ما يتسلح به المرء هو أن يثابر على الدرس والبحث والاستقصاء من المهد إلى اللحد. وكل علم ينفع، وكل درس يعين المرء على خوض معمعات الحياة بمزيد من الثقة وكثير من حسن التقدير. ولا ضير أن يكون العلم لوجه العلم وحده، لا يبتغي المرء منه ألقاباً ولا يكون تكأة إلى مغنم مادي أو فائدة معجلة. وغيرُ خافٍ أن العلوم في عصرنا الحالي قد شعست أطرافها وبعدت وتنوعت. ومهما حصل المرء منها، ولكن حسب المرء رضىً أن يعيش في الحياة طلاعاً إلى مزيد من المعارف، حاثاً خطأه إلى ينابيع العلم أياً كانت، طالباً العلم ولو في الصين، ولا نقصد بالعلم معناه الضيق، وإنما نقصد معناه الواسع الرحيب الذي يتناول المعارف جميعاً، ويمون علي الضد من لفظة (الجهل).

وعلمتني أن القيم الحقيقية لا بد أن تمكث في الأرض وتترعرع فروعها في السماء، فالمعاني الخلقية النبيلة جميعاً، من حق وعدل وإنصاف ومرحمة وعطف ومعروف وما إليها، قد يفتأت عليها في زمن أو في أزمنة، ولكنها تظل محتفظة بجوهرها الأصيل معلنة عن نفسها في كل أوان، تتجدد إشراقتها بعدما تزال المحنة الطارئة. وقد عرفت في حياتي قيماً أهدرت في ساعة نحس، ولكن الله مد في عمري فرأيت تلك القيم تستعيد ألقها وبريقها بل سلطانها، كما هو الظن بها، فلا يتزعزعن إيماننا بالقيم الرواسخ، مهما اهتزت في أويقات عارضة، ولنكن واثقين من أن الغلبة للحق مهما طال الأمد.وعلمتني الحياة أن ألتمس العذر وأصفح عند المقدرة. فالناس جميعاً - وأنا معهم - يخطئون في ساعة غضب أو في فورة حماسة أو في حالة استفزاز، وإذا كنت أتوقع من الناس أن يعذروني فيما لا يروق لهم من تصرفاتي، فلا أقل من أكون لهم عذيراً صفوحاً. فالصفح من الشمائل الإنسانية السامية التي يصح للمرء أن يتجمل بها، يقابل ذلك أن ضبط النفس هو من الخصائص النبيلة التي يحق للناس أن تستوصي بها في مواقف الانفعال.

وعلمتني الحياة ألا آخذ الأمور بظاهرها البراق، وألا أنظر إلى الحياة نظرتي إلى أمور مسلم بها لا تقبل جدلاً. فمن صميم الصواب أن يعمل المرء على التغلغل إلى الأعماق ليقف على الحقائق التي لا تُرى بالعين المجردة، ومن المحجة أن يناقش القضايا مناقشة تبصر وحكمة، ليستخلص آراءه بعد الدرس والبحث والفحص وإمعان النظر. فالحقيقة بنت البحث والاستقصاء، والصواب هو ثمرة الموازنة الدقيقة بين جميع العوامل في غير تحيز أو هوى. وعلمتني الحياة أن المرء قليل بنفسه كثير بإخوانه، وأنه - مهما بلغ من شأوٍ- لا يستغني عن المشورة السديدة والنصيحة الخالصة. ولذلك كنت في مراحل عمري المختلفة - وما زلت - أنشد المشورة وأسعى إلى النصيحة لأستهدي بذلك فيما أنتهي إليه من قرار. ولا يشينني أن أكون التمست المشورة وأسعى إلى النصيحة لأستهدي بذلك في ما أنتهي إليه من قرار. ولا يشينني أن أكون التمست المشورة من أبنائي أو ممن هم في حكم الأبناء، فالحكمة ليست حكراً على أحد، والرأي السديد يمكن أن يكون في متناول كثرة من الناس.وعلمتني الحياة ألا أتزمت أو أتعصب أو أغلو في العناد، وأن أوسع صدري ما استطعت أمام ما يتنافر من آراء وما يتناثر من أقوال، وأن أدرك أن الرأي لا يُقرع إلا بالرأي، وأن الحجة لا تُفل إلا بالحجة، وأن الحقيقة تنجلي بوجهها الباهر بعد مثل هذه المناظرة الحرة النظيفة الشريفة بين الآراء. وعلمتني الحياة ألا أسارع إلى المدح والثناء الطيب على من يأتي أمراً ظاهره صالح، أو قام بعمل يبدو نافعاً. بل يجب أن ألتزم الأناة والتمهل حتى يتبين ما وراء ذلك، إذ قد يكون الباعث على هذه الأفعال الظاهرة أمر خبئ أو غرض خفي يراد به الشهرة وحسن الأحدوثة أو مآرب أخرى.

وعلمتني الحياة أن المال يذهب ويجيء، أما السيرة الطيبة فهي الإرث المبارك الذي يتركه السلف للخلف، ويتوارثه من بعدهم كل جيل آت، وصفوة ما علمتنيه الحياة بعد هذا العمر، أن التسامح خير دواء يقوم به الناس، وأن حكم الآية القرآنية الكريمة {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}يجب أن يسود ويعم. وأن استعمال القوة الحمقاء ضد الغير ظلم لا يستقيم مع العدل والحق، وخير من ذلك أن يتفاهم الناس بالحسنى ويتعاملوا بالإنصاف وأن أقوى رباط يربط الناس بعضهم ببعض هو التعاون على البر والتقوى وكل ما ينفع بني الإنسان، وأن يبتعدوا ما استطاعوا عن التعاون على الإثم والعدوان. وأن التفاؤل خير من التشاؤم، والأمل خير من اليأس، وصدق من قال (لا حياة مع اليأس ولا يأس مع الحياة).

وأن الإنسان لو استطاع أن يجعل من نفسه مصباحاً ينير الطريق لمن حوله، فإنه يعتبر من خيار الناس.

ولأن الاعتماد على النفس والعمل هو دليل الإنسانية الحق، إذ هو سر الحياة الذي يسري في كل كائن حي، إذ تسيره القوة الكامنة فيه من غير أن يدفعه أي دافع. وكذلك علمتني الحياة أن الحياة على ما فيها من شر لا تخلو من خير لا يعييك أن تجده موفوراً، ولا يعز عليك أن تصيب منه أطرافاً، وأن المحبة إنسانية في جوهرها، فإذا وقعت بين اثنين لا تسلْ عن أسبابها ودوافعها.

علمتني الحياة أن من الناس من يأخذ على علاتها، ولا يعترض على شيء فيها، ومنهم من يحاسبها على كل ما لا يوافق هواه منها، وقد يكون الأول أهنأ بالاً وأصلح حالاً من الآخر. وأن الصديق الوفي كالواحة الخضراء يتولى إلى ظلها المكدود من هجير الحياة. فاحرص على انتقاء أصدقائك من هذا الطراز المجبول بالوفاء.

وعلمتني الحياة أنه ليس كل ما يجمع الناس عليه يكون دائماً صواباً أو حقاً. فقد يكون الصواب والحق أحياناً مع القلة، فليكن ديدنك أن تبحث عن الصواب حيثما كان، وأن تكون مع الحق في كل أوان.

هذا ذرو قليل مما علمتني الحياة وخرجت به من دروسها وعبرها، لأن ما تعلمته منها وما أخذته عنها كثير حتى أصبحت بها ملماً خبيراً.

ولا يفوتني أن أذكر أن كل هذا الذي تعلمته من الحياة هو في جانب مما حصلته من علم وأدب، وذلك بأن التثقيف الذاتي لا يقف عند تحصيل العلم ودراسة الكتب واستيعاب ما في الأسفار، وإنما هو التمرس بالحياة والأخذ عنها والتخرج في تجاربها؛ والله المستعان.

كاتب صحافي - جدة



 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد