Al Jazirah NewsPaper Wednesday  05/03/2008 G Issue 12942
الاربعاء 27 صفر 1429   العدد  12942

الاتجاه شرقاً..!
د. إبراهيم بن عبدالرحمن التركي

 

(1)

** اعتدنا -في الحوارات المتصلة بالتنمية- الإشارةَ إلى تجارب متفوقة بهدف استلهامها، ولا يفترق في ذلك حوار نخبوي عن شعبوي، وإذْ تبهر الأخيرين مظاهرُ متصلة بالشكل فإن الأولين

يحاولون النفاذ إلى المضمون للحديث عن تجارب في الإدارة والاقتصاد والتعليم والأمن، ولعل هذه الاستهداءات تنضج يوماً لتقود تجربة خاصةً بنا تكون منطلقاً للتمثل.

** اقتنع بعضُنا بتجارب متواضعة في دول قريبة صغيرة طغى فيها تنظيم الأسواق، وارتفاع العمائر، ويُسر الخدمات، وبقي بعضُنا داخل تنازعات أيدولوجية مؤمنين بعجز الواقع، غير راضين عن اجتذاب تجارب غربية خوفاً من ازدواجية الذات المنتجة بالذات المستهلكة، إذ قد تتماهى الذاتان فلا ينفصل الأصيل عن الدخيل، ولا تتخلص التنمية المطلوب استيرادُها عن الخلفيات السياسية والدينية المرتبطة بها.

** مثلت هذه الهواجس منطلقاً للخلافات الثقافية بين جماعات الإغلاق وجماعات الاندلاق، وتاهت الملامحُ الإيجابية بين من يدْعُون للخصوصية المنكفئة ومَنْ يرفضون الإذن لأيٍّ من معانيها أن يحكم السياق التنموي البعيد عن صراع المنهج الظاهر والمستتر.

** ولعل ما يحكم به فريقٌ أو آخر ناءٍ عمّا يحلمان به، ما جعل الهوّية الدينية والقومية مداراً للجدل الممل المحتدم بين الأوصياء -بتضاد انتماءاتهم-، ولم يستطع الوعيُ المعرفيُّ والتبدلاتُ المجتمعية أن تخفف من سجال المعركة، فانفض الناسُ -إلا أقلَّهم- عن متابعة نتائج لا تعنيهم مدلولاتها.

(2)

** لعله (يوسف الشيراوي 1927-2004م) -وهو مثقف ووزير راحل من البحرين- من دعا الأمة العربية إلى الاتجاه في تنميتها شرقاً، مستبقاً دعواتٍ لاحقة اكتشفت متأخرةً أن الغرب ليس وحده من يملك مفاتح التنمية.

** قرئت التجربةُ اليابانية كثيراً، وأصبحت نظريتها الإدارية (Z) النظرية الثالثة بعد نظريتي (X)و (Y)، وغنى حافظ إبراهيم 1872- 1932م في وداع (غادة اليابان) قصيدته الذائعة:

لا تلمْ كفي إذا السيفُ نبا

صحّ مني العزمُ والدهرُ أبى

ومنها:

كنتُ أهوى في زماني غادةً

وهب الله لها ما وهبا

ذات وجهٍ مزج الله به

صفرةً تُنسي اليهودَ الذهبا

وفيها:

أنا يابانيةٌ لا أنثني

عن مرادي أو أذوق العطبا

هكذا الميكادُ قد علمّنا

أن نرى الأوطانَ أمّا وأبا

ملكٌ يكفيك منه أنه

أنهضَ الشرق فهزّ المغربا

** ومن الجميل أن تأتي التجربة اليابانية إلى معرض الكتاب في الرياض ليقف عليها من كان نائياً عنها، وهي -في حقيقتها- نموذج متطور لبلد لم يدخل أنفاق المحاور، وخصص ما يقارب خمس ميزانيته للتعليم، وتزاملنا -في الدراسة بالخارج- مع يابانيين كانوا أمامنا أمثلة للمقدرة الفائقة على جَلَد البحث وجدية الشخصية وانضباط السلوك، وكنا ندهش لهدوئهم حتى نظن أنهم لا يتحركون، ثم نرى أداءهم فنوقن أنهم لا يسكنون، ومن زار اليابان سيرى تواؤم الذات مع الآخر؛ فترى الخصوصية اليابانية دون عزل التجارب العالمية أو التخويف من التبادل الثقافي.

(3)

** لدينا منْ تفرط حساسيته من كل شيء مستورد إلا المنتجَ التقني الذي يتعامل به ومعه ومن خلاله ثم يدعو بالهلاك على أربابه؛ فينام هادئ البال ظانا أنه قد جمع اعتزازه القيْمي واستفادته الماديّة، وليت الأمور بهذه الأريحية؛ إذ سيتوهم فئام أن هؤلاء (الأجانب بشرقهم وغربهم) قد سخرهم الله -جل شأنُه- لخدمتنا، فلننصرف عن الإنتاج، ولنكتف بالاستيراد، ولنقعدْ بالمرصاد لمن يُحاولون القفز على الخصوصية والهُويّة، وكأن معالم النهضة مصبوغة باللونين الأبيض والأسود.

** جاءت التجربة الماليزية التي قادها الطبيب (محضير محمد 1925-) نموذجاً استثنائياً أمام دول العالم الثالث لما يمكن أن تصل إليه الشعوب (المتخلفة) إذا أرادت الانعتاق من إسار التبعية الصناعيّة.

** حكم محضير محمد اثنين وعشرين عاماً 1981-2003م، وتجاوز ببلاده كوارث مالية، وخلافات عرقيّة ودينيّة، وقرر -وهو المسلم- توزيع الثروة بالتساوي بين ذوي القوميات والانتماءات دون تمييز، وأنفق -كما اليابان- 20% من ميزانية بلاده القومية على التعليم متجاوزاً ما يُصرف على الدفاع، وابتعث -في وقت واحد- أكثر من خمسين ألف طالب للخارج، وركز التعليم العالي على تخصصات العلوم والتقنية، وقلص الأمية من 36% إلى 6%، ورفع مستوى (الملاويين) الفقراء، فنقلهم من بؤر الفقر والبؤس، وعزز السياحة حتى أصبح زائرو بلاده بالملايين، وازدادت عائدات النفط بشكل لم يعهد من قبل.

** والمفارقة أن الدكتور محضير محمد قد رفع كذلك شعار (الاتجاه شرقاً)؛ فاستلهم التجربتين اليابانية والكورية، وأكد على أخلاقيات العمل الآسيوي بما فيها من جديّة وانضباط وإخلاص وذوق في التعامل وتقبل للآخر، هادفاً أن تكون ماليزيا ضمن العالم الصناعي المتقدم خلال سنوات قليلة.

** والمفارقة الأخرى أنه لم يقف دون الإفادة من اليابان حتى في أثناء أزمتها الاقتصادية، مؤكداً أن تجربتها خيار استراتيجي، وأنه تعلم من فشلها تماماً كما يتعلم من نجاحاتها، ثم غادر كرسيه وهو في أوج نجاحه، وقدم نموذجاً مختلفاً عن مسؤولي العالم الثالث الذين يمثل لهم المنصب ممتلكاً خاصاً غير قابل للتنازل.

(4)

** تبقى التجربة اليابانية العتيدة، والتجربة الماليزية الجديدة مثالين مهمين لمن يريد الخَطْوَ نحو الغد الجديد الباحث عن التغيير والتطوير.

** كما تبقى قيمُ العدالة والحرية والتوازن والاستقلال أرضية صلبة تقوم عليها قواعد التنمية، بعيداً عن أنانية الفرد واستئثار المجموعة وتفرد الفئة والمذهب والقبيلة.

** نحتاجُ إلى تجذير العمل الجماعي والتسامح الفكري والاستهداء بالنجاح أياً يكن صانعُه، وتجاوز الأحكام الجاهزة على أمة أو فريق أو أشخاص، ما يجعلُنا لا نعوِّل على الانتماء المحدود لثقافة أو ممارسة أو توجيه، كيلا تجيئَ التصنيفات مقدّمةً على المشروعات، ويُضحي النسيمُ الهادئ القادم من الخارج عواصف تُعمل لها المصدات.

** لا مشكلة في أن نختلف، لكن المشكلة هي أن ينقاد الرأيُ الجمعي مثلما القرار الشمولي كما قضايا التنمية لتوجه أو توجيه، وقد خلقنا الله شعوباً وقبائل، بجذور ومفاهيم ومعتقدات شتى، ما يعني (التعددية) بالمصطلح المعاصر، وما ينفي الاستئثار وهو ما يوازي الخيارات الديموقراطية وفق دلالات تكوين المجتمع المدني، كما شاء الله سبحانه أن نتعارف وهو ما يعني قبول الآخر، وهذه شروط مهمة للنهضة المرجوة.

(5)

** التنمية تحيا معضلات أكثر من كونها تتعايش مع قضايا، وكثيرٌ منها يسهلُ حلُّه إذا حُيِّد المؤدلج، وقُرِّب الممنهج، وأبعد الشارعُ عن الاستثارة، وأُذن للمتخصصين أن يعملوا وفق معادلاتٍ علميّة مستندة على دراسات إحصائية تحايد ولا تحيد، وتعطي متخذي القرار الحرية المطلقة للانطلاق بعيداً عن الاستتار خلف الندوات والاجتماعات، وترك الأمور التنموية معلقةً بتوصيات وأحياناً بأمنيات.

* التنمية تخطيط وشراكة.

ibrturkia@Hotmail.com
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6745 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد