Al Jazirah NewsPaper Wednesday  05/03/2008 G Issue 12942
الاربعاء 27 صفر 1429   العدد  12942
حمَّى الإستراتيجيات
د. عبدالمجيد محمد الجلال

الإستراتيجية: خطة أو رؤية مستقبلية تغطي حقبة زمنية قد تمتد من نحو (10) إلى (20) أو (30) عاماً. وهي عبارة عن حزمة من الأهداف والسياسات والبرامج المحددة، والقضايا، على المستوى المجتمعي أو القطاعي، تستهدف إيجاد تحولات هيكلية، وتحقيق معدلات نمو إيجابية،في المجالات الاقتصادية

******

أو الاجتماعية أو الثقافية، بكافة تفريعاتها الخدمية والإنتاجية والمعرفية، وبما يدفع بتواتر النقلات النوعية في مسيرة تقدم المجتمع، ويعزَّز استقراره ورخاءه.

ويفترض أن تُبنى الإستراتيجية على قاعدة من الأبحاث والدراسات ذات الصلة بالعوامل والمتغيرات الرئيسة الفاعلة، وعلاقتها مع التطورات المحتملة أو الممكنة، من أجل سلامة البناء العلمي والتحليلي لعناصر الإستراتيجية، كما يفترض أن تتضمن آلية للتنفيذ والمتابعة، تأخذ في الاعتبار الصعوبات المحتملة، والبدائل الملائمة، فضلاً عن عنصر الجدول الزمني المستهدف لتنفيذ بنود الإستراتيجية. ومن ثمَّ فإنَّ إعدادها وصياغتها يستنفد الكثير من الجهد والمال والوقت.

في المشهد السعودي، اتسع نطاق هذه النوعية من الخطط المستقبلية، وتنوعت موضوعاتها، وتعددت أدواتها، وجهاتها الفاعلة، إذ في فترة زمنية قياسية ظهر على السطح المحلي العشرات منها، بل ربما يصح القول بأنَّها قد أضحت ظاهرة تتجمل بإعدادها وصياغتها بعض المؤسسات والقطاعات العامة.

وتكمن إشكالية البناء الإستراتيجي المحلي في افتقاده بشدة إلى آلية تُعنى بمباشرة التنفيذ، وفقاً للجدول الزمني المستهدف، وتُعنى كذلك بمعالجة انحراف المسَّار، وتذليل الصعوبات والمعوقات، والاهتمام بالبدائل المناسبة والملائمة، بما يساعد على تحقيق الأهداف والسياسات والبرامج الواردة في الإستراتيجية بصورة أكثر فعالية.

أمام هذا الخلل الفني، في البناء الإستراتيجي، فمن الطبيعي أن تظهر الاختناقات الكمية أو النوعية، في عمليات التنفيذ، والتي قد تسهم في تأخير، أو حتى تحول دون تحقيق بعض الأهداف المحددة، أو البرامج المرسومة، وبما ينعكس سلباً على مؤشرات الأداء والإنجاز، ويتسبب في تفريغ جزء مهم من عناصر البناء الإستراتيجي من مضمونه ومحدداته.

ربما تبدو هذه الإشكالية في البناء الإستراتيجي المحلي، أكثر وضوحاً، وأشد حدة، وتراكماً، في أنموذج إستراتيجية التنمية السعودية، وخططها الخمسية المتتابعة منذ نحو أربعين عاماً، ومن ذلك على سبيل المثال ما يختص بهدف (تحقيق التنمية المتوازنة في مختلف مناطق المملكة) وهو من أبرز أهداف إستراتيجية التنمية السعودية، فرغم أهميته وضرورته، فقد ظلَّ هذا الهدف، ولعقود من التنمية، دون التفعيل المطلوب، فترتب على هذا الإهمال النسبي، حدوث اختلال واضح في توزيع منافع وثمرات التنمية على مختلف مناطق المملكة، فنتج عن ذلك اتساع نطاق الهجرة بصفة مطِّردة من المناطق والمدن الأقل نمواً (مناطق الطرد) إلى المناطق والمدن الرئيسة الأكثر نمواً (مناطق الجذب) بحثاً عن فرص العمل أو التجارة أو الدراسة أو العلاج، وشكَّلت هذه الهجرات المتتابعة ضغطاً شديداً نسبياً على المرافق والخدمات والطرق في مدن المملكة الرئيسة، فضلاً عن إيجاد اختلال في مكونات التركيبة السكانية على المستوى الكلي.

أنموذج آخر لهذا البناء الإستراتيجي المحلي يخص هذه المرة مدينة الرياض، فالتطوير القائم حالياً يستند في عمومه إلى (المخطط الإستراتيجي الشامل لمدينة الرياض) والذي يستهدف إجمالاً رسم الأُطر الفنية والعلمية والموضوعية لتعزيز المرافق والخدمات والبنية التحتية والنهوض بها، لمواجهة معدل النمو المطَّرد نسبياً، في عدد السكان والمركبات.

وقد انبثق عن هذا المخطط الإستراتيجي ما أطلق عليه (إستراتيجية التطوير الحضري) والتي تولدت منها نحو (6) إستراتيجيات قطاعية، هي إستراتيجيات: التنمية الاقتصادية، والبيئة، والنقل، والمرافق العامة، والإسكان، والخدمات العامة.

ومع التأكيد على أهمية مؤشرات الإنجاز الحالية، التطويرية والتحسينية، فإنَّ الأمر يتطلب بالضرورة صياغة آلية عمل أكثر شفافية، وأكثر جِدة وإبداعاً، قادرة عبر جدول زمني محدَّد، وبرنامج عمل يراعي الاحتياجات والأولويات والبدائل، على تحويل كل أو جلِّ معطيات هذا البناء الإستراتيجي إلى واقعٍ ماديٍ محسوس.

إنَّ عامل الزمن يظل العنصر المهم المعَّول عليه، فمدينة الرياض في حراك اقتصادي واجتماعي مطَّرد، وعدد سكانها في تزايد مستمر، إذ تشير إحصاءات التعداد السكاني الأخير الذي جرى في عام 1425هـ إلى أنَّ عدد سكان مدينة الرياض قد بلغ أكثر من (4.1) ملايين نسمة، وبمعدل نمو سنوي متوقع يصل إلى نحو (2.4%) أي أنَّ عدد السكان قد وصل إجمالاً في عام 1428هـ إلى أكثر من (4.4) ملايين نسمة.

إلى جانب ذلك تتسع بشكلٍ مخيف وتيرة حركة المركبات وأعدادها، على مختلف الطرق والميادين، وبما يجعل من هذه الحركة، خاصة في أوقات الذروة، ذات درجة عالية من الاختناقات تتفاوت شدتها من منطقة إلى أخرى، مما يعني بالتالي خلق حالة تأزم ومعاناة، وتبديد نسبي للأوقات، وانعكاسه السلبي على مصالح الناس واحتياجاتهم.

إذن الحاجة ملحة إلى تسريع تنفيذ ما ورد في إستراتيجية المخطط الشامل لمدينة الرياض، ولعلَّ في مقدمة ذلك تنفيذ المشروعات الخدمية الأساسية، ومنها: مشروع القطار الكهربائي العتيد، ووسائط النقل العام، إضافة إلى تنفيذ المشروعات التي تخفََّف من حدة تركَّز بعض المرافق والخدمات الأساسية في مناطق دون أخرى.

إنَّ الاستثمار الناجح للوقت والجهد والمال الذي يستغرقه صياغة وإعداد الإستراتيجيات لن يؤتي أُكله، إذا لم يؤخذ في الحسبان آلية التنفيذ والمتابعة، وعامل الزمن، وحتى لا نصل إلى مرحلة تتجاوز فيها الوقائع والتطورات الديموجرافية، والاقتصادية، والاجتماعية، ما احتوته وتضمنته بنود هذه الإستراتيجيات.

من مأثور الحِكم: (في قَلْبِ كُلِّ شِتاءٍ رَبِيعٌ يَخْتَلِجُ، ووَراءَ نِقابِ كُلِّ لَيْلٍ فَجْرٌ يَبْتَسِمُ).




 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد