Al Jazirah NewsPaper Sunday  09/03/2008 G Issue 12946
الأحد 01 ربيع الأول 1429   العدد  12946
شيء من
اللغة والحضارة
محمد بن عبداللطيف آل الشيخ

تهميشنا للترجمة، وعدم اهتمامنا بالتعريب أدى إلى أننا نواجه الآن حقيقة أن اللغة العربية التي هي جزء رئيس من هويتنا تعجز أن ترتقي إلى مواكبة العلوم المعاصرة، والتعبير عن المنجزات الفكرية الحضارية. اليابانيون وكذلك الصينيون والكوريون - مثلاً لا حصراً - استطاعوا من خلال ترجمة التراث العالمي، الماضي والحاضر، والتواصل معه، أن يجعلوا من لغاتهم لغة حية، تحمل مخزوناً من المصطلحات في كل شأن من شؤون الحضارة والعلم والثقافة المعاصرة. وهذا لم يتأت لهم لكون لغتهم في الأساس تحمل مخزوناً (أصلياً) من التعابير والمشتقات الصالحة لمواكبة المنجزات الحضارية العالمية، وإنما لأن حركة الترجمة لديهم كانت عميقة وجادة وضخمة ومنظمة، الأمر الذي جعل لكل مصطلح تقريباً مقابلاً في لغاتهم، ومع مرور الزمن وتواصل الترجمة، اتخذت هذه المصطلحات وضعاً مستقراً في ثقافاتهم، رغم أنها كانت قادمة من منظومة ثقافية أخرى، ومع التكريس الذي قامت به الترجمات لهذه المصطلحات بدت وكأنها (أصيلة) في لغاتهم.

وقد اجتمعت في الأسبوع الماضي بطبيب شاب متفوق من أقاربي، تكاد تلمح في عينيه فضلاً عن حديثه النبوغ والتميز، ويحمل تخصصاً نادراً في الطب البشري. أثناء النقاش لاحظت أنه يتحدث بالإنجليزية في تعبيره عن آرائه، وبالذات استخدامه للمصطلحات، رغم محاولته الجادة أن يتفادى اللغة الإنجليزية، ويستخدم لغته الأم، غير أن عدم تلبية اللغة العربية لأفكاره جعله يستخدم المصطلح الإنجليزي (مضطراً) كما يقول لسان حاله.

واللغة هي أساس التواصل بين الثقافات، وعندما تعجز لغتك عن التواصل مع من هم خارج منظومتك الثقافية تصبح النتيجة التلقائية لهذا العجز التخلف والتقوقع في الذات. ولعل المغالطة الشائعة الآن التي مؤداها أن لدينا من عوامل (التحضر) ما يكفينا، ولسنا - بالتالي- في حاجة لأحد، وأن التواصل مع الآخر ضرب من ضروب (التغريب)، تعود إلى الجهل المطبق بثقافة منهم خارج نطاقنا الثقافي، والسبب قصور الترجمة.

وأتذكر أن أحد البسطاء كتب يرد علي هنا في الجزيرة بردٍّ مطوَّل مفاده أن ثقافتنا الموروثة تغنينا عن الآخر، وأننا لسنا في المحصلة في حاجة لأحد، وأن الحضارة الغربية مجرد (سراب) ليس إلا. وهذا الرجل صاحب ذلك الرد لو أتيح له قراءة موضوعية وعلمية، وليست (مؤدلجة)، بلغته الأم، عن ثقافة ومنجزات الغرب الحضارية لما تجرأ وقال هذا القول الذي لا يقول به من يحمل ولو قدراً ضئيلاً من المنطق والعقل، ناهيك عن الموضوعية، غير أن ما يشفع له أن (المسكين) مجرد ضحية من ضحايا إخفاقنا في التواصل مع الآخر، فالإنسان عدو ما يجهل، وأهم أسباب هذا الاخفاق قصورنا في إقحام لغتنا العربية إلى أجواء اللغة الحضارية العالمية.

ولعل إحياء اللغة العبرية كان أساساً من أساسات صناعة إسرائيل، ووضعها على خارطة العالم؛ ففي أواخر القرن 19 أسس (اليزير بن يهودا) حركة هدفها بعث العبرية كلغة محكية لتكون لغة عامة لليهود، فصاغ ابن يهودا آلاف الكلمات الجديدة بحيث تكون هذه اللغة هي اللغة المحكية والمكتوبة لليهودي في المدرسة والبيت والعمل. وها هي العبرية الآن يتكلم بها أكثر من 5 ملايين إسرائيلي بعد أن بقت لقرون لغة ميتة. فاللغة ليست هوية فحسب، وإنما حضارة أيضاً.

إلى اللقاء.



لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6816 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد