Al Jazirah NewsPaper Monday  10/03/2008 G Issue 12947
الأثنين 03 ربيع الأول 1429   العدد  12947
الحياة في اللغة أم في المجتمع؟
د. عبدالرحمن الحبيب

قال الأصمعي: كان للعرب كلام على معان، فإذا ابتدلت تلك المعاني لم تتكلم بذلك الكلام، فمن ذلك قول الناس اليوم: ساق إليها صداقها، وإنما كان هذا يقال حين كان الصداق إبلاً وغنماً. ومن ذلك قول الناس اليوم: قد بنى فلان البارحة على أهله، وإنما كان هذا القول لمن كان يضرب على أهله في تلك الليلة قبة وخيمة، وذلك هو بناؤه..

ما يريد الأصمعي قوله هو أن لأساليب الكلام وتعابير اللغة أساس اجتماعي، فكلمات وأساليب وصيغ تندثر وتنبعث وفقاً لحياة الناس. اللغة كائن حي يقوى ويضعف، يثرى ويفقر، بل يحيى ويموت بحسب حياة المجتمع الناطق بها.. وحين ينتج المجتمع تراكيب اللغة ويطورها، فإن اللغة نفسها تقوم بدور تفاعلي يساعد على تقدم أو تأخر المجتمع.. واللغة ليست وسيلة لتوصيل المعلومات فقط بل هي أيضاً طريقة في التفكير..

لقد واجهت اللغة العربية تحدياً كبيراً، بل وخطر الانقراض عندما اصطدمت باللغات الأوربية الحديثة خاصة الإنجليزية والفرنسية، ولكنها عبرت هذا التحدي مع ظهور حركة الإحياء اللغوي والتعريب ومشاريع النهضة، فنفضت الغبار عن كنوز لغوية هائلة أعادت الحياة للغة العربية كثقافة، ولكنها لا تزال تواجه تحدياً في مجال العلوم، من ناحية تطور اللغة العلمية والتعبير العلمي وأساليب التفكير اللغوي، ولا تزال تواجه تحدياً في مجال التقنية، لأن المجتمعات العربية لم تنهض علمياً وتقنياً على المستوى العالمي..

ولو قارنا بين اللغتين العربية والإنجليزية، سنجد أن اللغة الإنجليزية الحديثة نشأت في مجتمع صناعي علمي، فيما اللغة العربية الحديثة نشأت في مجتمعات ريفية وبدوية وتعاني من أزمات حادة وترث أجزاء من اللغة القديمة مختلطة مع لهجات عامية.. وسنلاحظ أن كلمات العربية فضفاضة وعاطفية مقارنة بالإنجليزية ذات المعنى المحدد والجاف.. معاني الأولى تميل للذاتية والانحياز والأخرى تميل للموضوعية والحياد.. الأولى اشتقاقية والثانية تركيبية.. الجملة والصيغة بالعربية تكتب بمرونة ورحابة وبخيارات متنوعة، مثلاً تقدم المفعول وتؤخر المبتدأ والفاعل، فيما بالإنجليزية تكتب بترتيب محدد وبخيارات ضيقة..

فهل هذه الصفات في ذات اللغة أم أنها ناتجة عن البيئة الاجتماعية والثقافية؟ هل اللغة الإنجليزية علمية موضوعية واللغة العربية إنشائية عاطفية، لأن العرب عاطفيون والإنجليز باردون انطبعت لغتهما بصفاتهما؟ أم أن اللغة أثرت في المجتمعين فأصبح العرب عاطفيين والإنجليز عمليين!؟ لو كان السؤال بهذا التبسيط، لما وجدنا فرقاً كبيراً بين الطليان وهم من أكثر شعوب الأرض عاطفية، والإنجليز أقل الشعوب عاطفية، وكلاهما مجتمعان صناعيان!؟ وحتى في الفرق اللغوي نجد التباين بين اللغة الإنجليزية والفرنسية مثلاً وكلاهما مجتمعان صناعيان متجاوران ومرا بنفس الظروف؟

فطالما تندر الفرنسيون على فقر اللغة الإنجليزية الشعري والخيالي.. فلو قارنا بين متحدثي الإنجليزية والفرنسية في أمريكا الشمالية، سنجد أن الإنجليز أطلقوا على المدن والمناطق التي استعمروها نفس أسماء مدنهم ومناطقهم في الجزيرة البريطانية، بل وحتى الأنهر وأسماء الأسواق والطرقات والشوارع، وقد يضيفون إلى بعضها كلمة (نيو) مثل: نيويورك، نيوإنجلند.. وكأن المخيلة الإنجليزية غير قادرة على ابتكار أسماء جديدة! وهذا ما دعا المفكر الألماني كارل ماركس للقول عن الإنجليز: (يملكون كل الإمكانات لتغيير العالم وكل ما ينقصهم هو الخيال)، وهو من قال: (إن اللغة هي حقيقة الفكر مباشرة)، بمعنى أن الأفكار لا تظهر إلا من خلال لغة، فالأفكار لا توجد عارية بدون لغة أو أجهزة لغوية.

طريقة الإنجليز في تسمية المناطق التي فتحوها تدعونا للتخيل الطريف لو أن الفاتحين العرب أطلقوا على المدن التي أقاموها نفس أسماء المناطق التي أتوا منها في جزيرة العرب، كيف ستكون الأسماء؟ الحجاز الجديدة، مكة الجديدة، نجد الجديدة..!! لكن واقع الحال، أن كل موقع وجزء من موقع من واحة أو واد أو أصغر بل وحتى صخور ستجد له اسماً، بل وربما أكثر من اسم...

ولا يزال السؤال قائماً، هل العلمية والدقة من جهة والخيال والعاطفة من جهة أخرى تنبع من داخل اللغة أم من الواقع؟ في ذلك يذكر هادي العلوي أن في العربية عشر مفردات للحب وعشرين لفعل الحب وأربعين لمشتقاته. وفي الكردية نحو عشرة مع مشتقاتها، وفي الفارسية ست، ثلاث أصلية وثلاث عربية، بينما في الإنجليزية مفردة واحدة أساسية (love)، والأخريات أما بالتوليد أو المجاز مثل (like)، ويعكس هذا التفاوت في الكم اللغوي تفاوتاً في الكم الوجداني، فالإنسان يعبر عما يمارسه في حياته العملية ويحوله إلى لغة. والعربي الجاهلي عاش مغموساً بالحب والوجدان والبكاء، فأنتج هذه الوفرة من المفردات الجميلة للحب ومتعلقاته..

وإذا كان العربي العاشق يهيم في مفازات الصحراء، فإن الترحال نمطه المعيشي والبداوة نمطه الاجتماعي، والعصبية القبلية إحدى مقوماته الاجتماعية، فما أن تعتلي عصبية إلا وتقيم سلطانها أو دولتها.. والأيام دول، أي تدول وتزول، والدولة العربية كما شخص عمرها ابن خلدون سريعة الزوال، لا تلبث إلا نحو ثلاثة أجيال، لذا من معاني مفردة (دولة) بالعربية التقلب وعدم الاستقرار.. وتقول العرب في الحرب كانت لنا عليهم الدولة، أي التفوق.. بينما كلمة الدولة يقابلها بالإنجليزية state وهي تعني الاستقرار والثبات والاستمرارية.. وإذا كان صاحب الدولة العربية يأبى أن يكون صانعاً أو عالماً، ويسمي الصناعة مهنة أي ممتهنا، كما عبر عالم الاجتماع علي الوردي، فالمهنة من المهانة، أو كما قال الجواهري صاحب الصحاح الماهن هو الخادم ورجل مهين أي حقير! بينما في الإنجليزية work ترتبط بمعاني القداسة والتبجيل..

وفي المحصلة، من يؤثر على من؟ هل واقعنا يكوِّن لغتنا أم أن لغتنا تطوِّر واقعنا؟ بطبيعة الحال اللغة ليست مجرد وسيلة لتوصيل المعلومات، بل هي أيضاً أسلوب وسلوك لفظي وطريقة تفكير وتعابير منطوقة وأفكار ملفوظة ناتجة عن بيئة اجتماعية. ومن هنا فاللغة تنشأ من الواقع، ولكنها تتفاعل معه وتؤثر به سلباً أو إيجاباً..



alhebib@yahoo.com
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6848 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد