Al Jazirah NewsPaper Monday  10/03/2008 G Issue 12947
الأثنين 03 ربيع الأول 1429   العدد  12947

من إيحاء الاحتفال بالجائزة
د. عبدالله الصالح العثيمين

 

في مساء الأمس كان الاحتفال البهيج بمنح جائزة الملك فيصل العالمية لهذا العام، وفي طليعتهم خادم الحرمين الشريفين، الذي شرف الاحتفال برعايته له، والذي يعرف المطلعون على سيرته والمشاهدون لإنجازاته أنه الجدير بنيل الجائزة

في مجال خدمة الإسلام. ومما زاد من بهجة الاحتفال أنه يتزامن مع مرور ثلاثين عاماً على بداية منحها، وأن حوالي سبعين من الفائزين السابقين بها في فروعها المختلفة قد مكنتهم ظروفهم من تلبية الدعوة لحضور المناسبة لتقر أعين الجميع بهم، وليشاركوا فيما رُتِّب من ندوات ومحاضرات.

لقد كان من توفيق الله لأبناء الملك فيصل، رحمه الله، وبناته أن أنشؤوا مؤسسة الملك فيصل الخيرية، التي أصبحت من المؤسسات العملاقة الخيِّرة النيِّرة. ومن جوانب ذلك التوفيق إنشاؤها جائزة الملك فيصل العالمية لتمنح تقديراً للجهود الرائدة النافعة للبشرية؛ دعوة طيبة أو فكراً نيِّراً أو ممارسة بناءة، وهي تُمنح في خمسة فروع: خدمة الإسلام، والدراسات الإسلامية، والأدب العربي واللغة، والطب، والعلوم. وقد فاز بها حتى الآن مائة وخمسة وتسعون من تسع وثلاثين دولة. وللمرأة دور في الجائزة محكّمة ومشاركة في لجان الاختيار العلمية، التي لها القرار النهائي في منح الجائزة وحجبها، وفائزة. وقد فازت بها - خلال مسيرتها - ثماني نساء: أربع في الأدب العربي، وثلاث في الطب، وواحدة في الدراسات الإسلامية.

ولكل فائز، أو فائزة، بجائزة الملك فيصل العالمية ريادة خاصة في إنجاز الكثير مما ينفع الناس ويمكث في الأرض مثرياً المعرفة الإنسانية العامة، ومعمقاً المعرفة التخصصية الدقيقة. وكل رائد من هؤلاء الرواد جدير بالحديث عن ريادته وإنجازاته، كما أن كل رائدة يطيب الكلام عن ريادتها وإنجازاتها، على أن المناسبة تغري بالحديث عن اثنين من الفائزين بالجائزة في مجال العلوم، وبخاصة علم الحياة، وهما البروفيسور ويلسون من جامعة هارفرد الفائز بها عام 1420هـ، والبروفيسور فينر من جامعة زيورخ الفائز بها هذا العام؛ ذلك أن إنجازاتهما العلمية الفذة - خلال أربعين عاماً - تركَّزت على النمل، تلك المخلوقات العجيبة في كل ما يخصها.

وفي القرآن الكريم سورة النمل، التي ورد في آياتها ما حدث من سليمان عليه السلام، والنمل. وفي التراث العربي، كما في المشاهدة، ما يثير الانتباه ويدعو إلى التأمل فيما وضعه الله - جلَّت قدرته - في تلك المخلوقات العجيبة من قدرات هائلة. وفي التراث الشعبي ما يشير إلى رأي شائع بأن النمل تقترب أعمارها من نهايتها عندما ينبت لها، وتبدأ تطير؛ ولذلك قال الشاعر المشهور عبيد بن رشيد في إحدى قصائده مخاطباً أحد خصومه:

شوري عليك عن المغازي والانكاف

ترى ذهاب النمل سعيه بتطيير

وكل مَن شاهد جرين مزرعة قمح ونحوه، وتأمَّل بيوت النمل هناك، يدرك أن الشاعر المجماج قد أبدع في التعبير عما يفعله الحب في قلبه عندما قال:

حبّه يخجّ القلب ما يوجع وجاع

لاشك قلبي مودعه بيت نمله

أما بعد:

فماذا عن العالمين اللذين أنجزا ما أنجزا من بحوث رائدة متناولة لحياة النمل وما يتصل بها؛ وهما البروفيسور ويلسون والبروفيسور فينر؟

وُلد البروفيسور ويلسون في أمريكا قبل ستين عاماً، ونال درجة الدكتوراه من جامعة هارفرد، وهو الآن أستاذ كرسي في تلك الجامعة العريقة، إضافة إلى إشرافه على متحف علم الحياة فيها، وعضويته في هيئات ومنظمات محلية ودولية متخصصة. وقد ألّف أكثر من عشرين كتاباً، أو اشترك في تأليفها، وعُدَّت خمسة من مؤلفاته من أكثر الكتب المقروءة في الأوساط العلمية والفكرية، كما نشر أكثر من أربعمائة بحث، وأشرف على عشرات من رسائل الدكتوراه. ولما يتمتع به من مكانة علمية مُنح خمساً وسبعين جائزة في العلوم والآداب والمحافظة على البيئة، وأُطلق اسمه على مؤسسة التنوع الإحيائي التي أُنشئت في نيويورك العام الماضي. وقد نال جائزة الملك فيصل العالمية سنة 1420 هـ - 2000م.

ولقد تعلَّق البروفيسور ويلسون - أو الدكتور نملة كما يسميه طلابه - منذ صغره بدراسة النمل، وتعلَّم منه دروساً مذهلة في السلوك وعلم الاجتماع.

وكانت البداية قراءته عبارة تقول: (لا تتعلم من الكتب بل تعلم من الطبيعة)، غير أنه تعلَّم من الطبيعة ومن الكتب معاً؛ فكان في النهار يراقب الحيوانات والطيور والأسماك، وفي الليل يقرأ عنها في الكتب. ولما كان في الثامنة من عمره تعرض لإصابة في عينه اليمنى أفقدتها الإبصار، فلم يعد قادراً على مشاهدة الحيوانات البعيدة، فركَّز على دراسة النمل، وحقّق أول إنجاز علمي له وهو في الثالثة عشرة من عمره حينما اكتشف النمل الناري، أو نمل جهنم، لأول مرة في أمريكا الشمالية.

وعرف بعد ذلك أكثر من ثلاثين ألف نوع من النمل، واكتشف أساليب التخاطب بينها، ودرس سلوكها وأسس مجتمعاتها. وتمدَّدت اهتماماته لتشمل مختلف المعارف، مثل بيولوجية النمو، والبيئات الحيوية، والمحافظة على الأنواع..

أما البروفيسور فينر، الذي نال جائزة الملك فيصل العالمية هذا العام، فوُلد في ألمانيا قبل ثمانية وستين عاماً، وحصل على الدكتوراه من جامعة زيورخ التي ما زال يدرس فيها منذ أربعين سنة. وقد تولى العديد من المهمات البحثية والإدارية في تلك الجامعة وخارجها، كما تعيَّن أستاذاً في جامعتي هارفرد وييل الأمريكيتين.

ويُعدّ من أعظم علماء بيولوجية الجهاز العصبي والسلوك. وقد ظل أكثر من ثلاثين عاماً يبحث في الكيفية التي تُمكّن النملة الصحراوية الفضية، التي لا يزيد وزنها على جزء واحد من الجرام، ولا يتجاوز وزن دماغها جزءاً واحداً من عشرة آلاف من الجرام، في تحديد الاتجاهات والملاحة في الصحراء الكبرى، وبيّن القدرات العصبية والبصرية المذهلة لتلك النملة. واكتشف أن لديها بوصلة دماغية تحدِّد الاتجاهات بواسطة أنواع من الأضواء السماوية التي لا تراها عين الإنسان، وأن لديها عدَّاد مسافات دماغياً يُسجل عدد الخطوات التي خطتها أثناء تجوالها، ومن ثم تقوم خلايا معينة في عينها ومخها بمعالجة تلك المعلومات وتنسيقها لتكوين دوائر كهربية عصبية في المخ تشبه الحاسب الآلي تجري عمليات حسابية، وترسم للنملة خريطة دماغية تمكنها من العودة إلى مسكنها بأقصر الطرق وأسرعها دون أن تضل الطريق، وقد سمَّى هذا النظام الدماغي الفريد ب(ملاحة المتجهات)، وصمَّم في ضوء ذلك إنساناً آلياً سمَّاه (روبوت الصحراء) لمحاكاته، وإرسال المعلومات إلى مختبر أقامه في الصحراء التونسية لتحليلها. ولقد فتحت دراساته الباب لدراسة وظائف المخ في الإنسان وذوات الثدي والطيور. ومما درسه سلوك النمل وقدرته الفائقة على تحمُّل الحرارة. واكتشف، أيضاً، أنواعاً من البروتينات الخاصة بتحمُّل الحرارة؛ ما قد يكون له نفع للإنسان. وقد تُرجمت كتبه إلى لغات عديدة، منها كتابه الذي ترجمة عنوانه: (ملاحة الحشرات بالأضواء السماوية)، الذي أهداه إلى عائلة بدوية تونسية تعرَّف عليها أثناء عمله في الصحراء التونسية.

وليس أمام كاتب هذه السطور - وهو يرى الإنجاز العلمي البالغ الدقة للعالمين اللذين تحدّث باختصار عن حياتهما وإنجازاتهما - إلا أن يختتم مقالته بقوله: جلّت قدرة الخالق البارئ المصوِّر، الذي أمر عباده بالتدبر في مخلوقاته، وقال: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}، وجل شأنه.

ففي كل شيء له آية

تدل على أنه واحد

لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5896 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد