Al Jazirah NewsPaper Tuesday  11/03/2008 G Issue 12948
الثلاثاء 03 ربيع الأول 1429   العدد  12948
شيء من
طه حسين
محمد بن عبداللطيف آل الشيخ

أول من كتب بالسهل الممتنع، البعيد عن التكلف، والصنعة، والمحسنات بالبديعية الممجوجة والمفبركة هو طه حسين. قد تختلف مع طه حسين في بعض آرائه وما توصل إليه في أبحاثه و(تنقيباته) في التراث الأدبي من نتائج، غير أنك لا تملك إلا أن تسلم له بأنه كان رائداً أدبياً لامعاً، حرك الثقافة التقليدية التي كان يغط في سباتها الناطقون بالعربية قبل أن يُعملَ فيها البحث والتنقيب، ويحفر في آثارها باحثاً وناقداً ومقارناً. وفي تقديري أنه أهم أديب عرفه القرن العشرون من الناطقين بالعربية في العصر الحديث.

ولعل أهم إنجازاته تكمن في الكتابة المعاصرة، حيث خلصها من التكلف والصنعة والتكرار والاجترار والسجع، وجعلها أميل إلى التلقائية والموضوعية. وأزعم أن كل من جاء من بعده تأثر بطريقة أو أخرى بأسلوبه في الكتابة. قبل طه حسين كان العرب لا يُفرقون بين لغة الخطابة ولغة الكتابة، كانت العلاقة بين الكاتب أو الخطيب أو الواعظ -لا فرق- وبين المتلقي هي علاقة (بث) وليست علاقة (استقبال)، بمعنى أنها لم تكن البتة علاقة حوار. طه حسين حولها إلى علاقة حوار، فأنت تكتب لتستمع، وتستمع لتكتب. (النسبية) أسها الأول، لا تعتمد على الصوت، ولا على المحسنات البديعية التي يلوكها الخطباء منذ قرون، بقدر ما كانت تعتمد على الرأي والرأي المضاد، وعلى اللغة العلمية المباشرة. كان التجديد عند طه حسين يعني أن تحترم فكر من يقف أمامك، وأن تجعله لك نداً، حتى وإن اختلفت معه، وأن تجهد لتفترض ما يمكن أن يدور في ذهنه لقاء ما تطرحه من رؤى، ثم تثيره على السطح دون خجل أو مواربة. البحث عن الأسئلة كانت مهمته التي نذر لها نفسه، وأفنى فيها حياته، لذلك كان لا يهتم بالإجابات قدر اهتمامه بالأسئلة.

بقي طه حسين علماً نادراً وبارزاً في تاريخ الكتابة بالعربية، بينما ذهب آخرون إلى التلاشي والنسيان. والسؤال الذي يطرحه السياق: هل كان له أن يصل إلى ما وصل إليه من ريادة لو أنه بقي صاحب فكر (كتاتيبي) يلوك ويجتر ويكرر أدب القدماء، وأقوالهم، وصيغهم، وأشعارهم، واستشهاداتهم كما يفعل بعض الناطقين بالعربية -وما زال أكثرهم- حتى الآن؟

والسهل الممتنع الذي كتب به طه حسين لم يكن مجرد أسلوب وصياغة بلاغية سهلة وجميلة فحسب، وإنما كان طريقة تفكير ونمط فلسفي، القراءة والبحث والتمحيص والنقد أداته الأولى في التعامل مع الماضي الموروث، والحاضر المشهود، هذا الأسلوب الذي طبع كتابات المثقفين العرب فيما بعد، سواء من يقفون معه أو من يقفون ضده، هل كان له أن يكون كذلك لو أن أنه بقي رهن الأزهر، وثقافة الأزهر، ولم يشد رحاله إلى الغرب، وإلى باريس تحديداً؟.. الانفتاح على الآخر، ورصده في محاولة جادة لفهمه، هو الذي صنع طه حسين وصنع تألقه وتميزه، وخلده في تاريخ الأدب العربي. هذا في تقديري أهم الدروس الحضارية، وأكثرها دلالة، التي يجب أن نقرأها في سيرة طه حسين بعمق وتروي.



لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6816 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد