Al Jazirah NewsPaper Tuesday  11/03/2008 G Issue 12948
الثلاثاء 03 ربيع الأول 1429   العدد  12948

داهية القرون يغيب الشيخ حمد الحقيل
أ.د.عبدالعزيز بن محمد الفيصل

 

الموت مفرِّق الجماعات وهادم اللذات، لا ينجو منه الصغير ولا يفلت منه الكبير، يَدْلِفُ إلى البيت المحَُصَّن كما يحل بالراقد في الصحراء، سُيُوفُه مُصْلِتَهَ، ورماحه مُصَوَّبَةَ، يتربص بمن حان يومه ودنا أجله بأمر من الرحمن الرحيم الذي قدَّر الآجال وجعل نهاية للأعمار في كتاب لا يعلمه البشر ولا يحيط به الإنسان، فنهاية عمر الإنسان مرهونة بعلم خالق السموات والأرض، ولو أن الموت يُدْفَعُ عن إنسان لدفع عن نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ولكنه قدر قدَّره الله. لقد تتابعت القرون والموت يحصد الأعمار والبشر ينظرون فالحيلة عاجزة والجهد قاصر.

واليوم يحل الموت بساحتنا فينزع علم التاريخ، وحَبر الفقه وموسوعة الأدب ووعاء الفصاحة، وموئل البلاغة، دانت له العربية ولانت له حروفها فإذا تكلم أنصت القوم، وإذا نطق هيمن على المسامع، تميل لمنطقه القلوب لقدرته على إدارة الحديث في المجلس وحسن المنطق وملاطفة المخاطب، فهو حلو الحديث سريع الجواب حاضر البديهة، يسرد أخبار الأوائل فلا يمل من قوله، ويورد القصيدة الطويلة فلا يَنِدُّ منها بيت، ويستحضر الآية الكريمة في موضعها والحديث الشريف في مكانه، يحفظ كثيراً من الأمثال والحكم مما يرضي الأذواق ويقنع العقول، وإذا شرع في الحديث عن سير النبلاء اجْرَهَدَّت له جَادَّةُ التاريخ ومهدت دروب القرون، فهو رجل التاريخ يحفظ أوله ويستحضر آخره، ينقلك بحديثه إلى حيث كانت المعركة ويصف لك تقلبات الأيام، فكأنك قد انتقلت إلى عصر غير عصرك، وإذا تحدث في الأنساب أعطاك ما تريد، ولا غرو في ذلك فهو من الأوائل الذين دونوا الأنساب، وكتابه في النسب طبع ثلاث عشرة طبعة؛ فهو من الكتب التي يبحث عنها القارئ. إن ذاكرة الشيخ حمد الحقيل - على كبر سنه - تذكرنا بذاكرة محمد بن السائب الكلبي والخليل بن أحمد الفراهيدي وأبي عمرو بن العلاء، لقد وعت ذاكرة حمد الحقيل الشعر والنثر والتاريخ وسير الرجال في هذا الزمن الذي لا نجد نظيراً له بعد موت الحَضْراني منذ ثلاثين سنة.

إن فقد الشيخ حمد القيل رُزْءٌ وأي رزء، رزء للثقافة والتاريخ والمجالس والأنساب، ولكن ماذا نقول وهو الموت الذي يدخل بدون استئذان، إنني أعزي أبناءه وتلامذته وكل من حضر مجلسه أو استمتع بحديثه - فإذا انتزعه الموت من بيننا فليس لنا إلا القول: {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} وكل حي سيغيبه الموت طالت أيامه أو قصرت، فهادم اللذات لا يُعرف له أوان ولا يُضرب له موعد:

الناس في غفلاتهم

ورحى المنيّة تطْحَنُ

كم من مؤمِّل عثرت به أماله، وكم من راجٍ

زلت به قدمه قبل الوصول إلى ما يريد:

وما أهل المنازل غير راكب

مطاياهم رواح وابتكار

الموت هو الحدث الذي لا يفرق بين الناس، يأخذ كبير القوم كما يأخذ غيره:

ألا ياموت لم أرَ منك بُدَّاً

أتيت وما تحيف وما تحابي

وإذا كان البقاء في الحياة مطلب للنفوس فإن الموت يقول للإنسان: الأمر ليس في يدك وأنا مأمور بقبض روحك فيستسلم الإنسان، ويعرف أن الدنيا زائلة:

ألا هل إلى طول الحياة سبيلُ

وأنَّى وهذا الموت ليس يقيلُ

لقد فقدناك أيها الشيخ الجليل (حمد بن إبراهيم الحقيل) في هذا اليوم الاثنين 2 من شهر ربيع الأول من سنة تسع وعشرين وأربعمائة وألف لهجرة خير البرية محمد - صلى الله عليه وسلم-، فنرجو لك - إن شاء الله- المنزل الأعلى من الجنة، ولا نقول في هذا الموقف إلا ما يرضي الرب من الدعاء لك بمغفرة الذنوب والقبول الحسن، وآخر ما نقول:

{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد