Al Jazirah NewsPaper Tuesday  25/03/2008 G Issue 12962
الثلاثاء 17 ربيع الأول 1429   العدد  12962
ملك الإنسانية أمام مجلس الشورى..حديث القلب إلى القلب
أ.د. سليمان بن عبدالله أبا الخيل / مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، نحمده على نعم لا تحصى، وآلاء لا تستقصى، ونسأله المزيد من فضله، ونصلي ونسلم على خيرة خلقه، وخاتم رسله، وصفوته من عباده، نبينا وقدوتنا محمد بن عبدالله وعلى آله وصحبه..

أما بعد:

ففي كل عام يتم مجلس الشورى سنة من دورته التي تستمر أربع سنوات، ويبارك خادم الحرمين الشريفين هذه المناسبة، ويتشرف رئيس وأعضاء المجلس والمواطنين بسماع الخطاب الملكي السنوي الذي يعد تأكيداً على هذا النهج الإسلامي المبني على الشورى، ودعماً لمسيرة الشورى، وتنويهاً بمكانتها ومنزلتها لدى ولاة الأمر - حفظهم الله -، وهذا الحضور المبارك، والإشراف المناسب من السياسة الحكيمة التي انتهجها مؤسس هذا الكيان العظيم وموحد هذه الجزيرة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن -رحمه الله-، حيث إنه لما دعا إلى الشورى كركيزة أساسية في حكمه، وأمر بتأسيس مجلس الشورى - بعد مراحل تعد نواة له - وافتتح دورته الأولى في 14-1-1426هـ كان يلقي خطاباً ملكياً يفتتح به أعمال كل سنة من فترات مجلس الشورى، وفي هذه المرحلة الجديدة من تاريخ الشورى العريق، التي أصبحت واقعاً حياً يلمسه كل مواطن في هذه البلاد، ويرى آثار قراراته السديدة الموفقة، وأصبحت الشورى نظاماً مطوراً، وأسلوباً متميزاً، وجهازاً إدارياً أساسياً في سياسة الدولة الداخلية والخارجية كان ولاة الأمر - حفظهم الله - هم من سدد هذه الحقبة المتميزة، ودعم مسيرتها منذ أن أعلن خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - تحديث الأنظمة في البلاد، وأعلن في خطابه التاريخي في 27-8-1412هـ عن إصدار الأنظمة الثلاثة: نظام الحكم، ونظام مجلس الشورى، ونظام المناطق، وكان خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز عضده وساعده الأيمن في تحمل هذه المسؤوليات الجسيمة، بل كان ينوب عنه في بداية أعمال بعض سنوات دورتي المجلس الثالثة والرابعة، ومنذ توليه - حفظه الله - وهو يولي المجلس عناية قصوى، ودعماً مشهوداً له أثره الفاعل المؤثر في تفعيل المجلس لتحقيق أهدافه، وكلمة خادم الحرمين الشريفين التي ألقاها أمام مجلس الشورى وهو يفتتح أعمال السنة الرابعة من الدورة الرابعة لمجلس الشورى هي مثال على هذه السنة الحميدة والمواقف السديدة، ولكنها مع ذلك حملت دلالات عظيمة، وإشراقات متميزة، إنها حديث القلب إلى القلب كما قال - حفظه الله -، ذلك أن المتأمل لهذه الكلمة الضافية، وما تحمله من دلالات، وما أشارت إليه من سياسة مضامين واسعة، تعتبر وثيقة أساسية، ينظر من خلالها المواطن العادي والمسئول سياسة هذه الدولة المملكة العربية السعودية، وموقفها تجاه قضايا الوطن والمواطن، وكذلك تجاه القضايا الإقليمية والدولية، ويعلم أن مليكنا المحبوب ملك الإنسانية أهم قضية تحتل أعلى مراتب الأولوية لدى جلالته هي قضية الوطن والمواطن، وتحقيق الرفاهية، والاستقرار والتنمية الشاملة وفق رؤى إستراتيجية بناءة هادفة بإذن الله.

ولعلي في هذه الكلمة أشير إلى أهم الدلالات التي تشير إليها هذه الكلمة الضافية، والمضامين التي تحملها، فأما أهم دلالاتها: فهي تشير أولاً: إلى أعظم نعمة نعيشها بعد نعمة الإسلام والأمن والاطمئنان، إنها نعمة القيادة الحكيمة التي تذكرنا بالخلافة الراشدة، فقائدنا خادم الحرمين الشريفين يرسم لنا ما كان الخلفاء الراشدون يفعلون من نقد الذات خشية تبعة الأمانة والمسؤولية إلى درجة القسوة المرهقة، إن أمة يقودها من يخاف الله ويخشاه، ويحمل هم هذه الأمانة الملقاة على عاتقه لأمة مرحومة، جديرة بكل مقومات التمكين والعز، لأن مثل هذه الصراحة الشديدة من جلالته - أيده الله - دليل إخلاص للأمة والوطن، وتجسيد للحمة بين القائد والمواطن، وهي من وجه آخر تستثير في نفس كل مواطن أن يقابل هذا الإخلاص بإخلاص أشد، ووفاء أعظم، وسريرة نقية، وتعامل صادق ناصح، ينطلق فيه المعنى الجامع الذي جعل النبي - صلى الله عليه وسلم- الدين كله فيه حينما قال: (الدين النصيحة) قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: (لله وكتابه ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم), وحينما نكون بهذه الصورة المثالية فنحن أحرى بالوصف الذي ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما قال: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ويصلون عليكم وتصلون عليهم).

ومن دلالاتها الأكيدة: مكانة الشورى في قلب خادم الحرمين الشريفين كمنهج إسلامي، وطريق سديد لإدارة شؤون البلاد، يتم من خلاله تفعيل مبدأ المشاركة المسئولة، والحرص على شمولية هذه المشاركة لتستجيب لتطورات العصر، وتواكب مستجداته، ولا أدل على ذلك من تخصيص هذه المناسبة بالرعاية والعناية، وتمييزها بهذا الخطاب المؤثر، المعبر عن الإخلاص الشديد، والصراحة والشفافية في مخاطبته المجلس برئيسه وأعضائه، ومخاطبة أبناء الوطن من خلاله.

ومن الدلالات الهامة: ما تظهره من عناية خادم الحرمين الشريفين بالوحدة الوطنية وتماسك البناء الداخلي، والحرص على رأب الصدع، ونبذ كل صور الخلاف، وهذا ما أكده خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - في مناسبات كثيرة، حيث قال إن ثمت أمرين لا يقبل فيهما مساومة الدين والوطن، وهذا ظاهر في مناداته - يحفظه الله- بنبذ النزاع، سواءً لبس هذا النزاع ثياب التطرف المذهبي أو الإقليمي أو القبلي، وإشارته - حفظه الله - إلى المنجزات الأمنية المتمثلة في التصدي للفئة الضالة المنحرفة، وتجفيف منابع تمويلها.

أما مضامين هذا الخطاب الملكي فهي كثيرة كبيرة، يمكن أن تجعل كل فقرة منه وثيقة هامة للانطلاق فيما يحقق النمو والارتقاء، والتطور والنماء لا من خلال مجلس الشورى فحسب، بل من خلال كل أجهزة الدولة، فيما سبق في الدلالات تدل على مضامين الخطاب الملكي، ويضاف إلى ذلك:

التأكيد على الاستقرار السياسي كمطلب أساس، للمحافظة على كيان الدولة، وتحقيق التطور والنماء، والقيام بالوظائف الدينية والدنيوية، وحماية المنجزات، ولا شك أن هذا المطلب هو رأس المطالب وأهمها، إذ لا يمكن أن يقام الدين، وتنشأ الحضارات، ويقوم الناس بمصالحهم إلا في ظل الاستقرار الذي أساسه التوحيد، ونبذ كل طريق يوصل إلى الشرك، كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (82) سورة الأنعام، وقد تضمن خطاب المليك المفدى ما يفيد تعاهد هذا الأصل الأصيل، والثبات عليه، والاستمرار على العهد الذي قام به الأجداد، وهذا الثبات والاستمرارية يشكلان ضماناً مستقبلياً يأمن به المسلم من الشرور والفتن والفرقة والاختلاف، ويصبح ما كان في عهد المؤسس الملك عبدالعزيز - رحمه الله - وقضى عليه حديثاً تتناقله الأجيال للذكرى، حتى لا ينتقض الأساس الذي تحقق بسببه هذه الصورة المثالية، مصداقاً لقول الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (55) سورة النور.

ومن المضامين الهامة للخطاب الملكي التأكيد على جانب رئيس وهام في حياة المواطن ألا وهو الحرية المسئولة وما أجمله من تعبير فليست حرية الفوضى التي تتولد في ظلها الانحرافات الفكرية والعقدية ولا الحرية التي لا تنضبط بميزان الشرع والعقل ومن ثم تصبح عبودية باطلة للأهواء والشهوات، وإنما هي حرية حقة تنبع من استشعار المسؤولية أمام الله ثم أمام المجتمع وتغلب المصالح العليا وتنطلق من أساس راسخ متين مبني على العبودية الحقة لرب العالمين وحينئذ تكون هذه الحرية ايجابية تحقق للمرء السعادة والطمأنينة، وتجعل منه رقيبا على تصرفاته.

إن هذه اللفتة الكريمة من خادم الحرمين الشريفين تعبير عن ما يفكر فيه المواطن وتنبيه على المسؤولية التي يتحملها، وتفعيل للمشاركة التي تؤسس على الترابط والتكاتف والتعاون والمحبة الصادقة والشعور بالواجب تجاه مكتسبات هذا الوطن الروحية والمادية، كما أنها من جانب آخر على مقومات المواطنة الصادقة التي ضعفت لدى البعض بسبب الأفكار الضالة والمبادئ المنحرفة وربما بعض التصورات التي لم تبن على أساس شرعي واضح.

ومن ثم فإننا أمام دعوة من إمام المسلمين للتنافس في ميدان الشرفاء ميدان تظهر فيه عزائم الرجال وتنجلي فيه جهود الإبطال إنه ميدان عزة هذا الوطن الإسلامي ورفعته لأن بها عز الإسلام والمسلمين.

ومن مضامين الخطاب الملكي: استعراض المنجزات الوطنية في الفترة الزمنية القريبة التي لا تتجاوز عاماً من سني هذا العهد الزاهر الممتد بإذن الله حيث تحققت تطورات قياسية على الصعيد السياسي، وذلك بإكمال منظومة نظام الحكم بإصدار نظام البيعة وتحديث نظام القضاء ونظام ديوان المظالم وكذا في المجال الاقتصادي التي شهدت اعتماد مشاريع جديدة تسهم في رفع معدلات النمو الاقتصادي وزيادة فرص العمل وفي قطاع التعليم والتدريب باعتبار أن هذا المجال هو أساس كل نهضة وتقدم ورقي في شتى المجالات، وفي المجال الحيوي المعاصر الذي يعتبر محل اهتمام الدول المتطورة مجال الطاقة والبيئة فقد عبر خادم الحرمين الشريفين عن اهتمام القيادة بهذا المجال المتمثل في دعم كل شأن محافظ على البيئة ورصد مبالغ كبيرة لتمويل البحوث المتعلقة بها.

ومن المضامين الهامة هموم المواطن التي تحتل مكانة عالية في اهتمام خادم الحرمين الشريفين حيث رصدت الانجازات مجموعة من القرارات التي تمثلت في إنشاء هيئات وإدارات حكومية وأهلية تعنى بشؤون المواطنين ومصالحهم حتى يعيش هذا المواطن في وطن العز والخير آمناً معززاً مطمئناً.

وأخيراً من المضامين الهامة التأكيد على منهج المملكة العربية السعودية الثابت فيما يتعلق بالعلاقات الدولية والشؤون الخارجية وعلى الأخص قضية فلسطين، تلك القضية التي مافتئت المملكة قيادة وشعباً تدعمها بكل الوسائل المتاحة سعياً إلى تحقيق العدل ورفع الظلم عن هذا الشعب حتى ينال حقوقه المشروعة.

وبعد: فهذه كلمات خادم الحرمين الشريفين الملك الإنسان والقائد الفذ والإمام المصلح والولي العادل الذي حدد في هذا الخطاب الملكي السياسية الحكيمة والمنهج السديد والقيم النبيلة والقرارات الإستراتيجية التي تقود المملكة إلى مصاف الدول المتقدمة.

وحقاً إنها كلمات من القلب نفذت وإلى كل القلوب وصلت، ويقيني أن كل مواطن يشعر بالفخر والاعتزاز والغبطة والراحة وهو يسمع هذه العبارات من خادم الحرمين الشريفين تفيض عليه هذه المشاعر وتشعره بالرضا وترسم له تطلعات القيادة للمستقبل القريب والبعيد..

فحييت يا خادم الحرمين الشريفين، وسدد الله خطاك وبارك الله مسعاك، وحماك الله من كل سوء ومكروه.. سر ونحن جنودك الأوفياء وإلى مراقي العز والعلا.

والله أسأل أن يديم علينا أمننا وإيماننا وولاة أمرنا وأن يوفقهم إلى كل خير ويحميهم من كل سوء ومكروه.. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.




 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد