Al Jazirah NewsPaper Friday  28/03/2008 G Issue 12965
الجمعة 20 ربيع الأول 1429   العدد  12965
العلمانية العربية المزعومة... وعلاقتها بالليبراليين العرب
د. عبدالله بن سعد العبيد

أعلم أن مقالي هذا سيغضب الكثير ممن يدعون فهمهم، سواءً لليبرالية أو العلمانية، ولكن دافعي فيما قمت ببحثه وجمعه ومحاولة استكشافه، هو توضيح مفهوم زعم وجود المدرسة العلمانية العربية، وتبيان الفروقات، ليس فقط في مفهوم الليبرالية الغربية وقرينتها العربية بل في انسياق الكثير

ولهثهم خلف مفهوم الليبرالية ومحاولة إلصاقها بهم ليتم استغلال إيجابياتها لتبرير وتمرير الكثير من أفكارهم ومفاهيمهم في محاولة للضغط على التيارات الأيديولوجية الأخرى من خلال ما توفره الليبرالية من إيجاد مساحة واسعة لتحرير العقل، واعتمادها التحليل المنطقي للأمور ناسين أو متناسين مفهوم الليبرالية الواسع الذي يحرر العقل بحق، لكن ضمن ثوابت عقائدية معينة بعكس المنهج العلماني الذي يعتمد حتمية تناقض العلم مع الدين، وذلك بالمفهوم الكلي لكل من العلم والدين، دون النظر إلى أي خصوصية لهذا الدين أو ذاك، أو بحث في أوجه الخلاف بين الدين الإسلامي الذي يراد عزله وبين المنهج العلمي التجريبي الذي كان قد نشأ أصلاً تحت مظلة الإسلام في عصره الذهبي؛ إذ لم يرد في التاريخ الإسلامي أي ذكر لاضطهاد العلماء باسم الإسلام، كما لم تنشأ خلال العصور الوسطى أي طبقة كهنوتية تخضع لسلطانها طبقة أخرى تسمى بطبقة العلماء، بل نجد أن معظم العلماء المسلمين الذين نقل لنا التاريخ إبداعهم العلمي في أي من فروعه، كانوا قد نشأوا على التربية الدينية السائدة في ذلك العصر، والتي تقضي بترسيخ القاعدة العلمية الدينية من علوم القرآن والحديث والفقه والعقيدة واللغة، قبل أن يتوجه طالب العلم لاختيار التخصص الذي يريده من علوم دينية أو تجريبية.

ولم يحدث أن اشتكى أي من علماء الإسلام من التناقض الذي يمكن أن يحدث بين عقيدته الإيمانية والتزامه بتعاليمها السلوكية والشعائرية، وبين أبحاثه وتجاربه في كافة ميادين العلم التجريبي والطبيعي.

أما ما ينسب للإسلام من اضطهاد للفلاسفة فهو أمر خارج عن نطاق المقارنة؛ إذ لم يكن حظر معظم علماء الدين الإسلامي للفلسفة إلا حظراً لدراسة العقيدة بأدوات الفلسفة اليونانية التي كانت قد نشأت في مجتمع وثني لم يحظ بنور الوحي والرسالة، وهو أمر لا يعدو أن يكون وضعاً للأمور في مكانها الصحيح، ولو أن البحث لم يتناول الإلهيات والغيبيات وظل مقتصراً على الجانب الطبيعي التجريبي، لما وجد في التاريخ الإسلامي شيء يذكر مما يتشبث به النقاد، علماً بأن الحظر الإسلامي للبحث الفلسفي لا يختلف في جوهره عن الحظر المطبق في الكثير من الدول الليبرالية اليوم على الفكر المناهض للثقافة الغربية.

تشكل الليبرالية الجديدة امتداداً لليبرالية الكلاسيكية التي نشأت في وسط أوروبا إبان عصر النهضة، والتي تعد بمثابة تيار فكري أيديولوجي متكامل يتناول كافة أشكال الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، كما يمتد ليشمل المناهج العلمية والفكرية ويحدد أدواتها وآلية عملها.

وتعود نشأة الليبرالية الجديدة إلى منتصف القرن الميلادي الماضي، كرد فعل لفشل الليبرالية الكلاسيكية في تجنيب العقل الأوروبي تبعات التطرف العقائدي، والذي استفحل مع بروز الحركات الفاشية والقومية، وحتى الشيوعية التي خرجت كسابقاتها من رحم الفلسفة المادية، وهي المرجعية الأم للعقل الأوروبي الحديث بكافة أطيافه.

ولكي نوضح الفرق الكبير بين الليبرالية الغربية وصورتها المستوردة في العالم العربي الإسلامي، لا بدّ أن نعود لقراءة بداية الليبرالية الغربية انطلاقاً من حقيقة رئيسة مفادها أن الليبرالية الغربية كانت قد نشأت في ظل ظروف سياسية واجتماعية خاصة، وأنها ظهرت كرد فعل للاضطهاد الكنسي للعلماء من جهة، وللاستبداد السياسي والاقتصادي من قبل النبلاء والإقطاعيين من جهة أخرى.

وعبر تحالف السلطتين الدينية السياسية والإقطاعية التي تمكن من خلالها رجال الدين المسيحي من فرض سلطانهم على العقلية العلمية الأوروبية، وحرموا بالتالي على العلماء والمفكرين الخوض في الكثير من القضايا التي أعطيت صفة القداسة، ومن ذلك الاضطهاد الذي تعرض له الفلكي الإيطالي غاليليه لادعائه دوران الأرض حول الشمس وليس العكس، وهو الأمر الذي يتناقض مع رأي الكنيسة التي تبنت نظرية بطليموس وألبستها صبغة القداسة، في الوقت الذي تحركت الطبقة البورجوازية حديثة النشوء للتحالف مع العمال والفلاحين في سبيل إحلال الفكر الليبرالي الذي يحقق للفرد حريته وكرامته وأيضاً للتحرر من الإقطاعية التي كانت قد أخضعت الطبقة العاملة لنظامها الطبقي الجائر.

وفي المقابل، فإن واقع مجتمعنا الشرقي الإسلامي يكاد يختلف جذرياً عن هذا النموذج الأوروبي، فضلاً عن الفرق الكبير في المنهجين الفكري والسلوكي لدى الليبراليين العرب عما هو متعارف عليه في الليبرالية الغربية، وسنسعى لتوضح ذلك من خلال المقارنة التالية بين الطرفين:

1- كانت بداية النهضة الأوروبية مع حركة العلمنة التي تعني تحرر العقل العلمي من سلطان الكنيسة الجائر، وإعفاءه من الالتزام بالولاء لما يتناقض مع أولى بديهياته، ونادت بإطلاق حرية العقل في التجريب والملاحظة بعيداً عن المسلمات الأولية المتناقضة في النصوص الدينية، ولم يكن ذلك يعني التملص من الإيمان الديني عند معظم أتباع المدرسة العلمانية، بل كانت حركتهم موجهة نحو تخليص العقل من سلطان الكنيسة لعدم إمكان الجمع بينهما، وبالتالي عزل الإيمان الغيبي (الميتافيزيقا) عن الواقع التجريبي المحسوس؛ ما يعني أن حركة التنوير الأوروبية قد قامت وفق تسلسل مرحلي تلقائي بدءاً من العلمانية ثم الليبرالية وأخيراً الديمقراطية، بحيث لا يمكن عزل أي مرحلة عن الأخرى أو تجاوز اللاحقة منها للسابقة.

أما في الشرق فقد عمد أتباع الليبرالية العربية إلى اختزال المراحل التسلسلية السابق ذكرها من تطور الحركة التنويرية من العلمانية والليبرالية إلى الديمقراطية بشكل فاضح؛ إذ ينادي معظم الليبراليين العرب بضرورة التطبيق الفوري والراديكالي للمفهوم الليبرالي الديمقراطي الغربي دون تغيير، وكأنه وصفة سحرية يمكن من خلالها حل معضلات العالم العربي بشكل فوري.

2- يظهر من سرد التسلسل المرحلي السابق ذكره أن نشوء العلمنة كان لتخليص العلم من سلطان الكنيسة؛ ما أدى إلى بروز الفكر العلماني وتغلبه على أيديولوجيا التسليم بالمطلق ومنح العلم صفة النسبية وتطلع الفرد للتحرر من نيران الإقطاع، وتحالف البورجوازية الناشئة مع الطبقة الكادحة التي أصبحت أكثر وعياً وثقافة؛ ما أدى بالتالي إلى تقلص سلطات الإقطاعيين ومنح الطبقات الدنيا حرية العمل والتملك.

أما في النظام السياسي - الاقتصادي الإسلامي، فعلى الرغم من انحسار التطبيق العادل لتعاليم الإسلام في مراحل متعددة من التاريخ السياسي الإسلامي، إلا أن إلباس هذا التاريخ حلة الإقطاع الأوروبي ليس إلا محض عبث، خصوصاً أن علماء الدين الإسلامي كانوا يشكلون صف المعارضة الأول للاستبداد السياسي على مر العصور، ولم يكن التحالف المزعوم بين الفريقين على الشكل الذي يراد له أن يكون في قراءة الليبراليين لهذا التاريخ، فضلاً عن أن النظام الاقتصادي في المجتمع الإسلامي لم يكن إقطاعياً من أي وجه، ولا يمكن تبرير هذه القراءة للتاريخ بالنظر إلى أملاك السلطان وأصحاب الجاه مع غض الطرف عن الحرية الاقتصادية في العمل والتملك، وانتشار الأوقاف التي كانت تزيد على كل ممتلكات السلاطين على مر العصور، وهذا أمر يتنافى مع أولى بديهيات الإقطاع.

3- إثر ذلك التغيير العقلي والاجتماعي في المجتمع الأوروبي نشأ النظام الديمقراطي كتطور تلقائي ليحل بديلاً عن نظام التوريث الإقطاعي الملكي، وما كان ذلك ليحدث لولا تغلغل الفكر العلماني الليبرالي في المجتمع، والذي أشاع مبادئ الحرية الفردية وحق تقرير المصير؛ ما أدى إلى تدخل الأفراد في انتخاب السلطة الحاكمة، وبالتالي نشوء النظام الديمقراطي القائم على الاقتراع ورأي الأغلبية.

وفي المقابل نجد أن الليبراليين العرب قد تجاوزوا كل هذه المراحل، سعياً لإحلال النظام السياسي الديمقراطي دون التعرض لليبرالية الأيديولوجية وسياقها التاريخي، بل لم يجد البعض ضيراً في الاستعانة بالخارج والاتكال على الغرب لإحلال هذا النظام بالقوة إن دعت الحاجة، دون التعرض لحقيقة نوايا هؤلاء الحلفاء وأطماعهم في المشرق الإسلامي التي لا يخفيها الغرب نفسه والشواهد والبراهين على حالات الاستعانة والاتكال كثيرة مما يحدث الآن وما حدث خلال الحقب الزمنية القريبة الفائتة.

4- لم يرد فيما قرأت عن تاريخ النهضة الأوروبية أن أحداً من مفكري الليبرالية الغربية قد أقام مقارنة ذهنية بين المجتمع الأوروبي الذي ينتمي إليه وأي من المجتمعات الأخرى، كما لم يبادر أي منهم لاقتباس أي نظام سياسي أو اقتصادي من الخارج لإحلاله في أوروبا، سواءً كان ذلك من جهة الاقتباس والإفادة من مجتمع يبادله الشعور بالندية أو من جهة التقليد القائم على الشعور بالنقص.

أما الليبرالية العربية فعلى النقيض من ذلك تماماً؛ إذ لم يسع مفكرو أي أمة من الأمم النامية في العصر الحديث إلى إنشاء نظام سياسي أو اقتصادي مستقل بل ذهبوا إلى محاولة استنساخ للعقلية الغربية ومحاولة إحلالها كبديل عن الواقع المحلي، وبالشكل الذي ينادي به الليبراليون العرب منذ بداية ما يسمى بحركة النهضة العربية.

5- الليبرالية الغربية تقتضي نسبية الحقيقة والموضوعية في النظر والقياس، ولعل إحدى أهم سمات العقل الليبرالي تتلخص في تجريد العقل وحياده، وتنزيهه عن الأفكار المسبقة والصور النمطية للأفكار والتصورات، ومنحه الحق في التجريب والقياس والنقد لكافة الظواهر دون تحيز؛ فالليبرالي الغربي يؤمن بأن مرجعيته هي العقل وحده، سواء كان العقل غربياً أم شرقياً، مع تحيز في الكثير من الحالات للعقل الغربي انطلاقاً من مركزيته الأوروبية. أما الليبرالي العربي فقد وقع في الفخ الذي نصبه لخصومه (الإسلاميين)؛ إذ نجده لا يقل تمجيداً وتقديساً لمرجعيته الليبرالية إلى حد يكاد يكون فيه مسلوب الإرادة أمامها؛ ففي الوقت الذي يأخذ فيه على (الإسلامي) تقديسه للنص الديني واعتماده التراث كمرجعية مطلقة، يظل هو متمسكاً بنصوص ومبادئ كبار مفكري العقلانية الأوروبية.

وهكذا فإن المفهوم الليبرالي العربي للغرب لا يتعدى كونه مفهوما ذاتياً لا موضوعياً، بحيث تقتصر دراسة المجتمعين الإسلامي والغربي على تقصي النواقص في الأول، وتلمس المزايا في الثاني، وكأن الأمر لا يخرج عن آلية المفاضلة لنقل الأول إلى الثاني ليس إلا، وبغض النظر عن تفهم حاجة الأول، وأخطاء الثاني.

وهذا فخ آخر يقع فيه الليبرالي العربي، ففي الوقت الذي يلوم فيه (الإسلامي) على استسلامه لعقدة المؤامرة التي تحكم نظرته للآخر، يكاد هو يحصر مفهومه عن الآخر في نطاق التمثل والتقليد، وإذا كان الأول يحاكم الآخر انطلاقاً من الثقة بالذات، فإن الثاني يحاكم الذات انطلاقاً من انهزامه أمام الآخر، وهذا الأمر يتناقض أيضاً مع واحدة من أهم مسلمات الليبرالية التي تنظر إلى كل من الذات والموضوع بحياد ونزاهة.

المؤسف حقاً ليس في فهم أتباع الليبرالية العرب لأصول نشأة الليبرالية وتتبع تطورها في صورتها الغربية الحقيقية، وإنما في امتطاء كثير منهم لصهوتها بغية تحقيق انتصار وقتي زائف وتمرد لحظي هش على الخطاب الديني دون اكتراث لما يمكن أن يحدثه ذلك من خلل في التركيبة الفكرية الأيديولوجية لديهم؛ إذ يذهب الكثير للدفاع المستميت عن مرجعيتهم المزعومة وانتمائهم الزائف دون تحليل موضوعي منطقي لبديهيات هذا التيار أو هذا الفكر؛ ما جعل أتباع التيارات الفكرية الأخرى يسارعون في كيل التهم جزافاً دون فهم أيضاً لكل من يخالفهم الرأي؛ ما أدى إلى ظهور مواقف كثيرة تم ترجمتها إلى واقع محسوس من الخلاف الفكري الذي لن يزيد الأمة إلا دماراً، فنجد هذا يتهم الآخر بأنه ليبرالي وآخر علماني وثالث أصولي وهكذا. وعلى الرغم من تحفظي الشديد وغيري على نسب الفكر لصاحبه كأن يقال فلان علماني والأصح أن يقال فلان يتبع الفكر أو التيار أو المدرسة أو المذهب العلماني، إلا أن ذلك ليس بأهمية قراءة مفهوم ما نسب إليه الشخص قبل اتهامه بذلك؛ فليس كل من طالب بالتحليل والمنطق والدراسة أصبح متحرراً أو ليبرالياً وليس كل من ألحد أصبح من أتباع الفكر العلماني وليس كل من تمسك بتعاليم الإسلام أصبح أصولياً.

ختاماً، فإن الليبرالية الغربية لم تنشأ في أوروبا إلا بعد أن قطعت مرحلة طويلة من التطوير والتحديث، وكان الدافع لوجودها هو حاجة الفرد الأوروبي إلى ذلك النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي يضمن له حريته وكرامته، ويوفر له حاجاته المعيشية بشكل متوازن. وعليه، فقد كان حريّاً بالليبراليين العرب؛ إذ رفعوا شعار تحقيق مصالح الفرد العربي والدفاع عن حقوقه، أن يمعنوا النظر أولاً في خصوصيته وظروفه التي تحيط به، وأن يتجردوا وفقاً للمفهوم الليبرالي من كافة المعطيات المسبقة التي تلقفوها عن الغرب، ثم يعملوا عقولهم في استنباط نظام ليبرالي حر يكفل تحقيق كافة حقوق الفرد العربي، ويؤمن له معيشة كريمة لا يعاني فيها من أي تناقض مع إيمانه الغيبي أثناء تفاعله مع معطيات الحياة اليومية. وعندئذ يمكن لغير الليبرالي العربي أن يطمئن في حواره مع من يدعي الليبرالية بأن الحوار سوف لن يكون عقيماً.

روي عن حكيم قال لأحد الوزراء: ما العلم الأكبر؟ قال: الطب، وإني أعرف منه أكثره. فسأله الحكيم عن كيفية علاج شخص مصاب بالحمى، فقال: دواؤه أن يموت حتى تنخفض درجة حرارته، ثم يعالج بالأدوية ليعود حياً. قال الحكيم: ومن يحييه بعد الموت؟ قال: هذا علم آخر وجد في كتاب النجوم ولم أنظر في شيء منه إلا في باب الحياة، فإني وجدت في كتاب النجوم أن الحياة للإنسان خير من الموت. فقال الحكيم: أيها الوزير، الموت على كل حال خير للجاهل من الحياة.

وقال أحدهم لمملوكه: اخرج فانظر هل السماء مصحية أو مغيمة، فخرج وعاد فقال: والله ما تركني المطر أنظر هل هي مغيمة أم لا. والله من وراء القصد.



dr.aobaid@gmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد