Al Jazirah NewsPaper Saturday  29/03/2008 G Issue 12966
السبت 21 ربيع الأول 1429   العدد  12966
الصين واقتصادها المنكمش العجيب
إسوار براساد

أعلن البنك الدولي مؤخراً أن الحجم الحقيقي للاقتصاد في كل من الصين والهند أقل بنسبة 40% عن التقديرات السابقة، وبما أن هذين البلدين هما الأسرع نمواً بين البلدان ذات الاقتصاد الضخم على مستوى العالم، فقد اختصر البنك في تعديله نصف نقطة مئوية من النمو العالمي طيلة السنوات الخمس الماضية، طبقاً لصندوق النقد الدولي.

أثارت هذه الأرقام الجديدة عاصفة نارية من المناقشات، وجلبت إلى السطح نظريات المؤامرة، ولكن بعد أن تهدأ الأمور ويستقر الغبار فقد يتبين أن البيانات الجديدة أقل ثورية مما يتصور بعض الناس، وقد يترتب على هذه البيانات الجديدة فائدة غير متوقعة، تتمثل في تحول الحوار السياسي الرئيسي نحو اتجاه أكثر إيجابية.

تستند البيانات الجديدة إلى تقديرات محسنة لمعادل القوة الشرائية، وتتلخص الفكرة الأساسية هنا في أننا حين نقارن الدخول عبر البلدان، فلا بد من أن نضع في حسباننا الاختلافات في القوة الشرائية من بلد إلى آخر، ولا تشكل أسعار صرف السوق مؤشراً جيداً لهذه الاختلافات؛ لأنها قد تتقلب لأسباب أخرى.

عمل البنك الدولي وبعض المنظمات الأخرى مجتمعة على جمع كميات هائلة من المعلومات - التي غطت عشرة آلاف منتج متشابه في 146 دولة - بهدف بناء قاعدة أسعار دولية متشابهة، ولقد تبين أن مستويات الأسعار في الصين والهند بين دول نامية أخرى أعلى كثيراً من التقديرات السابقة، وعلى هذا فإن مستويات دخل الفرد في هذه البلدان أقل مقارنة بنظيراتها في دول أخرى.

رغم هذا الانكماش الهائل إلا أن الحقيقة على الأرض لم تتغير، فقد أبدى الناس في بكين ودلهي قدراً من الاتزان والهدوء قد لا يتمتع به غيرهم في أي مكان من العالم إذا ما تقلصت دخولهم فجأة بنسبة 40%. والخلاصة هنا أن الصين والهند ما زالا بلدين يتمتعان باقتصاد ضخم وسريع النمو، ويستهلكان كميات هائلة من الموارد، وكل ما تغير هو أن البلدين أصبحا يلعبان دوراً أصغر حجماً على المسرح العالمي.

بيد أن الحجم لا يشكل وحده كل الأهمية؛ إذ إن البيانات الجديدة تتدخل أيضا في تقييم مدى الفقر ومستوى سعر صرف العملة، وهنا يبرز الدور الذي تلعبه نظرية المؤامرة.

إن انكماش مستويات الدخل نسبة إلى الأسعار الدولية يعني أن العديد من الناس في الصين والهند أصبحوا الآن يندرجون تحت تصنيف (فقراء) الأمر الذي يشكل نعمة بالنسبة للبنك الدولي الذي تتلخص مهمته الأساسية في مكافحة الفقر.

فضلاً عن ذلك فإن الحقيقة التي تؤكد أن سعر صرف السوق في الصين كان أقل كثيراً (أكثر من يوان عن كل دولار) من أسعار الصرف المعدلة طبقاً لمعادل القوة الشرائية تُفَسِّر باعتبارها دليلاً على تدني التقييم عن حقيقته بصورة هائلة، أما البيانات الجديدة في المقابل فإنها تظهر أن سعر صرف الرينمينبي (عملة الصين) نسبة إلى الدولار صحيحة تقريباً.

قد تخضع الحسابات لبعض التطويع، ولكن من الصعب أن يصل هذا التطويع إلى الانخفاض الهائل في التقييم، والذي بلغ 40 - 50% ولقد أدى هذا إلى إثارة الاتهامات التي تقول إن المدافعين عن الصين هم الذين طبخوا هذه الأرقام الجديدة.

إلا أن نظريات المؤامرة بعيدة كل البعد عن الواقع، فقد انخرط البنك الدولي في جهود مخلصة لإحراز التقدم فيما يتصل بقضية على قدر عظيم من التعقيد، بطبيعة الحال هناك بعض الثغرات في البيانات الجديدة، على سبيل المثال تعتمد البيانات الخاصة بالصين على دراسات مسح أجريت في 11 مدينة فقط. كما تم تقدير الأسعار في المناطق الريفية - حيث يعيش ثلثا سكان الصين - استناداً إلى هذه البيانات. وهذا يعني أن الأمر لم يخلُ من التخمين، رغم تبني أسلوب نظامي منضبط، إلا أن الحسابات السابقة كانت تعتمد على قدر أعظم من التخمين على أية حال.

أياً كانت استنتاجاتنا فيما يتصل بهذه البيانات، فإن أعداد الناس الذين يعيشون في ظل ظروف سيئة في هذه البلدان ضخمة إلى حد غير معقول، أما فيما يتصل بسعر الصرف، فإن معادل القوة الشرائية يشكل وسيلة واحدة بين عدة وسائل لحساب مستوى توازن سعر الصرف، وبالنظر للفائض الهائل في الحساب الجاري لدى الصين (12% من الناتج المحلي الإجمالي)، فما زالت قيمة الرينمينبي أقل من حقيقتها.

بيد أن درجة الانخفاض عن القيمة الحقيقية ليست مقصدنا هنا.

إن الصين بحاجة إلى سعر صرف أكثر مرونة وقادر على الاستجابة بقدر أعظم من الحرية لقوى السوق، وإلا فإن البنك المركزي الصيني لا بد وأن يركز على إبقاء سعر الصرف مستقراً وألا يتبنى سياسة نقدية مستقلة حقاً.

إن المزيد من المرونة من شأنه أن يساعد في الوصول إلى نمو أكثر توازناً وأعظم قدرة على الاستمرار؛ إذ أن هذا سوف يسمح للبنك المركزي برفع أسعار الفائدة بصورة حادة بهدف السيطرة على الائتمان ونمو الاستثمار، والتحكم في التضخم في ذات الوقت، فضلاً عن ذلك فإن رفع أسعار الفائدة على الودائع المصرفية، والتي أصبحت الآن سالبة قياساً إلى الأسعار الحقيقية، من شأنه أن يقلل من الحوافز التي تدفع الأفراد إلى صب الأموال في أسواق الأوراق المالية أو العقارات، وبالتالي تخفيف خطر ظهور الفقاعات في سوق الأصول ودورات الازدهار والانخفاض في الاقتصاد.

في المقابل سنجد أن محاولة تحديد المستوى (المناسب) لسعر الرينمينبي تشكل لعبة غير مجدية، كما أصبح اقتراح رفع القيمة بالتدريج من أجل الوصول إلى ذلك المستوى بمثابة تشتيت جدلي.

ربما تنجح البيانات الجديدة في تهدئة النبرة المتحمسة بشأن انخفاض قيمة عملة الصين عن حقيقتها ومسألة استغلال العملة، والانخراط بدلاً من ذلك في مناقشة واقعية بشأن مرونة سعر الصرف والفوائد المترتبة على ذلك بالنسبة للصين والعالم.

* أستاذ التخطيط التجاري بجامعة كورنيل، ورئيس قسم الصين سابقاً لدى صندوق النقد الدولي.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2008م. (خاص بالجزيرة)
www.project-syndicate.org



 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد