Al Jazirah NewsPaper Monday  21/04/2008 G Issue 12989
الأثنين 15 ربيع الثاني 1429   العدد  12989
من الجاني ومن الضحية.. الإرهاب أم النظام الدولي؟
د. عبدالرحمن الحبيب

لا يمكن أن يكون هذا الحادث حقيقة! إنه أمر لا يصدق، هو أكبر من الخيال! أعتذر لكم فأنا غير قادر على التعبير عما أراه! أعرف أننا كمراسلين ينبغي أن نصف ما نراه، لكن الكلمات تعجز عن الوصف! يا إلهي هل هذا مقطع من أفلام هوليوود؟ هل أنا في حلم؟

هذه التعبيرات كانت تصدر من مراسلي أهم الفضائيات العالمية خلال الهجوم الانتحاري على برجي التجارة بمنهاتن في صباح الحادي عشر من سبتمبر2001م.. إنها الصورة حين تكون أكبر من الواقع.. إنها ما فوق الحقيقة حسب تعبير المفكر الما بعد حداثي جان بودريار!

والصورة لا تقل التباساً في الحرب على العراق وكأننا نشاهد ألعابا إلكترونية: قصف لا يخطئ وتطهير ناعم لعدو متوحش.. لن يقلق الضمير العالمي في هذه المعادلة الطاهرة.. وسائل الإعلام المرئية تخلق الخيال، تجعله حقيقة أكثر من الحقيقة مع بعض الخلط بين الأحداث والتواريخ وضعف أو فقدان الذاكرة التي ستحل محلها الصورة.. وما يقوم به الإعلام ليس مؤامرة بل هو منساق مع الأحداث ولاهٍ بتصويرها..

وحين نصل لأهم أحداث الإثارة: ليلة القبض على صدام حسين! زعيم دكتاتور شرس مغوار أشعل حروباً هزت العالم وألهب مشاعر مئات الملايين معه أو ضده أو الاثنتين معا، يتم اقتناصه في جحر قصي، أشعث أغبر رث الملابس، ويتلمسه جنود هامشيون يعاينونه ككائن بدائي مبتذل.. نسينا مدى مخالفة ذلك التصوير لحقوق الأسرى، نسينا أن الذي يحمل الكاميرا هي كتف العدو! فصدمة الصورة تفوق التصور!

ولا يتوقف السيناريو عند القبض على أحد أبطال الملحمة، بل يمر إلى محاكمته فيلتبس علينا الأمر، هل نحن في مسرح إغريقي قديم، هل هؤلاء ممثلون؟ ويعبر السيناريو على صور الذبح اليومي بأقسى ما يعرفه البشر، يقتل الأخ أخاه في عراق التسامح الديني، ويُرمى الرصاص على صدور البشر حسب الهوية المذهبية في عراق حضن كافة الأديان عبر التاريخ.. وصور قطع الرؤوس بالسكاكين تدخل كافة البيوت دون استئذان.. إنها الصورة حين تكون أقسى من الجاني!

ونصل إلى فصل مرعب من الملحمة في ليلة عيد الأضحى.. يتم البحث عن أضحية!! يُقاد صدام حسين مكبلاً إلى المشنقة، بهيئته المهيبة وطوله الفارع، تطبق عليه أيد مترددة، أجسام مرتبكة ووجوه مقنعة، لا تدري هل هي تخفي وجوهها أم إنسانيتها؟ رغم أن قانون المحكمة يحرم تنفيذ العقوبة في العطل الرسمية والأعياد الدينية للمحكوم عليهم.. وفي لحظة الموت يطلق الرئيس المخلوع شهادته الأخيرة للحياة، يطلقها بتراجيديا جعلت بعض خصومه يتغنى شعراً بأمجاده.. ثم ينقل الجثمان إلى قريته بطريقة مثيولوجية في ظلام بارد قبيل الفجر ليصلى على جثمانه بنحيب مكتوم..

ماذا فعلت الصورة في عقولنا؟ كيف تحولت الصورة إلى أصل، وتحول الأصل إلى عاكس للصورة؟ كيف غدت الحقيقة انعكاسا للصورة، والخيال أصلا للواقع؟ كيف أصبحت القرارات وردود الفعل والأحداث تبنى على الصورة.. حتى وصلنا إلى ما وصفه بورديار: (كدنا أن نقول إن الحقيقة أصبحت غيورة من الخيال وأصبح الواقع غيورا من الصورة)!

الصورة جزء بسيط من أحد مستويات الحقيقة المرئية أو البصرية.. لكنها أصبحت أكثر حقيقية من الحقيقة! ففي مسألة بقاء الحدث في أذهاننا فإن الوقائع التي لا تلتقطها الصورة تعتبر غير موجودة!! أو كما تقوم فلسفة بورديار: (الأشياء لا تحدث إذا كانت غير مرئية)، وعلى أساس هذه الفلسفة النفسية، كتب مقالته المشهورة في الجاردين ليلة الحرب (حرب الخليج التي لم تحدث) عن حرب الخليج 1991م، وحتى بعد وقوع الحرب اعتبرها حرباً لم تحدث فعلاً! وأن ما حدث هو حرب صور متلفزة.. فقوة تأثير وسائل الإعلام وهيمنتها أفضت إلى ما فوق الحقيقة..

كيف يكون شيء ما أكثر حقيقة من حقيقته؟ إنه تداخل التفكير مع الوقائع المتتالية ومع الخيال.. فالخيال ليس أقل واقعية من الواقع، بل هو أكثر استمرارية.. ألم يقل الفيلسوف برجسون: (عندما لا أعترف بالواقع، فذلك لأنني مستغرق في الذكريات التي طبعها الواقع ذاته على نفسي). هذا الخيال مع صور الأحداث المتتالية وتفاعلها في بيئة الهيمنة الإعلامية، يجعل الحدث مكثفاً أو يجعله حدثاً أكبر من الحدث نفسه في المخيلة.. يجعل صورة الإرهاب أكبر من الإرهاب، وصورة الجنس أكبر من الجنس، وصورة المتعة أكبر من المتعة نفسها.. فيصبح الخيال هو ذات الشيء، بينما الواقع شيئا مفقودا..

ما الذي يجري في هذه الحرب التي طالت في العراق ويقال إنها ضد الإرهاب؟ هل هي حرب لا مرئية على حد تعبير دوبريه صاحب كتاب (حياة الصورة وموتها) أم هي العولمة حين تقاتل نفسها كما وصفها بودريار، الذي يراها عولمة متوحشة أنتجت الإرهاب وصنعت قاعدة بن لادن وهجومها المباغت، ليس عن طريق المؤامرة أو التواطؤ أو خطة مسبقة، بل إن شبكة العولمة بهيمنتها وسلطتها أنشأت الشروط الموضوعية لهذه الأعمال الإرهابية العنيفة، وهو إرهاب ضد إرهاب، فليس ثمة أيديولوجيا أو قضية واضحة لكلا الطرفين، سوى أن النظام العالمي الجديد بعد نهاية الحرب الباردة، يتطلب وجود عدو لكي يستمر.. فالتخويف من الإرهاب يعادل الخوف الذي كانت تسببه الحرب الباردة.. فالإرهاب لم يُسقط العولمة اقتصاديا ولا سياسيا، بل ربما يدعم العولمة..

وفائض القوة الأمريكي يحتاج للتصريف في حروب تُظهرها بصورة عادلة ومشروعة.. والعدو في هذه الحرب ينبغي أن يظهر بصورة المتوحش البدائي، وربما المختبئ بالكهوف، لتكون الحرب عليه نظيفة وطاهرة ومدعومة شعبياً، والأمريكيون حسب بودريار بحاجة لأن يكونوا ضحايا يتعاطف العالم معهم، فلم يكن أفضل من الهجوم على مركز التجارة العالمي، فهنا تصبح أمريكا هي الضحية وفي حلٍّ من دماء أعدائها، ولا مفر من الحرب..

ونكرر، هذا لا يعني أن أمريكا أرادت لأحداث 11 سبتمبر أن تقع، لكن وقوعها أتاح الفرصة لحرب تريدها الإدارة الأمريكية وتخطط لها حسبما يقول الكاتب البريطاني جون لوكاريه، أشهر كُتَّاب روايات التجسس في العالم، الذي يرى أيضاً أن هذه الحرب جاءت بموازنات إضافية ضخمة تقدر بمئات المليارات، وسهلت فوز الرئيس الأمريكي في الرئاسة الثانية..

كل هذه التصورات التي سقتها تحاول مناقشة سؤال الإرهاب واحتلال العراق بإجابة على طريقة بورديار، باعتبارها إحدى الطرق التأملية العميقة لفهم عجائب ما يجري.. فمن الجاني ومن الضحية، الإرهاب أم النظام الدولي الجديد؟ ورغم غرابة أو طرافة طرح بورديار، إلا أنني أظن أن من المهم أخذه في الاعتبار في محاولة لإضاءة جوانب في مسألة الحرب على الإرهاب التي يبدو أنه سيطول أمدها، بل يتوقع بورديار أنها ستبقى ما بقي النظام الدولي الجديد، لقد توفي بورديار العام الماضي وما زالت الحرب حيَّة!



لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6848 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد