Al Jazirah NewsPaper Thursday  08/05/2008 G Issue 13006
الخميس 03 جمادى الأول 1429   العدد  13006

فيض الضمير
في أغمات مع المعتمد بن عباد (2 - 4)
د. محمد أبو بكر حميد

 

عجبت لمنظر الدار الرائعة التي حوت ضريح المعتمد بن عباد في أغمات مقارنة بالضريح المتواضع ليوسف بن تاشفين في مراكش وقد وصفته في مقال سابق. تقع دار المعتمد بن عباد هذه على ساحة حولها أرض فضاء من كل اتجاه، وقد بدت لنا وأشجار الزيتون حولها في منظر شاعري يليق فعلاً بشاعر وأمير. كان أمام بوابتها أمين عليها وهو حارسها يجلس على كرسي خارجها. وقبل أن ندلف إلى الداخل سألناه معجبين عن بناء هذه الدار على الضريح، فعلمنا منه أن الحكومة المغربية أنشأت هذا المبنى سنة 1970م، ولما سألناه إن كان هذا هو موقع الدار التي سجن فيها ابن عباد حتى وفاته، فلم يفدنا بشيء. ودخلنا من البوابة الكبيرة فكان على يسارنا غرفة يجلس فيها أمين الدار وبها عرض لمؤلفات عن المعتمد بن عباد ورسوم له يقال إنها نقلت من العملة النقدية التي سُكت في عهده، ويوجد دفتر لآراء الزوار وانطباعاتهم. ثم نخرج إلى فناء في وسطه نافورة على الطراز الأندلسي تقع تماماً أمام باب الحجرة التي يوجد بها الضريح. فلما دخلنا سلَّمنا سلام المسلم الحي على أهل القبور من المسلمين.

تحتوي هذه الحجرة على ثلاثة أضرحة مرتفعة قليلاً عن سطح الأرض بما لا يزيد عن 15 سم، ضريحان كبيران الأول للمعتمد بن عباد من جهة الواقف على باب الحجرة والثاني على الجهة المقابلة ضريح زوجته الحبيبة اعتماد الرميكية وبينهما ضريح صغير لابنه وكأنهما يضمانه بحنان.

لا تزيد مساحة هذه الحجرة عن خمسة أو ستة أمتار عليها قبة مصغرة هي نسخة من القبة المرابطية بمراكش، ونُقشت على الجدار المقابل لرؤوس أصحاب الأضرحة - عن يسارنا - أبيات حزينة للمعتمد في لوحات بارزة أهمها القصيدة التي رثى فيها نفسه، وطلب أن تُكتب على قبره، ومطلعها:

قبر الغريب سقاك الرائح الغادي

حقاً ظفرت بأشلاء ابن عباد

بالحلم بالعلم بالنُعمى إذا اتصلت

بالخصب إن أجدبوا بالريّ للصادي

بالطاعن الضارب الرامي إذا اقتتلوا

بالموت أحمر بالضرغامة العادي

وعند خروجنا قلت لأمين الدار - وهو رجل مثقف واع بالتاريخ -: يبدو أنه لم يبق في أغمات أثر يُذكر ويُزار للذكرى والعبرة إلا هذه الدار، وإلا فما الذي بقي من أغمات؟! فقال: تعرضت أغلب مكونات مدينة أغمات الأثرية إلى التدمير والاندثار، ولم يبق منها إلا جزء من السور والحمّام الكبير وبعض المساكن والقنوات المائية؛ ففي الجهة الجنوبية الغربية للموقع ترتفع بقايا سور مبني بالحجارة والطابية تمتد على حوالي مائة متر، ويتراوح سمكها ما بين 1.90م و2.80م، ونظراً لأهمية الموقع أجري مسح جيوفيزيائي أبان عن طبقات أثرية مهمة تبرز جلها الإمكانيات الهائلة التي يختزنها الموقع، إلا أن أهم ميزة لفضاء الموقع تتمثل في تخطيطه الذي ارتبط في كل مكوناته بالساقية الكبرى أو ساقية تاسلطانت التي تقسم الموقع إلى شطرين، وكذلك في وجود ثلاثة صهاريج مربعة الشكل وخطارات تؤكد الازدهار العمراني للمدينة ومكانتها كعاصمة لإمارة مغراوة وحاضرة لحوز مراكش.

ومع ذلك فلا يوجد في أغمات شيء يستحق الزيارة أكثر من المعتمد بن عباد، وهي زيارة للعبرة والاعتبار؛ فالمأساة التي شارك في صناعتها في عصره بالأندلس ما هي إلا صورة لما تعيشه أمتنا اليوم من فرقة وتناحر وضعف أمام العدو، وهذا ما حدث تماماً بعد انهيار الخلافة الأموية في الأندلس في أوائل القرن الخامس الهجري حيث انقسمت إلى دويلات صغيرة أعلن فيها كل أمير نفسه ملكاً عليها، عرفوا في التاريخ باسم (ملوك الطوائف)، ثم أخذوا بعد ذلك يحاربون بعضهم بعضاً بسبب خلافات على الحدود أو مطامع في التوسع، ووصل بهم الأمر إلى استعانة بعضهم بأعدائهم النصارى ضد إخوانهم. وكان أبرز ملوك النصارى في ذلك الوقت ألفونسو السادس الذي نجح في إقامة دولة قوية في إسبانيا بتوحيد قشتالة وليون وأصبح يتربص بجاراته الدويلات العربية المسلمة ويهددها؛ حتى اضطر ملوك الطوائف إلى دفع الجزية له وعقد المعاهدات معه، والاستعانة به في محاربة بعضهم بعضاً.

وكانت دولة بني عباد في إشبيليا التي يحكمها الشاعر الطموح المعتمد بن عباد (431 - 488هـ، 1039 - 1095م) أكبر هذه الدويلات الإسلامية، وملكها أشهر ملوك الطوائف وأقواهم؛ فقد استطاع ضم عدة ممالك مجاورة له أهمها قرطبة؛ حتى أصبحت مملكة إشبيليا قوة لا يستهان بها في جنوب الأندلس. ودار حوار بيني وبين زميلي المغربي د.خالد بن الحبيب الدادسي مفاده أنه كان بإمكان المعتمد وقد توافرت له القوة والمكانة والثراء حد الترف أن يوحد ممالك الأندلس المسلمة لمواجهة العدو المتربص بها، ولكنه انزلق إلى المنحدر نفسه الذي انساق إليه أبوه وجده من قبل، فهادن ملك قشتالة النصراني ورضي أن يدفع له الجزية من أجل أن يتفرغ للقضاء على الإمارات المسلمة المجاورة له بل ارتكب المعتمد أشنع أخطاء حياته حين وقع معاهدة سرية يتعهد فيها ألفونسو ملك قشتالة بإعانة المعتمد على محاربة إخوانه ملوك الطوائف والاستيلاء على أراضيهم بمقابل أن يترك ألفونسو يستولي على إمارة طليطلة المسلمة. وما درى المعتمد أنه سيقول بعد ذلك (أُكلت يوم أكل الثور الأبيض)!!

سقطت طليطلة بعد حصار قصير في غرة صفر 478هـ الموافق 25 مايو 1085م، وكان لسقوطها دوي هائل، وحزن عميق ساد العالم الإسلامي، وما سقطت بسبب ضعف في قوة المسلمين المادية هناك ولكن نتيجة ضعف إيمانهم وتقاتلهم فيما بينهم وتآمرهم مع عدوهم على بعضهم على بعض. وبعد سقوط طليطلة ركب ألفونسو الغرور وزادت جرأته على الممالك الإسلامية المجاورة، وبدأ يجتاح أراضيها ويخرب مدنها وأصبحت سرقسطة وبطليوس بل وإشبيليا نفسها مملكة المعتمد في متناول يده. واستيقظ ملوك الطوائف على هذه الحقيقة المهولة، وأدرك المعتمد بن عباد أنه أكثر ملوك الطوائف مسؤولية عن ما حدث، وأحس بفداحة غلطته وتقصيره في واجبه نحو دينه ووطنه وأمته. وأمام هذا الخطر الداهم الذي يهدد وجود الإسلام في الأندلس أجمع ملوك الطوائف أمرهم بقيادة المعتمد على الاستعانة بإخوانهم المسلمين في المغرب على الضفة الأخرى.

كانت دولة المرابطين الكبرى بقيادة مؤسسها العظيم يوسف بن تاشفين أكبر قوة ضاربة في العالم الإسلامي آنذاك، وكانت في أوج مجدها واتساعها، وما كان لزعيم إسلامي مثل ابن تاشفين أن يتوانى عن نجدة الوجود الإسلامي في أوروبا وتعزيزه، وهكذا عبرت جيوش المرابطين البحر إلى البر الإسباني وانضمت إليها قوات ملوك الطوائف بقيادة المعتمد الذي أراد أن يكفر عن خطيئته، والتحمت قوى الإسلام المتحدة في معركة ضارية مع جيوش الممالك النصرانية بقيادة ألفونسو السادس، وجرت المعركة عند سهل الزلاقة قرب مدينة بطليوس في 12 رجب 479هـ الموافق 23 أكتوبر 1086م حيث انتصر المسلمون انتصاراً ساحقاً، وأصبحت معركة الزلاقة من أيام الإسلام الخالدة هرب فيها ألفونسو جريحاً ذليلاً مع بقية قليلة من جنده، وأبلى المعتمد بن عباد في هذه المعركة بلاء الأبطال الصناديد، وقد اعترف له بذلك يوسف بن تاشفين نفسه أثناء قيادته للمعارك. ويرى المؤرخون أن هذا الانتصار أجَّل سقوط الأندلس أربعمائة عام أخرى!

وبعد هذا الانتصار العظيم عاد القائد المتقشف يوسف بن تاشفين إلى بلاده في ذهول واشمئزاز من مستوى الترف والعبث والحياة الناعمة التي كان يعيش فيها ملوك الطوائف، وأدرك أن ذلك سر تقاعسهم عن الجهاد وهوانهم أمام عدوهم، وأسرّ في نفسه أنهم إن لم يعتبروا بما حدث فلن يترك دولة الإسلام تقوض على أيديهم في الأندلس؛ ولهذا اضطر لعبور البحر مرة ثانية والعودة إليهم سنة 481هـ - 1088م بعد عامين من انتصار الزلاقة، فوجدهم قد عادوا لحياة المجون والترف والتناحر التي كانوا عليها، وهادنوا عدوهم مرة أخرى يتقربون إليه ليضربوا به بعضهم بعضاً، فاتخذ بينه وبين نفسه قراراً، ورأى أنه لا بدَّ مما ليس منه بُدَّ..

وفي سنة 483هـ - 1090م عبر يوسف بن تاشفين البحر إلى الأندلس للمرة الثالثة بجيش كبير فبدأ بمحاولة استعادة طليطلة من أيدي النصارى؛ فامتنعت عليه لقوة أسوارها؛ فاكتسح أراضي مملكة قشتالة النصرانية، واشتبك مع قوات العدو في معارك ضارية دون أن يتقدم أحد من ملوك الطوائف للانضمام إلى الجيوش المرابطية بعد أن عقدوا معاهدات مع ملك قشتالة بعدم التدخل؛ فكانوا بتلك المعاهدات التي خانوا بها دينهم وأوطانهم وأمتهم قد حفروا قبورهم بأيديهم، وأصبحوا في مواجهة يوم لا ريب فيه!!

لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 777 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد