Al Jazirah NewsPaper Saturday  10/05/2008 G Issue 13008
السبت 05 جمادى الأول 1429   العدد  13008
فقه تيسير الفتوى
عبد الله بن محمد السعوي

للفتوى كمفردة عاملة على تبصير الذهنية, وترشيد الوعي, وعلى إضاءة حقول الممارسة, قيمة حيوية فقد تولاها الله بذاته العليا {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ}ولذا فالمفتي في حقيقته يوقع عن الله،

وهذا ما حدا بابن القيم إلى عنونة كتابه ب(إعلام الموقعين عن رب العالمين)، ونتيجة لضخامة الدور الإرشادي الذي يباشره المفتي, فقد اشترط الأصوليون مع التوافر على الاجتهاد, شرطاً للمفتي إذا افتقده فهو ليس إلا ناقلاً لأقوال غيره من الاجتهاديين, وليس مفتياً بالمعنى الحقيقي للمفردة وبمفهومها الدلالي عند الأصوليين و(ابن عابدين) علامة متأخري الحنفية رحمه الله يؤكد على أنه (قد استقر رأي الأصوليين على أن المفتي هو المجتهد, فأما غير المجتهد ممن يحفظ أقوال المجتهد, فليس بمفتٍ, والواجب عليه إذا سئل أن يذكر قول المجتهد, كالإمام على وجه الحكاية, فعرف أن ما يكون في زماننا من فتوى الموجودين ليس بفتوى بل هو نقل كلام المفتي ليأخذ به المستفتي) انظر (التقرير والتحبير في شرح التحرير) ج3 ص247 ويقصد ابن عابدين بالإمام, أبا حنيفة رحمه الله. إن التيسير في الفتوى ركيزة محورية ومقصد أصيل في الشريعة الإسلامية, وابن تيمية رحمه الله يؤكد على أن قيمة التيسير في التشريع الإسلامي حقيقة ناصعة فكل (من تدبر الشرائع لا سيما شريعة محمد صلى الله عليه وسلم وجد هذا فيها أظهر من الشمس) انظر (درء تعارض العقل والنقل 8- 474) التيسير كمبدأ, يتجلى في التشريع الإسلامي في أنقى معانيه {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}ورفع الشارع الحرج عن الأعمى والمريض والأعرج {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}وقد رفع الحرج على المؤمنين في أزواج أدعيائهم {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ}وفي قضية الجهاد استثنت الشريعة الغراء الشريحة الواسعة من الضعفاء والمرضى فليس عليهم {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ}والسنة النبوية تفيض بألوان من مظاهر التيسير وتؤكد على توسله (يسروا ولا تعسروا, وسكنوا ولا تنفروا, والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ما خُير بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً) ويؤكد صلى الله عليه وسلم لأصحابه أنكم إنما (بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) والسلف الكرام بفعل وعيهم العميق لروح التشريع وطبيعة الحياة جسدوا هذا المبدأ على نحو رحب, وكانوا أكثر تجاوباً مع إملاءاته, وعمر بن إسحاق يقول (لَََمَن أدركت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما سبقني منهم فما رأيت قوماً أيسر سيرة ولا أقل تشديداً منهم) انظر (سنن الدارمي), باب كراهية الفتيا.

إن ثمة شأناً تجدر الإشارة إليه وهو أن التيسير لا يتماس مع الأطر الكلية والخطوط العريضة والثوابت البديهية التي تشكل البنية التحتية لهذا الدين والإمام (الشافعي) في كتابه (الرسالة) ص560 يؤكد على أن (كل ما أقام الله به الحجة في كتابه أو على لسان نبيه منصوصاً بيناً لم يحل الاختلاف فيه لمن علمه) وأما التفاصيل الفرعية والمسائل الجزئية والقضايا القابلة للتحوير فهذه تستهدف بالتيسير على نحو ينسجم وروح الدين وتوجهه العام وضمن مبادئه الكبرى وأصوله الراسخة. يقول الإمام الشافعي (وما كان من ذلك يحتمل التأويل ويدرك قياساً فذهب المتأول أو القايس إلى معنى يحتمله الخبر أو القياس, وإن خالفه فيه غيره لم أقل إنه يضيق عليه ضيق الخلاف في المنصوص) انظر (الرسالة) ص 560.

ويؤكد هذا المنحى الإمام (ابن القيم) رحمه الله حيث يقول: (الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمة: كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه, والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زماناً ومكاناً وحالاً, كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها فإن الشارع ينوع فيها بحسب المصلحة انظر (إغاثة اللهفان) ج1ص 330-331.

إن ثمة بواعث معينة يلزم من تموقعها الانتقال من التشديد باتجاه التيسير, والتحول من العزيمة إلى الرخصة, مثل عموم البلوى والجهل والنسيان والمرض والإكراه والسفر, كما أن ثمة مبادئ أشار لها الفقهاء والأصوليون يترتب على وجودها اعتماد التيسير واستدعاء أدبياته ومن أبرز هذه المبادئ:

أولاً: ارتكاب أخف الضررين, فإذا ما كان ثمة أمران أمام المرء والضرر قاسم مشترك بينهما, ولكن أحدهما أشد ضرراً فإن هذا يحتم مباشرة أقل الخيارين ضرراً لدفع أشر الشرين, كالتجافي عن مدافعة محظور تلافياً لحدوث محظور أشد منه نكراً.

ثانياً: ما يترتب على الفتوى, فالمفتي يتأمل في مآل فتواه ويضع في ذهنه دائماً أبعادها فإن تجلى له أن ثمة إفرازات عاملة في السلب تفادى إطلاق هذه الفتوى كما في امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن تحديث تشييد الكعبة على قواعد إبراهيم اتقاء لفتنة أعظم, قد تبدأ نذرها بالتشكل نتيجة لحداثة عهد قريش بالإسلام.

ثالثاً: المشقة, فإن المشقة تجلب التيسير, والإمام السيوطي في (الأشباه والنظائر) يفصل في ذلك انظر ص 80-81.

رابعاً: تغير الفتوى بتغير الزمان واختلاف المكان, الشأن الذي حدا بالإمام الشافعي إلى التحوير في توجهه المذهبي وفي متبنياته الفقهية بعد انتقاله إلى مصر وبات له مذهبان, مذهب قديم وآخر حديث و(ابن القيم) يقرر هذا فليلتمس في مظانه. إن ثمة محددات موضوعية لا مناص من توفرها في كل ممارسة فتوائية يراد من خلالها اعتماد التيسير يأتي من أهمها:

أولاً: التوافرعلى الأبعاد الدلالية بحسبها الضابط الأكبر الذي يورث الافتقار إليه فقها خداجاً لا يحتوي على بواعث منطقته. الضابط الدلالي هو الشرط الأول لصوابية الفتوى وموضوعية مقتضياتها.

ثانياً: ألا ينطلق المفتي في فتواه استناداً إلى وضعيات خاصة بوقائع معينة, فتعميم الحالات الفردية وجمهرة الصيغ الاستثنائية لا يسوغ من الناحية الشرعية, فعلى سبيل المثال ذلك الصحابي الذي أتاح النبي له فرصة الإدلاء بشهادته منفرداً واعتبارها, مع أن الأصل أنه لا يقبل إلا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين فهذه وضعية خاصة لا يجوز تعميمها بدعوى التيسير.

وصفوة القول: إنه لا بد من تنقية المشهد الفتوائي, وتقنين آليات التعاطي مع الفتوى, وترشيد المباشرة الإرشادية, وبالتالي الحد من هذا التهافت الفقهي الذي يضرب أطنابه في راهننا الحالي.



Abdalla-2015@hotmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد