Al Jazirah NewsPaper Saturday  10/05/2008 G Issue 13008
السبت 05 جمادى الأول 1429   العدد  13008
كيف أري ذاتي كأنثى؟
د. فوزية البكر

فتحت الباب ودخلت بخطواتها المتعثّرة .. عيناها تدوران في قلق بحثاً عن مكان جلوس مناسب لوضعيّة قلق المقابلات .. نظرت لها وحرّكت يدي في إشارة لمقعدها مع ابتسامة مشجعة لعلّها تزرعها ببعض الطمأنينة. بدت قلقة ومرتبكة تصارع عباءتها تحت إبطها وتشد بالأخرى على شنطتها الرخيصة الصّنع.

ما الذي يمكن أن يدور في خلد ذات الأربع والعشرين ربيعاً وهي تدلف إلى اللجنة المكوّنة من أربع من أستاذات الجامعة لمقابلتها وتحديد قبولها في هذا البرنامج التدريبي, أي قلق عاصف يمكن أن يقتحمنا جميعاً في موقف الغموض هذا.

جلستْ تضم ساقيها النحيفتين لبعضهما وشبح ابتسامة باهتة يكاد يتهاوى من شفتيها .. سألَتها أحداهنّ .. تفضَّلي وعرِّفي بنفسك .. وبالكاد بدأ صوتها بالتسلُّل لنا .. كقطرات مطر متقطّعة. خدّاها آخذتان في الاحمرار التدريجي، وأكاد أشعر باللهب يتسلَّق أذنيها .. حاولت إرسال نظرات مشجعة علّها تمنح بعض الطمأنينة، فتتمكن هذه الشابة المسكينة من التعبير عن نفسها بالطريقة التي تود أن تفعل، لكن كيف لها ذلك وكل جيوب القلق والارتباك، وعدم قبول الذات، يتوسّط ذاكرتها ويغذِّي الشعور بالقلق واللاجدوى في ما تراه لنفسها كذات متفرّدة.

- إنّها حالهنّ جميعاً .. غابة أعصاب قلقة مرتبكة تتعثّر في أول اصطدام بالناس أو الحقائق، بحيث لا تبدو أيٌّ منهنّ كما تحب أن تكون، أو كما هي في واقع الأمر، بل تظهر للعالم كمخلوق متفرّد ضعيف وهلامي لا يمتلك حدوداً شخصية واضحة، ويظل يعرف من خلال من يحيط أو يحمي ...

من الذي يصنع امرأة القلق هذه؟ من الذي يجعلنا كنساء نبدو بكلِّ هذا الهزال والتردُّد والقلق؟

أين هي كلُّ هذه الأحلام الوردية بامرأة الغد التي تقتحم المستقبل وتتخذ قرارها حين تكون بحاجة لذلك، وتتحمّل تبعات هذا القرار؟.

الكثير من الأسئلة تقتحمني وأنا أرى زهرات القلق والتردُّد متوجّسات وخائفات وهنّ يهرعن إلى الأقل خوفاً من التجربة، وهرباً من ارتياد المناطق المكشوفة، ثم أنهنّ يرضين بما يجود عليهنّ به الزمن لا بما تستحقه كلٌّ منهنّ .. هنّ قابعات في مناطق المحيط المريح، ليس حبوراً واكتفاءً وارتواءً بمنطقة الراحة، بل خوفاً من ذلك المجهول المدمّر والحكمة الأبدية تدق في الذاكرة الجمعية لهنّ (ظل راجل ولا ظل حيط) (كيف نقولها نحن هنا في نجد؟؟؟)

صفوف المنتظرات للوظيفة الحكومية بمئات الآلاف مهما تدنّي مستوى دخلها والاحتفاظ برجل عنيف أو مخمور ليعمر اسم البيت، أجدى من الخروج إلى العراء وإعلان حالة الاستقلال.

كيف حدث هذا دون أن ندرك خطر مفرداته؟؟

ما الذي يخلق حالة التدجين المثلي التي تبتزّنا حتى حدودها القصوى، وتخدّرنا عقلياً لنرى بعين الآخر ونقبل بذائقته؟ أهي هذه التربية الأنثوية منذ الصغر والتي تجرّدنا نحن النساء من حقنا الإنساني في تعلُّم الاستقلالية أو صناعة القرار إلاّ فيما ندر؟ أو هو عالم البنات الذي نربي في ظلاله وتحت أهم شعاراته: شعار الاعتماد وخاصة في صنع القرار على الرجل، ومن ثم يصعب على الكثيرات منا عند مواجهة نير الحياة الحقيقية اتخاذ القرار والاستقلالية، وها أنّ الكثيرات منا يقبلن في العيش تحت مظلّة الجحيم، والسبب أنهنّ لا يمتلكن القدرة على تحمُّل فكرة الاستقلالية ومسئولية الأولاد أو مسئوليات مالية أو البحث عن عمل .. الخ، أو حتى تحمُّل ضغط المجتمع في الفترة الأولى لمواجهة فقدان الظل!

أم هي الدونية في النظرة إلى الذات، مقارنة بالرجل والتي تتربى عليها الكثيرات من النساء منذ أن يولدن، فما يقول الرجل وما يفعل هو عين الصواب والحكمة وهو الرجل والسند، أمّا نحن النساء فمجرّد كائنات عاطفية هشّة قابلة لممارسة الخطيئة والضعف في أيّة لحظة إذا لم نحط بالحماية. الرجل هو صاحب القوامة لأنّه يمتلك من العقل والحكمة والقدرة على تدبُّر أمور الدنيا ما لا تملكه المرأة التي لها أن تكون عاطفية بقدر ما تشاء، طالما يصب ذلك في محيط العائلة، كما لها أن تصرخ وتدمع، لكن القرارات العقلانية والمالية شيء يؤول للرجل ويعود إليه وهو صاحب الخبرة والقوة والموكل بالحماية، وهكذا تظل قيم الغاب تسيطر على رؤية الرجل للمرأة ولدوره ولرؤية المرأة لنفسها، ولتؤكد هذه القيم وبشكل مثير للدهشة حضورها اللامتناهي في عالم اليوم، رغم أنّنا في واقع الأمر لم نَعُد بحاجة لقوة الرجل الجسدية لحماية المرأة من وحوش الغابة، كما كان الحال عليه في العصور الغابرة، كما أنّ المدنيّة منحت كلا الجنسين مكاناً آمنا للعيش وللاستمتاع بمنتجات الحضارة الإنسانية والمساهمة فيها، دون حاجة أيٍّ منا للسيطرة على الآخر، إذ هل نستطيع العيش دون الآخر؟ لكنها ثقافة المكان وثقافة التاريخ التي جعلت من المقبول بل من الممنهج أن يقيّم جنس بأنّه ذو طبيعة خاصة هشّة وضعيفة وغير عقلانية، كما أنّه قابل للخطيئة وهكذا وفي عالم مفعم بهذه القيم اللاإنسانية نحونا كنساء ويتم تشريبها لنا عبر مختلف مؤسسات التنشئة الاجتماعية، كيف يمكن لصورتنا حول ذواتنا أن تتشكّل بشكل إيجابي يمكننا من المقاومة أو الرفض أو الإحساس بالذات بشكل إيجابي .. كيف يمكن لنا أن نواجه عالم العمل الذي لم يَعُد آلياً ولا بسيطاً وبدا أنه بحاجة للمهارات الإنسانية العقلية والشخصية كأهم موارده؟؟؟ كيف نقدم أنفسنا بأحسن ما نملك، طالما أنّنا في الحق لا نعرف ماذا نملك، كما أنّنا لا نملك الأدوات التي تساعدنا على التعرُّف على بوصلة ذواتنا من الداخل؟

وكيف يمكن لنا أن نخلق أجيالاً واثقة من نفسها تعتزُّ بذواتها وتتمكن من استخدام إمكاناتها الشخصية والعقلية، إذا ما حرمنا كنساء ثم كمربيات من التعرُّف على مفهوم هذا الحق والإحساس به ونقله لأطفالنا، ولذا فلا غرابة أن نسبة من يعانون من الخوف الاجتماعي هي الأعلى في المجتمع السعودي وخاصة بين الرجال؟؟ يا للتناقض فها نحن نعيد خلق العملة من جديد ونعيد طبعها من خلال كل هؤلاء الذكور الذين نشرف على تربيتهم، فيخرجون في أحسن الأحوال معبئين بكل هامات القلق التي تتوسّط عالمنا كنساء وليكونوا أولى الضحايا لعالم قيم الدونية والانكسار النسائي الذي نرزح تحته! ألسنا نعيش العالم ذاته مهما حاول الكبار من الذكور نفينا خارج البُعد الإنساني لهذه الثقافة!




 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد