Al Jazirah NewsPaper Tuesday  13/05/2008 G Issue 13011
الثلاثاء 08 جمادى الأول 1429   العدد  13011
التكفير.. أصول وضوابط! (1 - 2)
د. سعد بن عبد القادر القويعي

يعتبر التكفير حكماً من الأحكام الشرعية، وهو حق محض لله سبحانه، لا ينبغي لمسلم أن يخوض فيه من غير بينة ولا برهان، فلا يطلق على معين إلا بضوابطه الشرعية إذا اجتمعت فيه الشروط وانتفت في حقه الموانع. والمتأمل في كلام علماء الإسلام الأوائل يجد تمسكهم أولاً بالنصوص الشرعية في تحديد ضابط ماهو كفر وما ليس كذلك،

وتمسكهم ثانياً في تحديد شروط وموانع تكفير المعين، بل ومعرفة طرقهم في كيفية تنزيل الأحكام المطلقة على المعينين. وقد ورد الوعيد الشديد في حق من كفر مسلماً، كما في الحديث المتفق عليه: (من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما). وفي رواية مسلم: (إن كان كما قال وإلا رجعت عليه). قال النووي - رحمه الله - (1- 238): (معناه فقد رجع عليه تكفيره، فليس الراجع حقيقة الكفر، بل التكفير، لكونه جعل أخاه المؤمن كافراً، فكأنه كفر نفسه، إما لأنه كفر من مثله، وإما لأنه كفر من لا يكفره إلا كافر يعتقد بطلان دين الإسلام). وقال الحليمي - رحمه الله -: (إذا قال ذلك مسلم لمسلم، فهذا على وجهين: إن أراد الدين الذي يعتقده كفر، كفر بذلك. وإن أراد أنه كافر في الباطن ولكنه يظهر الإيمان نفاقاً، لم يكفر. وإن لم يرد شيئاً لم يكفر، لأن ظاهره أنه رماه بما لا يعلم في نفسه مثله. ولكنه يبوء بإثم هذه التكفيرة).

إن قضية التكفير بغير دليل قضية لها جذورها عند أهل الملل والنحل في تاريخ الطوائف الإسلامية، بل هي أول البدع ظهوراً في تاريخ المسلمين. كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - (13 - 31): (ولهذا يجب الاحتراز من تكفير المسلمين بالذنوب والخطايا، فإنها أول بدعة ظهرت في الإسلام، فكفر أهلها المسلمين، واستحلوا دماءهم وأموالهم). فكانت قضية التكفير سمة ظاهرة وعلامة بارزة للخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وكان ذلك في شهر رمضان من السنة السابعة والثلاثين من الهجرة إثر تحكيم الحكمين في موقعة صفين، فأنكروا عليه هذا، وكفروه والحكمين، ومن رضي بالتحكيم، فهم أول من أظهر التكفير بالكبيرة. ثم الرافضة، فكفروا خيار الأمة وهم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، واعتقدوا ردتهم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - (28 - 477): (الرافضة كفرت أبا بكر وعمر وعثمان، وعامة المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وكفروا جماهير أمة محمد من المتقدمين والمتأخرين. فيكفرون كل من اعتقد في أبي بكر وعمر، والمهاجرين والأنصار العدالة، أو ترضى عنهم كما رضي الله عنهم، أو يستغفرون لهم كما أمر الله بالاستغفار لهم، ولهذا يكفرون أعلام الملة... ويرون أن كفرهم أغلظ من كفر اليهود والنصارى، لأن أولئك عندهم كفار أصليون، وهؤلاء مرتدون، وكفر الردة أغلظ بالإجماع من الكفر الأصلي). ثم انتقلت بدعة التكفير إلى القدرية والجهمية وغيرهم.

والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض، لا تحل إلا بإذن الله وإذن رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولما خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صحابته - رضي الله عنهم - في حجة الوداع كما في الحديث المتفق عليه قال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا). وفي رواية مسلم: (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه).

إذن، فالأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة تدل على الترهيب والتحذير من إطلاق التكفير والتفسيق على المسلمين من غير بينة ولا برهان. فالأصل بقاء المسلم على إسلامه وعدالته حتى يتحقق زوال ذلك عنه بمقتضى الدليل الشرعي، ولا يجوز التساهل في تكفيره وتفسيقه. ذلك أن تكفير المعين وتفسيقه عند أهل السنة والجماعة مبني على أمرين مهمين(1):

أحدهما: دلالة الكتاب والسنة على أن هذا القول أو الفعل موجب للكفر أو الفسق. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - (5- 454): (قال الإمام أحمد - رحمه الله - فإن الإيجاب والتحريم، والثواب والعقاب، والتكفير والتفسيق هو إلى الله ورسوله، ليس لأحد في هذا حكم، وإنما على الناس إيجاب ما أوجبه الله ورسوله، وتحريم ما حرمه الله ورسوله، وتصديق ما أخبر به الله ورسوله). وقال - رحمه الله - (12 - 525): (والكفر هو من الأحكام الشرعية، وليس كل من خالف شيئاً علم بنظر العقل، يكون كافراً ولو قدر أنه جحد بعض صرائح العقول لم يحكم بكفره حتى يكون قوله كفراً في الشريعة).

فإن لم يقم الدليل على تكفير الشخص المعين، كان هذا من افترء الكذب على الله - تعالى - في الحكم، وعلى المحكوم عليه في الوصف الذي نبزه به. فتكفير المسلم كتحريم ما أحل الله - عز وجل -. قال تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

الثاني: انطباق هذا الحكم على القائل المعين أو الفاعل المعين بحيث تتم شروط التكفير أو التفسيق في حقه وتنتفي الموانع. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - (10- 372): (فإن نصوص الوعيد التي في الكتاب والسنة، ونصوص الأئمة بالتكفير والتفسيق ونحو ذلك، لا يستلزم ثبوت موجبها في حق المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفعت الموانع). وقال - رحمه الله - أيضاً (28 - 500): (لكن تكفير الواحد المعين منهم والحكم بتخليده في النار موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه، فإنا نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد، والتكفير والتفسيق، ولا نحكم للمعين بدخوله في ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضي الذي لا معارض له). وقال ابن أبي العز الحنفي - رحمه الله - (2 - 436): (وأما الشخص المعين: إذا قيل: هل تشهدون أنه من أهل الوعيد، وأنه كافر؟ فهذا لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة، فإنه من أعظم البغي أن يشهد على معين أن الله لا يغفر له، ولا يرحمه، بل يخلده في النار، فإن هذا حكم الكافر بعد الموت... ولأن الشخص المعين يمكن أن يكون له إيمان عظيم وحسنات أوجبت له رحمة الله، كما غفر للذي قال: إذا مت فاسحقوني ثم ذروني، ثم غفر الله له لخشيته وكان يظن أن الله لا يقدر على جمعه وإعادته، أوشك في ذلك).

يتبين مما سبق: أن التكفير حكم شرعي، وهو حق محض لله سبحانه وتعالى لا يكون إلا لأهل العلم الراسخين فيه، القادرين على استنباط الحكم الشرعي من النصوص الشرعية، فيراعون اجتماع الشروط وانتفاء الموانع. قال الإمام الشافعي - رحمه الله - (508): (ولم يجعل الله لأحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول إلا من جهة علم مضى قبله وجهة العلم بعد الكتاب والسنة والإجماع والآثار وما وصفت من القياس عليها. ولا يقيس إلا من جمع الآلة التي له القياس بها وهي: العلم بأحكام كتاب الله فرضه، وأدبه، وناسخه ومنسوخه، وعامه وخاصه، وإرشاده).

والمتأمل في كلام علماء الإسلام الأوائل يجد الإنصاف والمناقشة للرأي مع كثرة ردودهم على مخالفيهم، فتجدهم يصرحون بأنهم أبعد الناس عن التكفير، ويقعدون أن المخطئ في العقيدة المتأول غير آثم بل قد يجعلون له أجر الاجتهاد الخاطئ. كل ذلك لما يترتب على التكفير من الأحكام الكثيرة في الدنيا والآخرة، كاستحقاق القتل وعدم الميراث وتحريم الصلاة عليه والدعاء له وتغسيله وتكفينه وعدم دفنه في مقابر المسلمين، إضافة إلى استحقاقه وجوب اللعنة والغضب والطبع على القلب وحبوط الأعمال والخزي والعار وعدم المغفرة، ثم هو في الآخرة من المخلدين في النار أبد الآبادين في عذاب من رجز أليم.

(1) حكم تكفير المعين، تأليف: الحسن الضمدي. دراسة وتحقيق: محمد الديباجي.



drsasq@gmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد