Al Jazirah NewsPaper Tuesday  13/05/2008 G Issue 13011
الثلاثاء 08 جمادى الأول 1429   العدد  13011
من إسرائيل المتوسطة إلى فلسطين المتوسطة
فاتيا أوز - سالز بيرغر

حيفا - يتحدث الأميركيون عن (أميركا المتوسطة) ويتحدث البريطانيون عن (إنجلترا المتوسطة). وكل منهما مكان خيالي من المفترض أن يجسد الشخصية الحقيقية للأمة. إسرائيل أيضاً لديها (إسرائيل متوسطة)، إلا أنها تختلف تمام الاختلاف عن المكان الذي يصفه الأميركيون والبريطانيون. فبدلاً من أن تكون محلية بعض الشيء، تتسم إسرائيل المتوسطة بمستوى التعليم الجيد، وثنائية أو تعدد اللغات، والارتباط الشديد ببقية العالم الأكثر اتساعاً. وهي التي زودت إسرائيل بالنجاحات التي تمتعت بها طيلة العقد الماضي في مجال التكنولوجيا المتطورة. إن إسرائيل المتوسطة علمانية في الأغلب، رغم أنها تشتمل على المتدينين المعتدلين. وهي ليبرالية، وتحتقر أي شكل من أشكال التعصب، سواء كان دينياً أو قومياً. وهي تقوم على ثقافة قوية وراسخة قانوناً (وأن لم تكن كاملة) من المساواة بين الجنسين، وهي الثقافة التي جسدت الصهيونية منذ بداياتها الأولى. وإسرائيل المتوسطة متفتحة في التعامل مع المثليين أيضاً ولا تعاني من مرض كراهية الأجانب بكل تأكيد. وهي في أغلبها يهودية، رغم الجيل الشاب من العرب المؤهلين الذين يتخرجون الآن في الجامعات ويشقون طريقهم - بصعوبة - نحو قلب المجتمع المدني. ولا ينبغي أن ننسى أن إسرائيل المتوسطة تكسب المال وتدفع الضرائب التي تدعم مجموعة عريضة من التقليديين، والأصوليين، والمغالين في الوطنية، وغيرهم من المتطرفين - من اليهود والمسلمين - من غزة إلى القدس إلى الضفة الغربية. وهذه الأغلبية الصامتة لا تحظى بالتمثيل الوافي في الكنيست لأن أفرادها لا يميلون إلى امتهان السياسة. وهي أغلبية أضخم من أن نعتبرها صفوة أو نخبة. ولا يعيش أفرادها في المناطق الحضرية فقط، وهي تشتمل على أفراد ينتمون إلى أصول ثقافية مختلفة وتتمتع بهوية مشتركة قوية، وذاكرة مشتركة، وثقافة خصبة. وهي لا تتسم بالانطواء على الذات أو التعلق بالماضي. يتمنى بعض الفلسطينيين لو يحظون ذات يوم بشيء شبيه بإسرائيل المتوسطة. فهم أيضاً يحبون الحياة، والإبداع، بل وحتى الابتهاج بأن تكون لهم اليد العليا. وهم أيضاً يودون لو تكون الغلبة للحداثة والمعاصرة، ولكن ربما ليس للعلمانية الكاملة. وهؤلاء الفلسطينيون هم الحلفاء الطبيعيون لإسرائيل المتوسطة.

كثيراً ما يسألني أصدقاء أوروبيون وأميركيون عن السبب الذي يجعل جامعاتنا تعج بأنصار (ما بعد الصهيونية) الكارهين لأنفسهم والمناهضين لإسرائيل. ولكن هذا غير صحيح. إذ إن مسألة ما بعد الصهيونية ليست أكثر من مجرد وهم مبالغ في تضخيمه، وهو مصطلح انتشر في منتصف التسعينيات، حين بدا قادة إسرائيل وفلسطين وكأنهم يؤسسون لعملية سلام حقيقية، فشرع الإسرائيليون في بناء فرضية (نهاية التاريخ)، التي اقترحت أن الصهيونية سوف تصبح في القريب العاجل شيئاً من الماضي، لأن الحاجة سوف تنتفي في المقام الأول إلى أي إيديولوجية لدعم الكيان الذي سيتحول إلى دولة معاصرة طبيعية، تنعم بالسلام مع جيرانها وتتعايش مع جراح الماضي. في ذلك الوقت بدأ المؤرخون وعلماء الاجتماع في تعديد (خطايا) الصهيونية المفترضة - على سبيل المثال، أن المواطنين الإسرائيليين من أصل عربي لم يتمتعوا قط وحتى يومنا هذا بحقوق مدنية متساوية. وشرع آخرون في دراسة الجرائم التي ارتكبت ضد الفلسطينيين في أعقاب حرب الاستقلال التي خضناها دفاعاً عن النفس. ولقد أنكر العديد من الناس هذه الحقائق، بينما واجهها كثيرون غيرهم بشجاعة وجرأة. أما نحن الذين لم نكن ننتمي لبدعة ما بعد الصهيونية، ولكننا كنا من الصهاينة الليبراليين، فقد كنا فخورين بانتقال مجتمعنا إلى هذا الطور من مراجعة النفس وانتقاد الذات.

إن المشكلة الأكثر خطورة التي تواجه إسرائيل المتوسطة تتمثل في المعضلة الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة المتأزم. لقد ارتكب زعماؤنا من ليفي أشكول إلى إسحاق شامير (وخاصة غولدا مائير) خطأً فادحاً حين لم ينتهزوا أول فرصة ممكنة للترتيب لفصل الأرض ومنح فلسطيني ما بعد 1967 أفق السيادة على أراضيهم. وارتكبوا خطأً فادحاً حين سمحوا للمستوطنين اليهود ببناء المستوطنات كما يحلو لهم على الأرض المذكورة في الكتاب المقدس، بينما تغافلت إسرائيل المتوسطة عن الأمر. كما ارتكبوا خطأً فادحاً آخر - وهو الخطأ الذي نادراً ما يعترف به أحدهم - حين ثبطوا همم الفلسطينيين المعتدلين من الطبقة المتوسطة، فأرغموا أغلبهم على الهجرة من المناطق المحتلة، فخلفوا وراءهم جيلاً من الشباب الجاهل الجائع الغاضب. ولكن ثمة حلا للصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وهو حل جغرافي يتلخص في تقسيم الأرض وفصل المناطق التي تشتمل على تسويات مؤلمة لكنها ممكنة بالنسبة لكل من الطرفين. وبموجب هذا الحل يتم تقسيم القدس، ولكن اللاجئين الفلسطينيين لن يعودوا إلى ديار أسلافهم، أما المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، فسوف يتم تفكيكها كما حدث في غزة، أو يُترَك أهلها ليتدبروا أمورهم بأنفسهم (وهو أمر لا يمكن تصوره).

مما لا شك فيه أن المتطرفين سوف يكرهون هذا الحل. إلا أن المعتدلين - كل المعتدلين - سوف يقبلونه، ولو على مضض. وإذا ما فاز المعتدلون فلسوف تنشأ (فلسطين متوسطة) أخيراً، فتصبح موازية لإسرائيل المتوسطة، رغم أنها قد لا تصادقها أو تشعر بالارتياح إزاءها في مستهل الأمر. ولسوف تكون فلسطين بهذه الهيئة بمثابة النبأ الأفضل منذ أمد بعيد بالنسبة للشرق الأوسط. وفي الوقت الحالي، يتعين علينا في إسرائيل المتوسطة أن نكبح جماح المتطرفين بيننا وأن نساند الفلسطينيين المعتدلين حتى تكون لهم الغلبة.

فانيا أوز - سالزبيرغر كبيرة محاضري مادة التاريخ ومديرة منتدى بوسن لبحوث الفكر السياسي بكلية الحقوق بجامعة حيفا، وأستاذة كرسي ليون ليبرمان في الدراسات الإسرائيلية الحديثة بجامعة موناش. ومن بين مؤلفاتها كتاب (ترجمة التنوير) وكتاب (إسرائيليون في برلين).

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2008م.
خاص بالجزيرة



 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد