Al Jazirah NewsPaper Tuesday  20/05/2008 G Issue 13018
الثلاثاء 15 جمادى الأول 1429   العدد  13018

بِالْفَخِّ أَكْبر من لبنان
د. حسن بن فهد الهويمل

 

هذا مثل ليس عربياً ولا مولداً، استبدلنا فيه (لبنان) ب(العصفور) ونصه (بِالْفخِّ أَكْبر من العصفور) وهو مثلٌ يتداوله (النجديون) ويُضرب لمن كان يهتم بأمر شغل عنه بما هو أكبر منه، وإشكالية لبنان من خارج جغرافيته،

وذلك بيت القصيد. ولقد تذكرت المثل وأنا أتابع أحداث لبنان المخجلة والمفزعة في آن، وأرصد المواقف العربية الجاد منها والمتخاذل، الخائف والحذر، الضالع في الخطيئة، والمعتم على الحقيقة.

وقدر لبنان العصيب أن يكون مسرحاً للمزايدات الرخيصة والمؤلمة. والمؤتمرون من أجله تشدهم مصالح وتثبطهم محاذير، فألسنة مقطوعة، وأفواه مليئة بالماء، وثالثة لا تدري ما السياسة ولا اللعب، وأخرى مسيرة لا مخيرة، ولو صدقوا ما عاهدوا الله عليه لحسمت القضية في ساعة من نهار، ولو عن طريق القرارات التمريرية، غير أن الاتقاء والمداراة والخوف، تغري اللاعب المقنّع بفرض إرادته، وتمرير مشروعه عبر مخالب القطط.

ومثلما تمتلئ ساحات لبنان وطرقاته بالمدججين والمدربين، ومثلما تخترق القذائف أجواءه على حين غفلة من أهله، تسرح الأقلام، وتمرح الألسنة، وتتطاير الصحف في قضاياه المصيرية من كل الأطراف والأطياف، وكل يدعي وصلاً بالحقيقة وتلبساً بالحيادية، والحقيقة والحياد لا يُقرَّان لأحد بشيء، وكلٌّ واضع يده على الزناد يرى أنه صاحب الحق المطلق، وكل مُجْرٍ قلمه على الصفحات يرى أن قوله الفصل الذي لا معقب له، وتمضي الأيام ويمضي معها المقاتلون والمتحدثون، يُثْخِنُ أولئك في الأرض ويُوْغِر هؤلاء الصدور، ويظل لبنان رهين مكتسبات أبنائه الذين رضوا أن يبيعوه بثمن بخس، وأن يكونوا فيه من الزاهدين. ولو أنهم صانوا عرضه وأرضه والتقوا على كلمة سواء، لصان أمنهم، وحفظ كرامتهم، وحقق حريتهم، ومكنهم من عيشتهم الراضية، ولكنهم أذلوه وبذلوه لذوي الأطماع والنوايا السيئة، فهانوا على الناس وطمع فيه من لا يراعي فيهم إلاًّ ولا ذمة، ودفعوا ثمن الأخطاء من الأمن والدماء.

وهذه المتاجرة بالأرض والكرامة مؤذنة بسن دستور جديد تذل به الأكثرية وتتسلط به الأقلية، ثم لا يتحقق عدل ولا مساواة:

(ومن يهن يسهل الهوان عليه

ما لجرح بميت إيلام)

وكلما غرق المختصمون لصالح الخير في حمامات الدم، استغاثوا بمن أبان لهم نصحه من أول يوم، ولم يستبنوه ولا في ضُحى الغدِ، وحين تحقن الدماء وتضمد الجراح وتزال الأنقاض ويعاد الإعمار، يعودون لما نهوا عنه بفعل فاعل يحلو له أن يوقد نار الفتنة بين أبناء الوطن الواحد، وهو الأحق من لبنان بتوجيه الأنظار إليه (ومن قصد البحر استقل السواقيا) وكأن اللبنانيين بهذه الاستجابات غير الواعية مشروع فتنة عمياء، لا تخبو حتى يبدو خَلَلَ رمادها وميضُ نار، والمتفائلون بنجاح الوساطة نسوا بأن الجراح سترم على فساد وأن ثمن الصلح ستشحذ فيه الدمى. ولبنان بلد الجمال والجلال والرجال والطبيعة الحالمة يتحول بفعل أبنائه إلى زرائب وخرائب وأطلال، تهاجر منه الأدمغة، ويهجره السائحون، وترحل منه رؤوس الأموال ويخلو للخلايا الإرهابية، تحاك فيه المؤامرات، وتصفى فيه الحسابات، لا تُشَمُّ فيه إلا رائحة البارود، ولا يُسمع فيه إلا أزيز الرصاص، ولا تُرى فيه إلا الوحدة العابسة المتربصة.

والمؤتمرن بمعروف لإنقاذ ما تبقى منه يندسُّ فيهم من لا يستقيم أمره إلا على شفى جرف هار، والقابلون لكل عارض يلومون الانبعاث الطائفي والغزو العنصري والتصدير الثوري، ولكنهم حين يتأكدون لا يعزمون، وتردي الأحوال في لبنان كما الأوبئة المعدية، لا تصيبن الذين أشعلوا الفتيل خاصة، ولو كان بالإمكان حصر الشر في أرضه لأكلت النار بعضها وخمدت، ولكن ما يقع في لبنان كما شكوى العضو يتداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، والتركيبة اللبنانية حساسة ولا يمكن أن تستقيم بتدخل خارجي، وإحداث أي خلل في دستورها أو قانونها إتيان للبنيان من قواعده، والطامعون يعرفون من أين يؤكل لبنان، والأمة العربية بحاجة ماسة إلى احتواء الفتنة، ولن يتأتى الاحتواء إلا بضمان كف الأيدي الخارجية من تحريك الدمى على مسرح الأحداث، ولن تكف حتى تواجه بصريح العبارة.

وما لم تعِ الأمة المشكلة على حقيقتها، وتواجه قدرها بشجاعة وصراحة تكن معرضة لذيولها، وأخشى أن تقول عند عتبة المقصلة: (أكلت يوم أكل الثور الأبيض). وضعف الوعي والمناعة مبعث كل شر، وما سقطت الخلافة الإسلامية، وما ضاعت الأندلس إلا من بعد ما تفرقت وجهات النظر، وأصبحت الشعوب مسلوبة الإرادة واستعان المصطرعون بمن فرق ليسود وأوهن ليهيمن، والغزو والتآمر وتصدير الثورة والطائفية وحكم الأقلية جراثيم لا تعيث فساداً إلا بمن عنك قابلية، ولديه ضعف في المناعة والشعوب حين تستخف بالشرعية وتجهض المرجعية وتتعرض للفراغات الدستورية، تكون كالقطيع في المفازات المُسْبعة و:

(لا يلام الذئب في عدوانه

إن يك الراعي عدو الغنم)

ولبنان وإن تنازعته النوايا المبيتة والأطماع الطائفية، لم يكن أسوأ حالا من دول عربية غرقت في دوامة الفتن، وهي الأعمق أرضا، والأكثر مالا، والأعز نفرا، لقد عاثت بها اللعب القذرة فساداً، وداؤها من أبنائها الذين رضوا أن يكونوا ثائرين لوجوه شيطانية نتبادل الأقنعة وتخادع المغفلين:

(ولو كان سهماً واحداً لاتقيته

ولكنه سهم وثان وثالث)

وتفكيك الأوضاع اللبنانية تتكشف عن سوءات وسيئات تعري أطماعاً طائفية قد لا يجرؤ المؤتمرون على مواجهتها بالقول الفصل، فضلاً عن التصدي لها بالفعل الناجز، والحوْم حول بؤر التوتر دون قطع لدابرها، يكسبها الاستشراء والمناعة ويغري الطامعين بالإيغال في الفتنة، وإذا كان الدستور اللبناني قد وزع الكراسي والحقائب، وعرف كل حزب ودين وعرق وطائفة قسْمه ورضي به فما الذي حرك الأحزاب والطوائف؟ - وما الذي أسال الدماء ولم تتذكر القُرْبى لتذرف الدموع؟

إن على المؤتمرين أن يأطروا المنشقين على الدستور بالدستور. وإذا راوغ المستفيدون من التمرد وتردي الأوضاع وتعطيل الدستور بالاستقالات وماطلوا وباركوا الانبعاث الطائفي فإن مثل هذا متوقع من هذه الفئة، ولكن المراوغة والمباركة ممن لا يملك عمقاً جغرافياً ولا كثافة بشرية ولا ثقلاً سياسياً وليس هو في العير ولا في النفير تكون مراوغته مثار استياء وتساؤل، وتثوير الدوافع تبدي هي الأخرى سوءات وسيئات، وقد تكون الموالاة لإثبات الذات أو لصرف النظر عن تصرفات لا تحتمل ولله في خلقه شؤون.

إن مواجهة الذات بما هي عليه أحق من مواجهة الغير بما اقترف ولو أن الأمة العربية واجهت المسيء بإساءته لكان أن حسمت المشاكل في مهدها وأجهضت الأجنة المشوهة في رحمها، لقد عانت الأمة العربية من الثورات والرعناء، وتجرعت مرارة تصديرها، وهي اليوم تواجه ما هو أخطر من ذلك، إنها تواجه الانبعاث الطائفي، لقد انطفأ الوهج الثوري وأثبت فشل خطاباته كلها الوحدوية والقومية والاشتراكية، وتفاءلت الشعوب التي تدفع فواتير العنتريات، وها هي اليوم تستيقظ على خطابات جديدة، ولا سيما أنه انبعاث الأقلية، ومثل هذا الانبعاث جرح لا يندمل ونزيف لا يغور، وفرصة مواتية للإمبراطوريات القائمة والحالمة.

وأبناء لبنان: من سنة وشيعة ودروز ونصارى وأحزاب ضالعة في الخطيئة كأمل وحزب الله، ومترددين لا يدرون ما للاعب المتقنع فاعل بهم كجماعة المستقبل واللقاء الديموقراطي والتجمع الماروني والجماعة الإسلامية والتابعين للضالعين كجماعة المردة والحزب القومي السوري والحزب الشيوعي والمنشقين من السنة، والحياديين كقيادة الجيش الخائفة من الفلتان كل أولئك يقتسمون المسؤولية عن تردي الأحوال فمن مُقِل ومن مكثر، والمقترفات كالدركات فالدرك الأسفل يحتله حزب الله، ومن معه ممن وجهوا فوهات المدافع والرشاشات إلى صدور الآمنين من الشعب اللبناني الأعزل وأرادوا فرض إرادة اللاعب الأكبر بالقوة والأمة العربية بوصفها نظارة أمام مسرح العرائس لم تحسم أمرها، ولم تحدد موقفها، فهي إن جدَّت قتل اللاعب الرهينة وما هي إلا الشعب اللبناني وإن ترددت فرض اللاعب إرادته وحقق مشروعه، وكلا الخيارين مُرٌ على حد:

أوَّاه إن نظرت وإن هي أعرضت

وَقع السهام ونزعهن أليم

والحل الأمثل أن تكون المواجهة للأصابع الخفية التي تمد وتدرب وتدير وللمتواطئين معه، فإما أن يرفع يده، وإما أن يسحب العرب مجتمعين أيديهم من يده ليضعوه أمام مسؤوليته، ومتى كُفَّت الأيدي عن قصعة لبنان الشهية شبع أبناؤها ومن حولهم فهو بلد الخيرات والكفاءات، ولو ترك وحاله لكان البلد الودود الولود.

فهل يملك العرب الثقة والشجاعة ويقولون بصوت شجاع: دعوا لبنان للبنانيين.

لقد قالها (سعود الفيصل) ولكن اليد الواحدة لا تصفق.

لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5183 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد